النقطَة ولا صَمّة الخَشُم    خبير عسكري يكشف أمرًا مثيرًا بشأن تحرّك للجيش السوداني    السودان.. نقل وزراء إلى سجن شهير والغموض يكتنف مصيرهم    عقار يطلق تصريحات مدويّة ويكشف عن خطوة بشأن الإمارات    القوز ابوحمد ينازل الموسياب شندي في مجموعات التأهيلي    تعادل بطعم الخسارة أمام لولوبو في لوممباشي.    شاهد بالصور.. "ننسي الناس نعيش في دنيا برانا".. الفنانة توتة عذاب تبهر المتابعين في أحدث ظهور لها    شاهد بالصور والفيديو.. الممثلة ونجمة السوشيال ميديا السودانية خلود أبو بكر ترقص بطريقة هستيرية بعد إجرائها عملية جراحية غيرت من ملامحها وفقدت عبرها الكثير من وزنها    الممثل محمود السراج يهاجم آلة موسيقية سودانية: (دخلت الى موسيقانا فأفستده.. لا تسمحوا لعازفي الآلة بالمشاركة.. طاردوهم اينما ثقفتموهم وان استدعى الامر انصبوا لهم المشانق في الميادين العامة)    شاهد بالصور والفيديو.. الممثلة ونجمة السوشيال ميديا السودانية خلود أبو بكر ترقص بطريقة هستيرية بعد إجرائها عملية جراحية غيرت من ملامحها وفقدت عبرها الكثير من وزنها    شاهد بالصور.. "ننسي الناس نعيش في دنيا برانا".. الفنانة توتة عذاب تبهر المتابعين في أحدث ظهور لها    شقيق الفنان محمود عبد العزيز يواصل سرد كواليس اللحظات الأخيرة من حياة "الحوت": (شارد، سرحان، كلامه معاي مختصر شديد، هادي على غير العادة... وكان رايق بطريقة غريبة)    السودان ومصر.. من الألفة إلى الشراكة الاستراتيجية    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    الهلال يتعادل مع سانت لوبوبو بالكونغو    إطلاق سراح آخر الضباط المتهمين بالتخطيط لانقلاب عسكري أثناء الحرب    ميسي يحطم رقما قياسيا ويتوج بلقب جديد    5 تحذيرات مهمة بشأن الكركم    أيّهما صحي أكثر.. الدجاج أم السلمون؟    حفيظ دراجي يكتب: المنتخب بطل كأس العرب    وفاة رئيس نادي الهلال السوداني الأسبق    شاهد بالصور والفيديو.. مسيرات هادرة تسير معهم.. البرهان وأفورقي يتجولان وسط المواطنين بشوارع بورتسودان    العطش يضرب القسم الشمالي، والمزارعون يتجهون للاعتصام    إخطار جديد للميليشيا ومهلة لأسبوع واحد..ماذا هناك؟    في الشتاء.. 4 أنواع من الفاكهة يجب ألا تستغني عنها    إحباط تهريب أكثر من (18) كيلوجرامًا من الذهب في عملية نوعية    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    ترامب: أي وثيقة وقعها "النعسان المتعجرف" بايدن باستخدام القلم الآلي ملغاة ولن يكون لها أي أثر    الرئيس الأمريكي يعلن وقف الهجرة بشكل دائم من كل دول "العالم الثالث"    الشرطة في السودان تعلن عن إحباط المحاولة الخطيرة    الميليشيا ترتكب خطوة خطيرة جديدة    إحباط تهريب أكثر من (18) كيلوجرامًا من الذهب في عملية نوعية    مخاوف من تأثر أسواق دارفور بقرار منع حظر خروج السلع من الشمالية    بالصورة.. مذيعة سودانية كانت تقيم في لبنان: (أعتقد والله اعلم إن أنا اكتر انسان اتسأل حشجع مين باعتبار اني جاسوسة مدسوسة على الاتنين) والجمهور يسخر: (هاردلك يا نانسي عجرم)    وصول 260 ألف جوال من الأسمدة لزراعة محاصيل العروة الشتوية بالجزيرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: الكهرباء وفرص العودة