"مازال العمل باقياً، والاسباب مستمرة، وتعيش الأمال ولا تموت الأحلام أبداً." الراحل إدورد كيندي عضو مجلس الشيوخ الامريكي. مقدمة: في الذكري الخامسة لرحيل والدي الاستاذ حسين شريف، الرسام التشكيلي المبدع والمخرج السينمائي الذى سخر الكاميرا لترسم ابدع اللوحات الفنية، والشاعر الذى اتحفنا بقصائد رائعة، وان كانت قليلة. كتب الوالد السفير جمال محمد ابراهيم مشكورا في جريدة الاحداث بتاريخ 21/1/2010، عن الراحل وتساءل عن مصير الفيلم الوثائقي داؤود الذي يوثق حياة احد عمالقة الفن السوداني الاستاذ عبد العزيز محمد داوؤد. وبما أن هذا الفيلم يؤرخ فترة هامة للفن والغناء السوداني، وشارك في إعداده ثلاثي عبقري، قل أن يجود الزمان بمثلهم، ألا وهم الراحل ابو داوؤد والبروفيسور الأديب علي المك، وحسين شريف.، رأيت ان أسرد سرداً تاريخياً عن الفيلم وفكرته، من شارك فيه ومن ثمّ نقف علي وضعه الحالي. قصة فيلم داؤود: فيلم "داؤود" هو أحد مشاريع المخرج السينمائي حسين شريف الفنية، التي لم يستطع إكمالها في حياته. و"داؤود" فيلم وثائقي يحكي عن السيرة الذاتية لأحد رواد الفن السوداني عبد العزيز محمد داؤود (المعروف بأبي داؤود). الفيلم عمل فني يجمع بين ثلاثة من أكبر الفنانين السودانيين في عالم الموسيقى والأدب والسينما: الاستاذ عبدالعزيز داؤود، بروفيسور علي المك والأستاذ حسين شريف. ويروي علي المك في كتابه عن داؤود: "جاءني عبد العزيز يوما في الجامعة كدأبه، وقال لي أنه يريد أن يسجل شريط فيديو يقدم فيه بعض اغنياته، كان ذلك في مطالع عام 1984، قال إأنه يريد أن يعطي للناس شيئا لم يألفو،ه إذ هم قد سئموا أن ينظروا إلى التلفزيون يستمعون إلى مغن تعزف خلفه الأوركسترا دونما تعبير أو حركة أو تغيير، حمدت له حماسته، ثم قلت له إن الشخص الوحيد، الذي يقدر على هذا الأمر هو حسين شريف، كان حسين شريف يود عبد العزيز ودا كثيرا، وحين مرض حسين مرة مرضا شديدا ألزمه الفراش زمانا، كان عبد العزيز يصحبني إليه، ويصعد إلى غرفته ويغني له كل مرة أغنيته المفضلة (امتى أرجع لامدر وأعودا)، ويطرب حسين كل حين يتقافز طربه بين آلامه الموجعة. وتحمس حسين للفكرة كأنه كان ينتظرها، وكلفني أن أعد كلاما، هو بالأساس رأي عبد العزيز في أمور الفن والغناء، وجاء دور الكاميرا لتسجل له هذا الكلام." ويشرح علي المك في ذات الكتاب عن دوره في فيلم ابو داؤود قائلا: " أشركني حسين في هذا المجد، ماذا أقول، ماذا أكتب إذن؟ جاء الإلهام مرة واحدة شيدت كلامي كله الذي كتبته للفيلم الموعود من صلتي بعبد العزيز التي بلغت آنذاك بضعا وعشرين سنة." فقد كان قلم علي المك من أرقى الاقلام، فهو أديب عرف بابداعه في توصيل المعلومة ويوصف الكاتب والصحفي الاستاذ احمد ضحية اسلوب علي المك بأنه: " اذ يجد نفسه لا يقرأها بقدر ما هو يعيشه، فمن خلال نصوص علي المك، بصياغاتها اللغوية ذات العالم الخاص، والنظام اللغوي الاكثر خصوصية، في ترابطاته وعلاقاته الخاصة. بسبب ان اللغة عند المك تختلف، عن اللغة النمطية التي تجعل هدفها الاساسي التوصيل والابلاغ - فلقصة علي المك خصوصيتها." ولم تكن هذه أول مرة يستعين فيها حسين شريف بصوت أبو داؤود فقد استخدم صوته في عملين من أعماله السينمائية السابقة: "إنتزاع الكهرمان" و"النمور أجمل". لذلك كان حسين متحمساً لخلق نمطٍ جديدٍ لتوثيق أعمال المطرب عبدالعزيز داؤود الذي كان يحبه ويقدره كثيراً. وفي بداية عام 1984 بدأت رحلة الثلاثي بهدف رسم لوحة تشكيلية يختار ألوانها أبو داوؤد بصوته الدافئ، وينظم ايقاعها علي المك بكلماته السلسة، وينسق ألوانها حسين شريف بإخراجه المبدع. كانت تجمع هذا الثلاثي، رابطة قوية جداً مبنية علي الصداقة والاحترام والمحبة، فهي روابط بلا شك أساس كل عمل مشترك وتسهم في انجاحه. بدأ تصوير الفيلم في منزل أسرة حسين شريف بودنوباوي في أم درمان، ويروي علي المك: " كان عبد العزيز يحدث الكاميرا والمايكرفون بكلام هو خلاصة أحاديث رواها لي، قد يكون قد نسيها، ولكنها جعلت إليه تعود كلمة كلمة، بصوته الدافئ في الحديث.. كان يحدث الكاميرا يقول (تعرف يا حسين أهلك من يوم ما ولدوك خاتين عينهم عليك، عايزنك تبقى حاجة تقوم تطلع فنان؟ بفتكروا الفن عمل صياع، لكن تحت تحت بيطربوا ويرقصوا." وكان عبدالعزيز داؤود يحكي قصص عن حياته وعن تجربته الفنية في الإذاعة والتلفزيون، وطريقة سرده كانت فريدة فبالإضافة لصوته الجميل المتفرد، فقد كان معروفاً عنه خفة الدم وسرعة البديهة. وكان يتخلل السرد بعض الأغاني التي يختارها أبوداؤود، ويؤديها بصوته الرائع وبدون آلات موسيقية، سوى صندوق كبريت. وكان حسين شريف قائماً علي تصميم مكان التصوير ومعالجة السيناريو والإخراج، فهذا لم يكن غريبا عنه فقد عرف عنه قدرته علي اخراج اروع الابداعات الفنية بأقل ميزانية، وتصميم الأزياء الخاصة بافلامه عن طريق الاستفادة بالموجود بلمسة فنية مبتكرة. ففي فيلم "انتزاع الكهرمان" استعمل حسين شريف ملابس وحلي زوجته، وهكذا كانت طريقته. ويصف الدكتور موسى خليفة أعمال حسين شريف السينمائية: "حسين شريف السينمائي وظف قدراته في الكلمه وبناء الصورة وتجميع الصور وتوليف الصوت وتوظيف الضوء في أعمال إنتزاع الكهرمان إلى التراب والياقوت وما بينهما. همَ بالفيلم وإهتم به فناله إطراء وتقدير ننظر إليه كدلالة على القدرة على التواصل." وكانت أيام التصوير طويلة وشاقة، ولكنها بروح حسين شريف المرحة والمحبة للحياة أصبحت مناسبة اجتماعية يجتمع فيها الأصدقاء والأحبة... ورحل ابو داوؤد في يوم أغسطسى حار، أثناء اعداد حسين شريف لتصوير فيلم وثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية، وفجع بخبر وفاة الفنان، الذي كان صدمة قوية له ولعلي المك، فأبي داؤود كان صديقاً حميما لهما، ويصف علي