بالمناسبة تتشابه حالة ثورة ديسمبر في السودان مع حال الوضع الراهن في فرنسا الذي قد أدى لأنتخاب الرئيس ماكرون و انتخابه يجسد فشل أحزاب اليمين و اليسار في فرنسا لتحقيق معادلة الحرية و العدالة و بفوزه قد أصبحت احزاب اليمين و اليسار و لأول مرة خارج مركز السلطة في فرنسا لتفسح المجال لتيار جديد يمثله ماكرون و نحن هنا لسنا بصدد تقيم ماكرون سلبا او ايجابا ولكن نتحدث عن لحظة تاريخية خرجت فيها احزاب اليمين و اليسار في فرنسا من مضمار تحقيق معادلة الحرية و العدالة. السؤال المنطرح لماذا خرجت احزاب اليسار و اليمين في فرنسا خاسرة و هنا تأتي اجابة علماء الاجتماع و الاقتصاديين و المؤرخين في أنها قد نجحت في تأبيد فكرة الشرعية و لكنها قد فشلت في تحقيق المثال و هنا يعني انزال فكرة العدالة الى ارض الواقع فالأزمة في فرنسا ليست أزمة نظم حكم و لكنها أزمة اقتصادية نتاجها الفشل في تحقيق المثال و حالنا في السودان هو نتاج أزمة نظم حكم و أزمة اقتصاد فعبر مسارنا الطويل لم نحقق لا شرعية و لا مثال و هنا يجب ان نتذكر ان مجتمعنا السوداني مجتمع تقليدي للغاية مقارنة مع المجتمع الفرنسي كمجتمع حديث. سبب المقارنة لأن ثورة ديسمبر كانت تجسيد لفكرة تقدم الشعب و سقوط النخب كما يقول عبد الله الغذامي فبعد انفجار ثورة ديسمبر و بعدها بأيام اضطرت النخب السودانية و في عجلة من أمرها أن تلحق بالثورة و قد أصبحت في حيز اللاحق للأحداث و هنا تصبح ثورة ديسمبر كما انتخاب ماكرون و به يتجلى فشل و خروج أحزاب اليمين و اليسار في فرنسا كما أصبحت كل الأحزاب و القوى السياسية لاحق لأحداث في ثورة ديسمبر بعد أيام من اندلاعها ففي زمن تقدم الشعب و سقوط النخب لا أحد يستطيع أن يقول بانه هو الاب الشرعي لثورة ديسمبر. لذلك نجد أن هناك شبه اتفاق بأن تكون الحكومة من أصحاب الكفاءة و ليست محاصصة بين الأحزاب التي قد خرجت من اللعبة السياسية بسبب تقدم الشعب كدليل واضح على سقوط النخب. و هنا يجب أن تكون أجراس الانذار في أعلى مستوى للصوت و بلا توقف بأن الأحزاب السودانية قد أصبحت في حيز اللاحق للأحداث و أن الشعب قد أحرجها بأن وعيه يفوق وعيها بما لا يدعو مجال للشك و ينطرح السؤال هل ثورة ديسمبر خطوة أولى باتجاه الحداثة؟ كثورة من الثورات الكبرى فهي بلا شك تعني القطيعة مع التراث كما تعني الحداثة أيضا مفهوم القطيعة مع التراث. فهل أحزاب السودان مستعدة لفكرة القطيعة مع التراث التي ابتدرها الشعب السوداني في تقدمه على النخب؟ قطعا ستكون المعركة في حيز الفكر في السودان معركة ليست مسبوقة بعهد كما يقول رينيه شارل لأنها لم تحدث معركة فكرية بين النخب السودانية يمكن أن يكون بموجبها القياس. لان كل الأحزاب في ساحة الفكر السودانية محشورة في حيز الأحزاب التي تعادي الحداثة بما فيها الحزب الشيوعي السوداني ففي تكلسه في فكرة انتهاء الصراع الطبقي لا يخرج من حيز فكر لاهوتي غائي ديني قد تجاوزه عقل النقد الذي قد أصبح متجاوزا للهيغلية و الماركسية و قد أصبح الفكر في سبيل توسيع ماعون الحرية ينادي بفكر بعد ماركس و بعد هيغل و بعد الميتافيزيقا أما بقية الأحزاب الأخري فكلها أحزاب وحل الفكر الديني من كل شاكلة و لون. و هذا الفكر الذي ينادي بتوسيع ماعون الحرية نجد صداه في شعار ثورة ديسمبر حرية سلام و عدالة و هو يعادل معادلة الحرية و العدالة و قد أدخل الشعب السوداني كلمة سلام ما بين الحرية و العدالة