ربما تعدد الزوايا التي يمكن النظر من خلالها إلى موضوع اللغة، فأصحاب اللغويات النقدية ينظرون إليها من خلال علاقتها بالسلطة وممارسة السلطة، فمثلاً الحوار الذي يتم ما بين الطبيب والمريض، الأستاذ والطالب، يتم فيه ممارسة للسلطة. وأيضاً اللغة وعلاقتها ىبالبنى الإجتماعي واٌتصادية والسياسية، وهي نتاج للبنية الإجتماعية. وهي أيضاً حامل للأيدلوجيا. وفوق هذا وذاك يمكن استخدامها للسيطرة الساسية واٌتصادية. لكن هذا المقال مخصص للنظر في علاقة اللغة والأسطورة وهب تعتمد بشكل أساسي على كتاب على الشوك: جولة في اقاليم اللغة والأسطورة، كنت قد قرأته في السنة الخامسة في جامعة جوبا، كلية التربية، واستمتعت به أيما استمتاع، واختفى مع عدد من الكتب الأكاديمية والثقافية حتى غطاه التراب الناعم، ولكن عثرت عليه أخيراً وأريد أن أشرك القارئ في بعض الجوانب المهمة فيه. يقول الكتاب في مقدمة الكتاب: مذ بدأ الإنسان يفكر في معنى الحياة والوجود وعلاقته بالطبيعة والكون اتخذت عنده رموز الخصب والإنتاج في الطبيعة هالة من القدسية، فعبر عن كل ما الغذاء ويحافظ عل ديمومة الحياة. وقد ارتبطت عبادة المرأة منذ العصور الحجرية القديمة بعبادة الأرض، لأنهما، كلتيهما، ترمزان للخصوبة واستمرار الحياة وطوال مرحلة الإنتقال من طور جني لاقوة إلى طور إنتاجها كانت عبادة الأنثى طاغية على عبادة الذكر. لأنها هي التي تلدوتحاف على استمرار الجنس البشري، إلا أن دورها في العلية الإقتصدية لم يكن دون دور الرجل. فمن المعروف أن المراة هي التي لكتشفت الزراعة في العصور الحجرية الوسيطة، وهي التي كانت تنهض بأعبائها في بادئ الأمر. بحكم كونها أكثر التصاقاً بالمكان – البيت أو المستوطنة – من الرجل الذي يسعى وراء الطرائد، ولأن عملها لا يتطلب أكثر من نبش التربة بالعصا ووضع البذور فيها، والأتكال بعد ذلك على ما تجود به السماء من مطر، ثم لما بات توفير الغذاء يتوقف بصورة أساسية على رعي القطعان والزراعة على نكطاق أوسع، بعد اختراع المحراث، وهي مهمة اضطلع بها الجرل تراجع دور المرأة في العبادة إلى المرتبة الثانية. لكن ذلك لم يتم بين عشية وضحاها، وبدون صراع - مرير في أكثر الأحيان – دام حتى العصر البرونزي. ومنذ القرن الماضي اكتشفت في أوربا، على امتداد الأراضي الواقعة بين أسبانيا وبحيرة بايكال في سيبريا، لقي منحوتة من العظام والصخور ترقى غلى أواخر العصر الحجري القديم (قبل حوالي 25000 سنة) تصور الآلهة الأم أو (فينوس) العصر اتلحجري القديم الأعلى كما أطلت عليها بهيئة عادية تماماً، أو تكشف عن مواضع عفتها في حالات أخرى. كما عثر على لقي كثيرة تصور عضو التأنيث، وعضو الذكورة، الأمر الذي يورث إنطباعاً بأن الرموز الجنسية كانت موضع تقديس وعبادة، ليس انطلاقاً من مفهوم الإثارة بل كرمز للخصوبة والتكاثر، وتمدنا البينات الإشارية في آسيا الغربية وكريت وبحر إيجة بأدلة على مركز الأم في هذه المجتمعات، وكيف أن الإله الذكر ظل خاضعاً للإلهة الأم، الإلهة الكبرى، لأن مفهوم الأبوة كان ما يزال غامضاً