إلى الخرطوم    شاهد بالفيديو.. التيكتوكر المثيرة للجدل سماح عبد الله تسخر من الناشطة رانيا الخضر والمذيعة تغريد الخواض: (أعمارهن فوق الخمسين وأطالبهن بالحشمة بعد هذا العمر)    شاهد بالصورة والفيديو.. بثوب فخم ورقصات مثيرة.. السلطانة تشعل حفل غنائي بالقاهرة على أنغام "منايا ليك ما وقف" والجمهور يتغزل: (كل ما نقول نتوب هدى عربي تغير التوب)    مصر.. تحذيرات بعد إعلان ترامب حول الإخوان المسلمين    شاهد.. بعبارة "كم شدة كشفت معادن أهلها" صورة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تزين شوارع العاصمة السودانية الخرطوم    "نفير الأغاني".. رهان على الفن من أجل السلام    لجنة عودة المواطنين للعاصمة تتفقد أعمال تأهيل محطات المياه والكهرباء بمحلية الخرطوم    لماذا لا ينبغي التعويل على تصريحات ترامب    ادارة مكافحة المخدرات ولاية النيل الابيض تضع حدا لنشاط شبكة إجرامية متخصصة في الإتجار وتهريب الحبوب المخدرة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    شاهد.. صور ولي العهد السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان مع علم السودان تتصدر "الترند" على مواقع التواصل والتعليقات تنفجر بالشكر والثناء مع هاشتاق (السودان بقلب بن سلمان)    الطيب صالح ناهض استعلاء السلطة عبر "الكتابة السوداء"    الطاهر ساتي يكتب: مناخ الجرائم ..!!    الطاهر ساتي يكتب: أو للتواطؤ ..!!    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحفاظ على جمال الثورة السودانية وجمالياتها .. بقلم: د. عبد الوهاب الأفندي
نشر في سودانيل يوم 25 - 05 - 2019

سمعتُ من ابنتي هذا الأسبوع ملاحظة عابرة، ولكنها عميقة المغزى، عن الثورة السودانية المشتعلة حالياً، حين علقت بأن الثورة عمّقت عند جيلها حب الوطن. وأضافت رداً على تساؤلاتي، إن معظم النقاشات التي كانت تدور في إطار الأصدقاء والزملاء في الجامعة قبل الثورة، كانت تتسم بالتذمر واليأس من مستقبل البلاد، وصبّ جام الغضب على "هذا البلد". الآن، قالت أصبح لنا وطنٌ نحبه.
توقفت طويلاً عند هذه الملاحظة، وأنا أتذكر الطفلة التي عادت إلى الاستقرار في الوطن، وهي في السادسة من عمرها، في وقت كانت تراه بلداً غريباً، وتجاهد للتأقلم مع بيئته الاجتماعية. كان أكثر ما يزعجها وقتها إقبال الأهل والأصدقاء على احتضان الأطفال وتقبيلهم عند كل لقاء أو زيارة، وخصوصاً أن كثيرين كانوا في شوقٍ إليها، وبعضهم كان يراها أول مرة. وعندما أبلغتها والدتها بأن هذا من العادات السودانية كانت تحتمي كلما اقترب منها أحد، بمد يدها والإعلان بلسان إنكليزي مبين: "أنا لست سودانية". في المقابل، كانت تأخذ هويتها الإسلامية بجدية فائقة، منذ أن وعت بالدنيا. كنا مثلاً إذا ذهبنا للتسوق في السوبرماركت في بريطانيا، وأعجبها شيء من الأطعمة، تنادي من بعيد: "هل هذا يصلح للمسلمين؟" وكنت أنبهها لخفض صوتها، حتى لا تلفت إلينا الانتباه في أيام الإسلاموفوبيا هذه. من جهة أخرى، ظلت منذ عمر مبكر تكثر من طرح الأسئلة اللاهوتية الصعبة، كما حدث حين أن طلبت منها أن تدعو الله لأخيها المريض، فتساءلت في عفوية: أليس الله هو الذي جعله مريضاً؟ ويمكن أن تتخيلوا صعوبة شرح هذه المسألة المعقدة لطفل في الخامسة!