بعد ان مارست الحركة الاسلامية السودانية عنف الكل ضد الكل في حروبها المقدسة على مدى ثلاثة عقود لتذكرنا بعقد هوبز الذي قد رفض كما رفضت الماركسية لان عقد هوبز الاجتماعي ايضا يفتح على نظم شمولية كما تنفتح ماركسية ماركس على أبغض انواع النظم الشمولية. فشعار ثورة ديسمبر يتطابق مع معادلة الحرية و العدالة ابنة الفكر الليبرالي في بحثها عن الشرعية و المثال كقرار و اختيار يتطابق مع فلسفة التاريخ التي قد وضعت علم الاجتماع كبعد معرفي لا يسعه غير قيم الجمهورية و الايمان الكامل بميثاق حقوق الانسان حيث ينفتح الأفق الى امكانية تأليه الانسان و أنسنة الاله. لذلك يمكننا أن نقول بأن ثورة ديسمبر أول خطوة لتجسيد القطيعة مع تراث كل ما فيه معادي للحداثة و أحزاب من أقصى يسارها الى أقصى يمينها تؤمن بفكر لاهوتي غائي ديني معادي للحداثة كما يقول مارسيل غوشيه في وصف الماركسية و الحركات الاسلامية بأنها تمثل فكر معادي للحداثة و الرجل فيلسوف و عالم اجتماع و مؤرخ و انثروبولوق يعالج علاقة الدين بالسياسة عبر التاريخ و عنده ان الحداثة قد قضت على جلالة السلطة و قداسة المقدس و قد أصبحت الماضي الروحي للانسانية الحالية كما يقول بودلير فمسيرة الانسانية تراجيدية و مأساوية بلا قصد و لامعنى لا تحكمها غير معادلة الحرية و العدالة في سبيل تحقيق الشرعية و المثال. و عليه فان النخب السودانية قد كانت لاحقة للأحداث بعد أن تأكد لها بأن الشعب قد تقدم على النخب و يمكننا القول بأنها قد لحقت بالثورة بلا زاد فكري يدعم علاقة الثورة بالحداثة و بالتالي يبعدها عن فكر الاحزاب السودانية كافة لأنها لم تستطع الخروج من وحل الفكر الديني و كلها أحزاب تكرس لتراث سلطة الأب و ميراث التسلط و قد يعترض كثير من الناس بأن نقول أن الشيوعية ضد الحداثة و سيكون مثل هذا الاعتراض من الأقوال الساهلة و تصدر من أصحاب القراءت المناضلة و القراءت الناعسة و هي سمات القارئ غير المدرب. نعم ان الشيوعية و النازية و الفاشية و الحركات الاسلامية ضد الحداثة و خاصة في مجتمع تقليدي كحال المجتمع السوداني مازال يعتقد أن الحزب الشيوعي السوداني له علاقة بالحداثة و عقل الأنوار في وقت كانت فيه المحاولات الجادة من قبل علماء الاجتماع تعمل على فكرة اعادة اكتشاف غرامشي الذي إلتقطت أفكاره الأحزاب الشيوعية في الغرب و قد غيرت فكرتها و عبرت بكل وضوح عن ايمانها بنمط الانتاج الرأسمالي لكي تعود لفكرة العقد الاجتماعي في فكر كل من ايمانويل كانت و علم اجتماع منتسكيو و جان جاك روسو و جون لوك و اخيرا لجون راولز صاحب نظرية العدالة. و حتى في العقل التواصلي و الديمقراطية التشاورية لهابرماس يتضح بأن تاريخ البشرية قد توج بالتاريج الذي لا يتوج و هو تاريخ الفكر الليبرالي في ايمانه بأن كل فرد بالضرورة انسان و بالصدفة فرنسي كما يقول منتسكيو و بالتالي عند هابرماس رغم إلتباس كتاباته يصل الى أن لا سبيل غير الديمقراطية و ثمرتها اليانعة الفردانية و قد تجاوزت الانسانية في مسيرتها عبر النشؤ و الأرتقاء كل من العرق و الدين و قد أصبح الدين يبدأ خجولا بعد حدود العقل حسب فلسفة ايمانويل كانط. لذلك على النخب السودانية بعد أن لحقت بثورة ديسمبر بان تعمل على تجسير الهوة ما بينها و الحداثة و لكي تستطيع إنزال الفكر الليبرالي الى أرض الواقع كتجسيد الى فكر النزعات الانسانية نتاج الحداثة و عقل الأنوار و بعيدا عن وحل الفكر