المك وقع الخبر عليهما: " كان عبد العزيز ينتظرني بعد صلاة الفجر لنذهب إلى التصوير، لعله كان يحسّ دنو أجله، كان يحثنا على العمل، وسجل الأغنيات، وحين انتهى التصوير اطمأنت نفسه، وسافر حسين إلى واو وإلى كادوقلي بعدها، يعّد فيلما آخر، وفي أمسية السبت الرابع من أغسطس 1984م، والمطر يحيط بكادوقلي، ويضرب على سقف الاستراحة وجدرانها، ما علموا ساعتئذ أن قطراته تنبئهم أنها دموع تذرف على العزيز الذي مات." وبعد وفاة العزيز، همّ حسين شريف وعلي المك بتصوير لقطات أخري تشمل أصدقاء الراحل المقربين وزملائه يتحدثون عن تجربتهم ورحلتهم معه وعمله الفني. وأصبح هدفهم الأساسي هو تكملة وتحقيق ما تمناه أبوداؤود، فكانوا يشاركونه روح الحماسة والهمة لإكمال هذا المشروع. قطع التصوير بعد وفاة الراحل أبي داؤود شوطاً كبيراً، ولكن شاءت الأقدار أن لا يتوفر التمويل اللازم لتكملة الفيلم كما تمنيا، لتحقيق أمنية ذلك الرجل الجميل وتخليداً لذكراه. وانشغل الإثنان بمشاغل الحياة، وسافر حسين شريف لعدة أعوام خارج السودان، ولم يستقر في بلدٍ واحد، ولكنهما لم ييأسا في اكمال حلمهما. وفي عام 1991 اختار حسين شريف قاهرة المعز منفىً اختياريا، ولم يمضِ عامان حتى فجع برحيل صديقه العزيز والقريب إلى قلبه، علي المك في أكتوبر 1993. وكأن الثلاثي الذي اتحد في مشروع فيلم "داؤود" ينسحبون الواحد تلو الأخر، لكي لا يرى الفيلم النور. وحمل حسين شريف عبء تكملة الفيلم، وفقدان أعز اصدقائه، ففي غربته زرف الدموع واصبح حلم داؤود سرابا يبعد يوما بعد يوم. واقرب وصف لما كان يمر به حسين شريف الأبيات التي نظمها الشاعر المرحوم عبدالرحيم أبو ذكرى، وهو أحد الشعراء السبعة الذين اختارهم في فيلمه الذى لم يكمله : "التراب والياقوت": " أيّها الراحل فى الليل وحيدا .. ضائعاً منفردا أمس زارتنى بواكيرُ الخريف .. غسلتنى فى الثلوج .. وبإشراق المروج أيّها الراحل فى الليل وحيدا حين زارتنى بواكير الخريف كان طيفى جامداً وجبينى باردا و سكوتى رابضاً فوق البيوت الخشبية مخفياً حيرته فى الشجن .. وغروب الأنجم .. وانحسار البصر لوّحتْ لى ساعةُ حين انصرفنا .. ثم عادتْ لى بواكيرُ الخريف" وفى يناير 2005، اجتمع شمل الثلاثي في الضفة الاخري برحيل الفنان حسين شريف. وهكذا اصبح الحلم سراباً، حتى يحيا مرة أخرى، فروح الراحلين ما زالت باقية ... ماذا عن فيلم داؤود بعد الرحيل؟ رحل عنا حسين شريف تاركا ورائه من يحبونه من أهل وأصدقاء وأعمال فنية لم تكتمل، فقد اجتهد حسين شريف في حياته لإكمال هذه الأعمال، إلا أن الماديات حالت دون ذلك. ويتميز الراحل حسين شريف بأنه كان يعمل بصمت، فلا أحد يعرف ما كان بداخله من أفكار وخططٍ فنية. ويوصف صديقه الفنان حسان علي أحمد أعماله السينمائية في جريدة الأحداث بتاريخ 24 نوفمبر 2009 ،واصفاً فيلم "التراب والياقوت"، الذي شارك فيه كمساعد