كانت أيضاً مثل معظم أترابها هذه الأيام، تقضي الساعات الطوال تتصفح الإنترنت. وقد قرّعتها مرة قائلاً: أراك تقضين وقتاً طويلاً في غرفتك تطالعين الإنترنت، وهذا يعني أحد شيئين: إما أنك تتواصلين مع صديق شاب، أو أنك تخاطبين جماعة داعش. أجابت من دون أن يطرف لها جفن: أنا أتواصل مع صديقي الشاب الداعشي!
من هذا المنطلق، فإن تحولات الهوية في حالتها كانت راديكاليةً بأكثر من معنى. وقد شمل التحول النظر باستغراب إلى الأوضاع الاجتماعية التي كانت تراها عاديةً في مسقط رأسها في الخارج. أذكر مرّة أنها علقت، ونحن نتجول في وسط مدينة كامبريدج، بأن الناس في المدينة يبدون كما لو أنهم يتحرّكون داخل صناديق تضعهم خارج نطاق أي تواصل! وكانت تقارن هذا الوضع مع دفء العلاقات الاجتماعية في السودان، التي ألفتها وأحبتها الآن، وجعلتها ترى في غيرها صحراء جرداء اجتماعياً. ولكن ما حدث لها، منذ عايشت مع أترابها ثورة الشعب المتفجرة حالياً وانخرطوا فيها، كان نقلة نوعية من حب الوطن الهادئ، والتعلق به بصورة طبيعية، إلى الفخر والاعتزاز بوطنٍ أخذ ينفي خبثه ويستعيد نضارته، ويتشكل وينهض بمشاركتهم المباشرة. وهذا هو الفرق الذي تصنعه الثورات العظيمة، حين تنحت الأوطان نحتاً، فالشعوب تُعَرِّفُ وتصنع نفسها حين تنتفض لتنزع عنها القيود والأغلال، من استعمار أو استبداد. عندها تتجلى هوية الشعب في إرادة المقاومة الجماعية لهيمنةٍ دخيلةٍ من حكم أجنبي يعمل على فرض إرادته ومصالحه على الشعب، فيتذكّر الناس ويستدعون ما يجمعهم ويوحدهم. الأمر نفسه عند التصدي للاستبداد الذي يبدأ حكماً من الشعب نفسه، ولكنه يصبح أجنبي الهوية والهوى والمصالح، فينحاز للعدوّ الأصيل، كما في قوله تعالى عن قارون إنه "كان من قوم موسى فبغى عليهم"، فقد أبطره غناه، حتى رأى نفسه أقرب إلى أعدى أعداء أمته منه إلى إخوته في الدم والدين. في الحالين، تُستعاد الهوية والوحدة عبر الهبّة الجماعية ضد القمع والاستلاب.
من هنا، كان ربيع العرب بعثاً جديداً لحياة الأمة وشعوبها، كما في ميدان التحرير في الثورة المصرية وميادين الثورات الأخرى، حيث اكتشفت الأمم نفسها ووحدتها، ونبذت، مع الذل والعبودية، كل ما كان يفرّقها ويشوّه صورتها البهية. عندها فقط أصبح هناك معنى لعبارة "ارفع رأسك، أنت مصري"، وجاء العالم كله ليحتفل مع مصر وشعبها بولادة الأمة، ويرفع قبعته إجلالاً لشعب اختار الحياة.
