لم يكن السودان من الناحية الاستراتيجية مهماً للإدارة الامريكية إلا في حدود تأثيره على حلفائها ومصالحها الاستراتيجية؛ او ربما كون السودان مخزناً للموارد الطبيعية لم يحن الوقت لفتحه. ان توجه الانقاذ شرقاً لم يكن صدفة ولم يكن ايضا مخططاً له مسبقاً لكن المتغيرات التي صاحبت حرب الخليج الثانية وموقف السودان منها وبداية الحرب الموجه ضد الارهاب ووجود بن لادن في السودان، ايضا قرار الادارة الامريكية بوقف المساعدات عن الحكومات التي تأتي عبر انقلابات العسكرية، ايضاً بعد لقاء البشير مع مساعد وزير الخارجية الأمريكي كوهين في مارس 1993م وبدء سريان قرار الادارة الامريكية بوقف المساعدات الاقتصادية والعسكرية عن السودان؛ بدء السودان يتجه شرقاً نحو الصين ودول شرق آسيا في ظل بروز النزعة الامريكية نحو الهيمنة بعد صعود دول آسيا وازدياد حصتها في الاقتصاد العالمي؛ واقترابها من مضاهاة حصتها في إجمالي التعداد العالمي للسكان، خاصة وان الصين صاحبة حصة عالمية مقدرة ومسئولية في المجتمع الدولي. اتجاه السودان شرقاً اعتقد أنه كان مؤلماً وغير متوقعاً لمراكز القرار الاقتصادي والمالي الامريكية لأنه أدخل الصين المارد الاقتصادي في مناطق نفوذها، ووجود الصين سوف يزعزع الهيمنة الاقتصادية الأميركية ويفتح مخازن الموارد المحتملة ليس في السودان ولكن في افريقيا، خاصة والانقاذ نجحت بالتعاون مع الصين وماليزيا والهند في استخراج البترول وهذا شكل ضغطا على مراكز القرار باعتباره يفيد الصين والانقاذ اقتصادياً ومن ثم سياسياً. وكما نعلم أن سياسة الاحتواء من اهم وسائل السياسة الامريكية على المستوى الدولي التي من خلالها تبنى وتشرف على النظام العالمي الذى لها فيه السيطرة واليد العليا؛ لتحقيق الازدهار الاقتصادي لأمريكا وبناء حلفاء حول العالم وتشكيل نخب حاكمة تعمل بتناغم داخل المنظومة الامريكية لحماية الشركات والمؤسسات المالية الامريكية التي تسيطر على الصناعة، والادارة المالية من خلال البنك وصندوق النقد الدوليين، وتحمى هذه النخب مصادر الطاقة والمواد الخام وتفتح الاسواق لأمريكا؛ خاصة أن تقرير الاتجاهات الاستراتيجية العالمية الذى نشرته وزارة الدفاع الامريكية بين دور الموارد في النظام العالمي الجديد وحذر من ان الطلب على الموارد سوف يزيد بحلوب عام 2045م بالتزامن مع زيادة تعداد السكان العالمي الى تسعة مليارات نسمة. وبذلك اصبحت الولاياتالمتحدة قادرة على فرض سياسات الليبرالية الجديدة المعروفة بإجماع واشنطن (Washington Consensus) التي سعت الى دمج الجميع في النظام التجاري العالمي وأسواقه المالية، وهي عقيدة حرية السوق التي انتظمت وسيطرت على العالم؛ وهذا المصطلح برز في عام 1989م لوصف مجموعة من السياسات التي تبنتها منظمتا البنك وصندوق النقد الدوليين. لقد رضخت النخب الحاكمة للهيمنة الأمريكية على أساس أنه لا قدرة لها على البقاء دون هذا الخيار الاوحد. وابرز عناصر هذه السياسات اشتملت على إجراءات اصلاحية المذكورة من خلال جملة من العوامل الاساسية، خفض الموازنة الحكومية من أجل تقليص نسبة العجز والدين، ومن