مخرج: "سيناريو الفيلم استغرق ثلاث سنوات لينجز، فكر حسين خلال السيناريو بذات الطريقة التي يفكر بها إزاء لوحة، طريقة صعبة ومعقدة، بدليل أن موافقة محمود عبد السميع على الإشتراك في الفيلم، وهو من أميز المصورين المصريين، أتت بعد قراءة السيناريو الذي قال عنه (لم أرَ في حياتي سيناريو كالذي بين يدي) – أجزاء كثيرة من الفيلم، الذي لم يكتمل، كانت موجودة في ذهن حسين، حتى أننا كنا نؤجل بعض الجزئيات لأن حسين يقول بأن معالجتها ستكون ضمن المنتاج! لم يكن بإمكاننا أن نحول رؤياه المكتملة في ذهنه، موسيقى وصورة ولغة، لم نتحمل هذه المسئولية لأنها مستحيلة." ويترك حسين شريف تفسير اعماله السينمائية دائما لخيال المشاهدين، فيقول النقاد عن عمله بأنه يستخدم مزيج من الالوان، والصوت والموسيقى بطريقة فنية رائعة. عملنا منذ وفاته على إكمال وتجميع وتصنيف أعماله. وهي ليست بمهمة سهلة، فإرث حسين شريف الفني بلغ أكثر من 500 لوحة فنية، موزعة في انحاء المعمورة، وعدداً كبيراً منها غير معروف موقعها. أما بالنسبة لأفلامه التي لم تكتمل فهي: فيلم "داؤود" وفيلم "التراب والياقوت" والفيلم الوثائقى "الواثق صباح الخير". و"داؤود" و"التراب والياقوت"، كانا في أخر مرحلة – أي مرحلة المونتاج، والسبب الأساسي لعدم إكمالهما، هو عدم وجود الدعم المادي. وتم انجاز بعض المشاريع بنجاح لتخليد ذكراه مثل: اقامة ثلاث ليالٍ للتأبين في المدن الثلاثة التي ارتبط وعاش فيها حسين شريف: الخرطوم والقاهرة ولندن، تحت شعار (حسين شريف – ذكرى حية)، وكانت تشمل: كلمات من الأصدقاء والأحبة، معرض للوحاته، وعرض لفيلم "انتزاع الكهرمان". اقامة ندوة لمناقشة فيلم "انتزاع الكهرمان" بمركز عبدالكريم ميرغني بالسودان عمل معرض للوحاته بالسودان عرض فيلم مفكرة الهجرة بماسبة الاحتفاء بالذكرى الخامسة بعد وفاة حسين شريف، بمعهد جوته بالخرطوم تحت شعار (خمسة اعوام من.... حنين، أمسية في حضرته) وشمل اليوم: كلمات من الأصدقاء والأحبة وعرض فيلم مفكرة الهجرة. وكذلك تم اعداد موقع الكتروني: www.shariffe.org يشمل السيرة الذاتية ونبذة عن أعماله في الفن التشكيلي، الفن السينمائي والشعر. وعمل صفحة الكترونية في شبكة الاتصال الاجتماعية فيس بوك(Facebook). مشروع فيلم "داؤود" يجب أن يكتمل، فاهميته أنه يدوّن ويوثّق حياة أحد عمالقة الطرب السوداني، فالماده التي تم حصرها لا تتجاوز ثلاثة ساعات، ويقيننا أن تكملته لن تكون بالتأكيد مثل ما كان في مخيلة حسين شريف، ولكن علينا الاجتهاد والتعرّف عن قرب علي اسلوب الراحل حتي يري الفيلم النور، لنكرّم هولاء الرجال العظماء الذين كان لهم دوراً رائدا في الفن السوداني. فمن الضروري أن نبذل قصاري جهدنا لإكمال الفيلم بصورة مبتكرة ومدروسة. فهذا حقهم وحق الوطن علينا. ويبدو الأمر كما لو كان حلما آخر لم يتحقق لحسين شريف، وكأنها لوحة لم تكتمل....