وفي أول كتابةٍ متعمقةٍ لي عن الثورات العربية، ركزت على مركّب صناعة الهوية في الثورات، في مقارنةٍ مع الثورة الأميركية من جهة وثورة 1919 في مصر من جهة أخرى. في الحالين، كانت الثورة عملية خلق ذاتي للأمة، خرجت فيها إلى الوجود من رحم الغيب، فقبل الثورة الأميركية لم يكن هناك شيء اسمه الشعب الأميركي، بل كانت الطبقة المهيمنة في "العالم الجديد" ترى نفسها جزءاً من "الأمة الإنكليزية"، تتعايش في مستقرّها الجديد مع خليطٍ من أجناس أخرى، ولكن الهوية الأميركية ولدت مع تفجر الثورة، حيث اتحدت الأمة حول شعاراتها ومثلها في الحرية، ثم إعلان الاستقلال فالدستور. حينها أصبح الجميع "أميركيين".
بالقدر نفسه، فإن ثورة عام 1919 في مصر مثلت، كما خلدتها روائع مثل "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، وثلاثية نجيب محفوظ القاهرية، مخاض ولادة أمة. ولعلها مفارقةٌ ذات مغزى أن احتفالات مئوية ثورة 1919 في مصر خلال الأسابيع الماضية لم تجذب اهتمام النظام المصري القائم، وإنما كانت في مجملها من عمل هيئات شعبية. وهذا تذكار بأنه لا معنى للقول إن ثورات الربيع العربي هزمت أو اندثرت، فمثل هذا الإهمال الرسمي للثورة التي صاغت هوية مصر الحديثة يكشف، بالعكس، أن قوى الثورة المضادّة غريبة على مصر وهويتها، لا فقط بدوسها على إرادة الشعب، وإدخال مصر بأكملها في سجن كبير، بل أيضاً بخضوعها لإملاءات أعداء الشعب في الخارج، فقد خضع النظام وأخضع البلاد لأجانب كارهين لشعبه، بمن في ذلك جهات تتزيا بزي العرب، ولكن دينها موالاة الأجنبي، والتنكّر للشعوب، فيوشك من يقودون هذه الردة أن يرفعوا علم إسرائيل بدل علم مصر، وينشدوا نشيداً وطنياً لغته العبرية. ولهذا، ستبقى مثل هذه الردة لحظة عابرة ومنكرة في تاريخ الأمة، مثل ما كان الاستعمار.
ولعلها مفارقة أن النظام الإنقاذي المندثر كان قد احتضن هذه القوى الكارهة لشعوبها، وأصبح الناطقون باسمه يجاهرون برغبتهم في التطبيع مع إسرائيل، حتى اضطررنا للإنكار عليهم هنا في مقالات في "العربي الجديد". ولعله من المؤسف أن الثورة الحالية تشوبها شوائب لن تكتمل إلا بنفي خبثها، وأول هذه ارتهان بعض مكونات النظام الآخذ في التشكل لقوى الثورة المضادة نفسها التي تمارس قمعاً لشعوبها يستحي منه نظام البشير، فأين هي أحزاب المعارضة في الإمارات والسعودية ومصر؟ وأين هي الصحافة وحتى حرية التغريد والكلام؟ وهناك أيضاً شوائب من إذكاء لروح الكراهية ضد قطاعاتٍ مهمة من أبناء الوطن، وهو ما لا تستقيم معه ثورة ديمقراطية. وقد كرّرت مراراً، في هذا المكان، أن الفرق بين الثورة الديمقراطية والحرب الأهلية أن الأولى تجمع كل قوى المجتمع الحية ضد النظام، بينما الثانية هي مواجهة بين قطاعات الشعب ومكوناته الأساس.
ما نحتاج إليه هو تحديداً ما بدأنا به الحديث اليوم من بناء وطنٍ نفخر به جميعاً، تكون فيه الأولوية للمحبة والتآلف، لا الكراهية والفرقة، وتتوجه الطاقات فيه إلى البناء والتصالح، لا إلى الاحتراب والاقتتال، حتى ننطلق إلى آفاق جديدة من الحرية للجميع، ولا نعود إلى متلازمة: "ملعون أبوكي بلد"، ورحم الله الراحلين من شهدائنا، وأيضاً أدبائنا وكتابنا.
نقلا عن العربي الجديد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.