مُحَمَّدٌ وفَاطْنَة... شقيقان ربطت بينها محبة كبيرة وأحزان مشتركة فكانت العلاقة بينها قويّة جداً بسبب فقدهما والدتهما التي توفيت عنهما صغاراً، وتركت لهما عجلةً صغيرةً كانت هي كل ما ورثاه عنها... وتزوَّج والدُهما، التَّاجرُ الثري، بعد وفاةِ أمهما بقليل، ليعيشا تحت نير قسوة زوجة أبيهما، منزُوعة الرَّحمة، المتأبطة لهما، على الدوام، شرّاً وكراهية. وكانت تحابي عليهما طفلَها، الذي كبر الآن، وصار صبيّاً. وكانت تتفنَّن في اضطهادهما وتعذيبهما، بالذات حينما يكُونُ والدُهما غائبًاً عن البيت، بسببٍ من أسفاره العديدة، والتي كانت تمتدُ لشهورٍ وشُهُور. وخلال أسفار الأب وغيابه، كانت زوجته واسمها (عَائِشَة) تدفع بهما للعمل الشاق، في فِلاحَة حيضان العُيُوش والقُشُوش بالحقل، ورعاية الأغنام. وكانت تعنفهما على نيلهما القسط القليل جدَّاً من الراحة، والتى كانا يحتاجانها حين يتعبا، بين الفينةِ والأُخرى. وصار الصبي قادرٌ على الذهاب، برفقة (مُحَمَّدٍ وفَاطْنَة)، إلى الحقل يومياً... ولكنَّ أمَّه الحاقدة كانت تعتني به هو وحده، وتُهْمِلُ أخويه (مُحَمَّداً وفَاطْنَة) عن قصد... وترمي إلى زيادة بؤسهما ومفاقمة هزالهما... فكانت تُعطِي لابنها السمن والعسل، وتعطي (مُحَمَّداً وفَاطْنَة) القَرْقُوش ، مكاشرة، وعلى مَضَضْ! ولكن، وفي نهاية كلِّ يومٍ من أيَّامِ العمل الشاق، كانَ (مُحَمَّدٌ وفَاطْنَة) ينتحيان جانباً (بعِجيلة أُمنا وأبُونا) يغذيانها بالبرسيم الطازج والقصب، ويسقيانها عذبَ المياه من النهر،ويقولان لها بصوتٍ واحدٍ، حانٍ: - يا لعِجِيْلة أُمَّنا وأبُوُنَا وأبُونا، بولي لينا العسَل، وبَعِّري لينا السُّكر! فتُبعِّر لهما (عِجيلة أُمنا وأبُونا) السُّكر، وتبول لهما عسلاً... يعيناهما على أكلِ خبز ِهما الجاف... وهكذا، وباعتمادها على سمن وعسل عِجيلة أُمنا وأبُونا، كانت صحتهما جيدة، وعافيتهما موفورة... وكان ذلك على عكس توقعت (عَائِشَة) زوجة أبيهما التي لا تعرف إلا الشرور، وكانا يتفوقانِ على ابنها في التهذيب والجمالِ، وكانت هيئتهما حسنة على خلاف ما كانت تريده لهما الشريرة! ولذلك، فقد تملكَها الغيظُ، وساورتها الشُكُوك، وأكلت مخَّهَا نارُ الفُضُول ونهشت فؤادَها الغيرة، وقررت أن تتحرَّى عن السبب وراءَ صَحَّتِهما الموفُورة، وشَبعِهِما الدَّائم والبادِي للعيان، في مُقابل هُزال ابنها الظاهر رُغم عنايتها الفائقة بغذائه، وحرمان (مُحَمَّد وفَاطْنَة) بسببه، حتَّى من العيش اليابس . وأمرت صبيِّها، يوماً ما، أن يتبعْهُمَا مُتجسسًا، عند نهاية الدَّوامِ بالحقل، في الوقت الذي كانا ينفردان فيه (عِجيلة أُمنا وأبُونا). وحضر ، ولكن، من بعيد، الولدُ الصغير، ورأى المشهد عندما بالت العجلة العسل وبعّرتِ السكر! فأخبر أمه عمّا رأى، فازدادت غيْظاً وفاض بها الحُنُقاً... وتملكتها الحيرة فتسآلت: - ماذا أفعل؟ لأنَّ التخلُّصّ من (مُحَمَّدٍ وشقيته فَاطْنَة) في غياب زوجها التّاجر، مُغامرةٌ لا يُؤمَن جانبُها... وانتظرت وبفارقِ الصَّبر، عودةَ زوجِها التاجر من السفر، و جهزت حيلتها بالتمارُض عليه، ودفعَهُ لذبحِ (عِجيلة أُمنا وأبُونا)، بعد أن اتفقت مع الحكيم (الطبيب) على أن يصف لها (كَبِدَ عِجيلة أُمنا وأبُونا) دواءً لدائها. وعندما رجع زوجُها، والدُ (مُحَمَّدٍ وفَاطْنَة)، من السفر، تمادت في تمارضها، وبكت وتأوهت أمامه، فجيء بالحكيم الذي كانت زوجة الأب قد حرَّشته ووصَّته، وقال للأب ما كان مُتَّفَقَاً عليه: - إن علاج عَائِشَة زوجته الوحيد هو: (كبدُ عِجيلة أُمنا وأبُونا)، لتأكلها بعد أن تطبخ الكبدُ في النَّارِ جيداً. واستأذن الوالد ابنيهِ (مُحمّدًا وفاطنة)، في ذبحِ (عِجيلة أُمنا وأبُونا)، فرفضا، وبكيا، وتمرّغا من الغضب واغبينة في التُّراب! ولكن والدَهُما، الذي كان حريصاً على شفاءِ زوجته وارضائها، قال لهما: - ليس أمامكما أي خيار سوى القبول بذبح العجلة! وقرَّر أن يذبح (عِجيلة أُمنا وأبُونا) بالقُوَّة، بعد أن جَلَدَهما، بسوطِ العنج، جَلدَاً مُبرِّحاً! ولكن (مُحَمَّداً وفَاطْنَة)، قالا كآخر حيلةٍ يملكانها لمنع ذبح العجلة: - يا عِجِيْلة أُمَّنا وأبُوُنَا ، ما تنقبضي! فتتفانت العجلةُ في تنفيذِ أمرهما وإرضاءِ رغبتهما، وتحاولُ الهرب بلا جدوى، فَتُناتِل بعد أن قيدوها، وتقاوِم، وتقُوم وتقَع، بحيث لم يكُن من الممكن السيطرة عليها... وتحت سِيَاطِ الجلدِ وبالقهر، يضطر (مُحَمَّد وفَاطْنَة) أن يأمرا العجلة بأن تهدأ... فتهدأ. ولكنهما يطلبان منها إلَّا تنذَبِح، فتُقاوِم العجلةُ ذبحَها، ولكن يتكالبُ على ذبحها رجالً أشداءٌ من أبناء الحي، وهم يحملون السكاكين الحادَّة في أيديها، وفي الأخير يلتف حولُها عشرةُ رجالٍ يلقُون بها أرضاً ويذبحوها... وبكى محمدٌ وانتحبَتْ فاطنة، وقالا (لعِجِيْلة أُمَّنا وأبُوُنَا): - ما تتسلخي! فتُطيعُهُما (عِجِيْلةُ أُمَّنا وأبُوُنَا)، وترفضُ أن تُسلخ، فيجتمع على سلخها أشداءُ القَومِ مرةً أخرى، وبعد زمن ينجحُون في سَلْخِها، ويَحْزَنُ الشَّقيقان (مُحَمَّدٌ وفَاطْنَة)، ويَطلبان من (عِجِيْلةِ أُمَّنا وأبُوُنَا) أن تُقاوِم الأشرار مرّةً أخرى: - (عِجِيْلة أُمَّنا وأبُوُنَا)، ما تتقطعي. فترفض (عِجِيْلةُ أُمَّنا وأبُوُنَا) أن تتقطع، ولكن الكثرةَ تغلبُ الشَّجاعة، ويُهدر الحقُّ والعَدلُ مرّةً أَخرى، فيُقطِّعُوا لحمَها. ويَطلُب (مُحَمَّدٌ وفَاطْنَة) من (عِجِيْلةِ أُمَّنَا وأبُوُنَا) الطلبَ الأخير، فيقُولا لها: - (عِجِيْلة أُمَّنا وأبُوُنَا)، ما تتطبخي. ولكن، تطبخ (عِجِيْلةِ أُمَّنَا وأبُوُنَا) ويُؤكَلُ لحمُها، فينتهي عهدُها، وينقطع عسلُها وسُّكرُها... وتُنسَى سِيرتُها لتذهَبَ معُها والإلى الأبد، ذِكرى وَالدة (مُحَمَّدٌ وفَاطْنَة) العزيزة. وبعد أن مرَّتْ أيامٌ على مَقْتلِ (عِجِيْلةِ أُمَّنَا وأبُوُنَا)، سافر أبُوهُما في واحدةٍ من رِحلَاتِهِ التِّجَاريَّة الطَّوِيْلة، ما كان أمام (مُحَمَّدٍ وفَاطْنَة) من شدَّةِ الجُّوعِ، إلا أن يأكُلا من سَبلاتِ عيشِ الريف النَّابِتَة في الحَقْل! ولكن، ضبطهُما عمُهُما وهما يأكلان بنهمٍ بالغٍ، من سَبَلاتِ عيش الريف ، فقد كان الجوع قد بلغ بها مبلغاً عتياَّ، وكانت (عَائِشَةُ) زوجةُ أبيهما الشريرة، كانت قد عبأت قلبه وأوغرت صدره تجاه (مُحَمَّدٍ وفَاطْنَة)، واقنعته بكسلهما، وشكت له عبثهما بالزرع أثناء غياب الرقيب... وعنفهما (العم) المتحامل ذو التصورات المسبقة والموقف المُحدَّد سلفاً، وجلدهما جَلداً مُبرحاً، فات حد التأديب، فجريا، هرباً من عقابه القاسي،وجرى عمُهُما الأرعنُ خلفهما. ولما أعياه الجري وفشل في اللحاق بهما، رمى خنجره في اتجاه (مُحَمَّدٍ)، واصاب الخنجر مرماه وغاص في ظهر الشاب اليتيم، وماتَ في الحالِ وفوراً. وأصيبت فاطنة بالهلع، وارتعبت، فزادت من سرعتها في الجري. ولمّا كادَ (العمُ) أن يلحقَ بها، وخافت من مصيرٍ يشبهُ مصيرَ أخيها (مُحَمَّدٍ)، صاحت (فَاطْنَة) بأعلى صوتها: - يا واطة ! يا واطة، فُورِي... وأبلعيني ! وفارت الأرضُ، ومَادت بها وابتلعتها. وبدأ العمُ الغاضبُ في الحفر، لإخراج ابنة أخيه () من باطن الأرض. وطفق يحفر ويحف، وفجأة، وفي وسطِ ذلك الخَلاءِ، ظهرت قافلةُ جَلّابَةٍ (قافلة تجاريّة) مرَّت بالعَم، وتوقفت عنده لتسأله: - عمّا يفعل؟ ولماذا يحفر؟ فقال العم للقافلة: - بفتِّش ليّا في فارة وبِت فَرْفَارة خَرَبتنِي و خّرَبت الجَّارة وُمَا خلَّت لَيْ عَمَارة فردت فاطنة من حفرتها تحت الأرض،وقالت مخاطبةً التجار في القافلة: - أنا مانِي فَارَة، يَا جَلّابَة! و لانِي بِتْ فَرْفَارة، يا جَلّابَة! ولانِي خَرَبْتْ الدَّارَة، يَا جَلّابَة! ده عِمِّي أَخَيْ أبُوْي، يا جَلّابَة! كَتَلْ مُحَمَّدْ أَخُوُيْ، يا جَلّابَة! فِشَانْ سَبَلة قَنْدُول، يا جَلّابَة! البِنْقُدا الزَّرْزُور ، يا جَلّابَة! ما شُفْتُو أَبُوْيْ، يا جَلّابَة! أَخدَرْ وُطَوِيْل، يا جَلّابَة! فُوْقُو تُوْب حَرِيْر ، يا جَلّابَة! وُجَمَلُو الهّدِّيِر، يا جَلّابَة! وصُوتُو الوَرِيْر، يا جَلّابَة! فيجيبها أحد ركاب القافلة: - أبوكي في القافلة الورانا! ثم تأتي قافلةٌ أخرى، تتوقف عنده لتسأله: عمّا يفعل؟ ولماذا يحفر؟ فيقول العمُ للقافلة: - بفتِّش ليّا في فارة وبِت فَرْفَارة خَرَبتنِي و خّرَبت الجَّارة وُمَا خلَّت لَيْ عَمَارة فترد فاطنة من تحت الأرض، مخاطبة القافلة: - أنا مانِي فَارَة، يَا جَلّابَة! و لانِي بِتْ فَرْفَارة، يا جَلّابَة! ولانِي خَرَبْتْ الدَّارَة، يَا جَلّابَة! ده عِمِّي أَخَيْ أبُوْي، يا جَلّابَة! كَتَلْ مُحَمَّدْ أَخُوُيْ، يا جَلّابَة! فِشَانْ سَبَلة قَنْدُول، يا جَلّابَة! البِنْقُدا الزَّرْزُور ، يا جَلّابَة! ما شُفْتُو أَبُوْيْ، يا جَلّابَة! أَخدَرْ وُطَوِيْل، يا جَلّابَة! فُوْقُو تُوْب حَرِيْر ، يا جَلّابَة! وُجَمَلُو الهّدِّيِر، يا جَلّابَة! وصُوتُو الوَرِيْر، يا جَلّابَة! واستمر العمُ في الحفر، إلى أن جاءت الجَلّابَة الأخيرة، القافلة التي كان فيها (والد مُحَمَّد وفَاطْنَة)، ورأى أخيه يحفر في الأرض، فسأله - عما يفعل؟ فردَّ عليه العمُ: - بفتِّش ليّا في فارة وبِت فَرْفَارة خَرَبتنِي و خّرَبت الجَّارة وُمَا خلَّت لَيْ عَمَارة وردت فاطنة من حفرتها في باطِنِ الأرض: - أنا مانِي فَارَة، يَا جَلّابَة! و لانِي بِتْ فَرْفَارة، يا جَلّابَة! ولانِي خَرَبْتْ الدَّارَة، يَا جَلّابَة! ده عِمِّي أَخَيْ أبُوْي، يا جَلّابَة! كَتَلْ مُحَمَّدْ أَخُوُيْ، يا جَلّابَة! فِشَانْ سَبَلة قَنْدُول، يا جَلّابَة! البِنْقُدا الزَّرْزُور ، يا جَلّابَة! ما شُفْتُو أَبُوْيْ، يا جَلّابَة! أَخدَرْ وُطَوِيْل، يا جَلّابَة! فُوْقُو تُوْب حَرِيْر ، يا جَلّابَة! وُجَمَلُو الهّدِّيِر، يا جَلّابَة! وصُوتُو الوَرِيْر، يا جَلّابَة! فعرفها أبُوها من صَوتِها، وأسرع لإخراجها من مخبئها، واستمع منها للقصّة الحزينة كاملة، وتألم لمقتل إبنه (مُحَمَّد)، وثأر له من أخيه (العَمِ الأبله)، وطلق (عائشة) زوجته الشريرة! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.