مع غموض في دور الرجل في عملية التلقيح. فهنا كان المرأة وعضو التأنيث رمزين لعملية الخلق ومنح الحياة. وفي تل الأربجية Arpachia قرب مدينة الموصل العراقية عثر على العديد من التماثيل الطينية الأثرية الصغيرة ترقى إلى ما قبل 4000 ق. م. يظهر الصدر فيها جميعاً متدلياً، والسرة بارزة، والخصر ضيقاً في حين يبدو الحوض كبيراً جداً. وتتخذ معظمها هيئة الجلوس أو الجثوم على نحو يوحي بحالة الوضع أو الحمل. حتى في مراحل متأخرة ظلت بعض أسماء الآلهة التي عبدها البشر تحمل معاني الصوبة أو الأعضاء التي ترمز إليها. ففي الأدب الأرغاديتي ( الكنعاني) ترد لفظة (رحمايا) كإسم لآلهة، ويقول الدكتور أنيس فريحة أن اسم "رحمة" كثير الشيوع في شمالي لبنان، ومعناه "الآلهة المحبة". ولا شك أن الأصل هو "الرحم" والرحم هو مستودع الجنين عن المرأة أو الأنثى، وه رمز الخصب واستمرار الحياة كما تعني (ر ح م) الكنعانية: فتاة. كان يقال " ر ح م . ع ن ت" أن الفتاة عناة "الآلهة الكنعانية، بمعنى البتول عناة" وتفيد هذه الكلمة – رحم – بالكنعانية، مثل بقية اللغات السامية، معنى الرحمة أيضاً، وتعني كلمة الرحم بالعربية: القرابة أيضاً، كأن يقال ذو رحم، أي ذو قرابة، ولعل هذا التعبير يحمل جذور المجتمع الأمومي (أي المجتمع الذي تكون فيه السادة للمرأة). وهذا يذكرنا أيضاص بكلمة (بطن) العربية، بمعنى عشيرة ومن البطن يتفرع الفخذ، وكلاهما مصطلحان لهما صلة بتشريح جسم المرأة – ويقال للمرأة رحوم، ورحمة ورحماء. ومن هذا الجذر جاء مفهوم الرحمة بمعنى رقة القلب والتعطف. ومنهما أيضاص جاءت صفات مثل رحيم، إلخ ... كما أن "الرحم" العبرية، تعني كالكنعانية، مستودع الجنين، ومرأة وكذلك رحمة، ونحن نرى أن الرحمة مشتقة من الحرم، لأن هذا الأخير دال على المرأة ومن رقة المرأة جاء مفهوم الرحمة، لأن حمل الجنين في الرحم هو أعلى مظاهر الحب والحدب والرحمة عند المرأة، وهو ما أشار إليه أريل فروم في كتابه Haben order sein في سياق حديثه عن مشاعر الأم تجاه أبنائها، ولعل مما له دلالة بهذا الصدد قول العرب: "ناشدتك الله والرحم يا هذ" ومن مادة (رحم) جاءت (رخم) التي تفيد أيضاً معنى الرقة واللين، ومنها اشتق اسم الرحمة بالعبرية (راخام) وهي صنف من النسور ريشها ابيض مخلوط بسواد وشقرة، وقد سمي كذلك لعاطفته الشديدة تجاه صغاره. ورخمت المرأة ولدها: لاعبته ولاطفته. ولعل الكلمات العربية: حرم،حرام، حريم، حرمة، احترام، مرحوم، غلخ ترجع بعد الإبدال إلى ماة (رحم). وكالعربية تعني مادة (حرم) العبرية: يحرم، أو يقدس، أو يكرس، والتحريم والتقديس ينم عن مفهوم واحد. كما تعني كلمة (حرم) العبرية يغلق أو يصنع ثقباً في الأنف، وتقابلها (خرم) العربية. و(حرم) الحبشية تفيد معنى الحرام الحرام والتحريم أيضاً كما أن خزمتو الأردية تعني (بغي) وتذكرنا بكلمة "حريم". ويرى جون الليغرو أن اسم الآلهة السامية عشتار مشتق من الكلمة السومرية Ush-Taar التي تفيد معنى "الرحم"، ذلك أن Shai-Tur السومرية تعني "رحم، يرقة، سرة". ولنا عودة