الديني المتجسد في أحزاب الطائفية و الشيوعية كدين بشري قد رفض بسببه العقد الاجتماعي لماركس كما رفض العقد الاجتماعي لهوبز لانها لا تفتح الا على نظم شمولية بغيضة. فما يريد أن يقوله الحزب الشيوعي السوداني قد فشلت في قوله مسيرة الأديان منذ كان فصاعدا وفقا لأفكار علماء الاجتماع فالشيوعية كدين بشري أفشل من ظاهرة الأديان في حيز الدراسات الاجتماعية و هذا القول في مسألة إبعاد الدين عن السياسة قطعا لا يعني الإلحاد على الاطلاق كما يقول جون لوك و يؤكد اذا كان هناك مطلق واحد يجب الايمان به هو مسألة إبعاد الدين عن السياسة بما فيه الشيوعية كدين بشري حتى تنطلق العقلانية في مجدها كتجسيد لابداع العقل البشري. لذلك يجب ان تكون ثورة ديسمبر بوابة لدخول الشعب السوداني الى الحداثة و كذلك تمثل الخروج من حيز المجتمعات التقليدية لكي تصل الى أعتاب المجتمعات الحديثة و لا يكون ذلك بغير الفكر الليبرالي الذي لا نجده في سجلات الاحزاب السودانية الغاطسة في وحل الفكر الديني و لاتجسد غير سلطة الأب و ميراث التسلط فاننا في زمن الفرد و العقل و الحرية. سيقولون لكم بأننا شعب له خصوصيته فقولوا لهم بأن مسيرة البشرية واحدة و قد وصلت مقدمتها الى ما نقول وعلينا أن نسرع الخطى من أجل اللحاق بمواكب البشرية بعد أن تيقنت عبر ضمير الوجود و تجربة الانسان ان لا طريق غير طريق الفكر الليبرالي و لا حيلة مع الحداثة غير الايمان بنزعتها الانسانية و دليلنا على ذلك أن وعي شباب ثورة ديسمبر لم يكن نتاج عمل فكري واعي للتغيير كنتاج للتفسير الذي قدمته نخبنا لا لم يكن كذلك لأننا قد رأينا كيف استكانت النخب السودانية في أحزابها لفكرة الهبوط الناعم بما فيها بعض قيادي حركات الهامش بعد أن تمكن الصادق المهدي من رقابهم. ان وعي شباب ثورة ديسمبر قد جاءت أسبابه من الخارج و هو ما أنتجته البشرية من تقدم تكنولوجي أدى الى رفع مستوى الشباب في تعامله ما الميديا بوعي وصل لوعي الشعب البريطاني في القرن السابع عشر في لحظة قيام ثورته و كذلك وصل وعى الشباب بفضل التكنولوجيا الى مستوى الشعب الفرنسي في القرن الثامن عشر في تعامله مع وسائل نقل الوعي فكانت الثورة الفرنسية و كذلك الحال مع شباب الثورة السودانية في ديسمبر انها ثورة وعيها جاء من نتاج ما قدمته لنا البشرية من تعاملهم مع وسائط التواصل الاجتماعي و ليس نتاج تفسير جاء من نشاط أحزاب وحل الفكر الديني في مشهد ساحات الفكر عندنا في السودان. لأن التفسير الذي ننتظره ليعطي معنى التغيير كما نجده في اسم قوى الحرية و التغيير هذا التغيير يجب أن يسبقه تفسير لا يستقيم إلا بفكرة القطيعة مع تراثنا القريب قبل البعيد و باختصار قطيعة مع تراث أحزابنا السودانية التي لم تنتج فكر خارج حيز وحل الفكر الديني و الغريبة بالأمس في لقاء الراكوبة مع الموريتاني الفاضل الذي قاد الوساطة الافريقية التي تكللت بالنجاح قد تحدث عن فكرة القطيعة بشكل لا لبس فيه في الوقت نفسه نجد فكرة القطيعة مع التراث قد غابت عن لسان أهل بيت العرس و هم النخب السودانية التي ادمنت الفشل و قد أدمنت الفشل لأنها كلها تحت راية أحزاب لا علاقة لها بالحداثة. احزاب ضد مجد العقلانية و ابداع العقل البشري لأنها أحزاب سلطة الأب و ميراث التسلط فنجاح ثورة ديسمبر يكمن في معنى القطيعة مع التراث و هذا المعنى الذي قد صمتت عنه النخب الفاشلة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.