أجل تمكين الحكومة من فرض ضرائب مخفضة، التخلي عن برامج الدعم والإعانات التي تقدمها الدولة من أجل تعزيز الحوافز التي تشجع الفقراء على العمل، ومن اجل خفض الضرائب على الشركات وعلى ذوي الدخل المرتفع من أجل تشجيع رجال الاعمال للاستثمار في بلدانهم. رغم توجه الانقاذ شرقاً إلا انها تبنت على عجل القيم الامريكية الرأسمالية التي تستند عليها هيمنتها الاقتصادية والسياسية؛ والتي تقودها النيوليبراليه والخصخصة وهي نماذج اقتصادية ذات عواقب اجتماعية خطيرة؛ واتبعت الانقاذ معيار الابتعاد عن دعم الاقتصاد الوطني من خلال الخصخصة وهي حسب برنامج الاممالمتحدة الإنمائي هي التحول لاقتصاد السوق، والمنظور الاقتصادي يصنف مبادرات الخصخصة الي ثلاث قيم رئيسة هي الملكية، والمنافسة، والربط بين المنفعة والثمن. فمن ناحية " نوع الملكية " ينظر إلى عملية بيع الأصول ومؤسسات الدولة العامة على أنه أكثر أساليب الخصخصة تطرفاً لأنها تنقل سعر خدمة المواطن للسوق وتجعلها خاضعة لتغيراته؛ وربما تكون الأفضل اذا ادت إلى خفض العجز المالي للقطاع العام في وجود معالجات ضرورية خاصة في الدول الفقيرة والاقل نمواً، وتقليص حجم الجهاز الحكومي، وتحويل عملية صنع القرار إلى القطاع الخاص، التي يفترض أن تكون أكثر انسجاماً مع مؤشرات السوق، وتعطي عدد أكبر من الناس دوراً فاعلاً ومباشراً في الارتقاء بالنمو الاقتصادي وتعزيز قدرات هذه القطاعات وزيادة فعاليتها؛ حيث أن الملكية الخاصة فيها من الحوافز اللازمة لتشجيع الملاك على المثابرة والابتكار لإدارة مشاريعهم عكس الموظف العام صاحب الراتب الثابت، والذي لا يشعر بالانتماء للمؤسسة العامة الا في حدود راتبه. ومن ناحية "المنافسة"، يتم التركيز على قوى السوق والمنافسة دون تغيير الملكية، مثلاً تترك الحكومة ادارة المؤسسات العامة وتتعاقد مع شركات خاصة لتقديم الخدمات العامة بدلا منها، وتكتفى مؤسسات القطاع العام بوضع الأهداف الاستراتيجية، والسعي لتحقيق مزايا تتعلق بالتطوير والكفاءة وتقليل ومحاربة داء البيروقراطية في مؤسسات الدولة. أما ربط "الثمن بالمنفعة" يكون من خلال تمويل الخدمات من الرسوم الخاصة بالاستخدام بدلاً من تمويلها بالإيرادات الضريبية وهذا حدث كثيرا في السودان مثل تمويل اصلاح واعادة تأهيل الطرق القومية من خلال رسوم العبور؛ والمشكلة ليست في الرسوم فقط ولكن اين تذهب هذا الرسوم وفي أي مجال تخصص للصرف؛ ويعتمد على الخصخصة كخطوة مهمة في توسيع القطاع الخاص ودوره في التنمية الاقتصادية. وعلى العكس من وجهة نظر اجماع واشنطن كان دواء الخصخصة داء تجرعه المواطن لم يثمر سوى عن ارتفاع معدلات الفقر ونسب التضخم، وانعدام المساواة بين المواطنين وازدياد الفجوة الطبقية بين افراد المجتمع وتراجع الخدمات العامة في جودتها ونوعيتها، واصيب القطاع الخاص بالشلل نتيجة لدخول شركات الحكومة الى حلبة المنافسة في معية تسهيلات حكومية ضخمة. فهل كان خيار اللبرالية الجديدة والخصخصة ناجعاً، وهل كانت اجراءات الخصخصة القانونية والتنظيمية سليمة ؟. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.