ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلمانية وتقرير المصير والطريق إلى النار .. بقلم: كوكو موسى
نشر في سودانيل يوم 29 - 01 - 2020

إن الحديث الذي يدور في الساحة السودانية هذه الأيام عن العلمانية وتقرير المصير ليس بالحديث الجديد ولكن هذه المرة قد يكون الحديث الأخير حيث قد لا تتوفر هذه الساحة ليدور فيها هذا الحديث مرة أخرى.
من المفهوم أن الحديث عن العلمانية وتقرير المصير هو مسألة حياة أو موت بالنسبة للأطراف المتواجهة الآن في هذه الساحة، ما يعني أن تحقيقه أو عدم تحقيقه يعني بطريقة أو بأخرى إنتهاء أحد هذه الأطراف مبدئياً. ونحن نسمع كثيراً أن هذه الأطراف يجب أن تتحلى بمسئولية تاريخية حتى تعبر هذه المرحلة والسودان بين يديها حي يرزق، وفي الحقيقة فإن هذا إكليشيه يراد منه تمييع المسئولية وإحراج المتضررين، ولتوضيح ذلك دعونا ننظر للقضيتين (العلمانية وتقرير المصير) من ناحية مبدئية لنضع أيادينا على الداء الذي يتهرب الطبيب من تشخيصه بل ويحاول التعديل في الطب نفسه ليوافق مصالحة الشخصية.
إذا بدأنا بالعلمانية فإن مدخلنا الصحيح لمعرفة إشكاليتها في سياقنا الحالي سيكون بالسؤال عن ماهية الدولة الحديثة في آخر شكل لها والذي يحاول الجميع ويطمحون للوصول إليه، في حين أن الذين قد وصلوا إليه يعملون على تحسينه كأي شيء غير مكتمل من ''صنع البشر‘‘، وهي إختراع بشري تم صنعه كتكنلوجيا إجتماعية لتؤدي غرض معين كأي إختراع آخر إخترعه البشر مثل السيارة والثلاجة! ومن المعروف بأن السيارة والثلاجة ليس لأغراضهما التي من أجلها تم صنعهما علاقة بالدين، وبأن الإنسان قد قام بتطوير التكنلوجيا لأغراض دنيوية بحتة. إن الأغراض الدنيوية البحتة هذه هي العلمانية. أي أن الدولة الحديثة هي بطبيعتها دولة علمانية وأي محاولة لإفراغها من طبيعتها سيجعلها دولة أخرى، وأنواع الدول كثيرة، فيا ترى أي دولة يريد ذلك الطبيب؟ مع العلم بأن التجربة والملاحظة وتراكم الخبرات وهي الأسس التي يقوم عليها العلم قد أثبتت بما لايدع مجال للشك بأن الدولة الحديثة في نسختها الأخيرة بكامل مؤسساتها هي أنجح ما يمكن الحصول عليه في الوقت الحالي. وأعتقد أن معظمنا يقوم سنوياً بالتقديم للوتري الأمريكي في ما يقوم البعض الأكثر يئساً ومغامرة بركوب البحر في مغامرة إنتحارية خطرة للغاية تصل نسبة الحياة والموت فيها لأكثر من خمسين في المائة لصالح الموت، فقط للوصول لأوربا والعيش كلاجئين هناك. في حين أن معظم من يريدون حرمان الناس من هذه الدولة الحديثة وهم القابضين على دولتنا سياسياً وإقتصادياً تجدهم يحجون لنفس هذه الدول ليتعلموا ويتعالجوا وليقضوا إجازاتهم هناك وأغلبهم أو أبنائهم من الحاصلين على جنسيات تلك الدول ومن ملاك العقارات والإستثمارات فيها وجل أموالهم موضوعة هناك. كل هذا لأن هذه الدول قد تم فيها تطبيق قيم معينة، هذه القيم قد تم التوصل إليها عبر مئات وآلاف السنين من التجربة البشرية المؤلمة، هذه القيم هي عين ما يتهرب منه المسئول الأول والأخير عن الأزمة وهم العصبة القابضة على الدولة السودانية منذ تأسيسها بشكلها الحالي المعروف والذي يضرب بجذوره منذ ما قبل التركية، ومن أهم هذه القيم مفهوم المواطنة الحديث.
إن مفهوم المواطنة الحديثة يقوم على إلغاء دولة الإمتيازات المغلقة وهي إحدى أشكال الدولة القديمة الموروثة من عهود ما بعد الزراعة، وهي توصف بالدولة ذات النظام المغلق، حيث أن الدولة تقوم على إمتيازات مغلقة على فئات محددة، وتحديد هذه الفئات ليس له علاقة بالجدارة أو العدالة أو المنافسة الحرة في ميدان يتم تهيئته للجميع، وكمثال بأن لايسمح لغير المسلم بأن يصبح حاكماً في دولة أغلبها مسلمون وبها عدة أديان حتى لو كان أصحاب الديانات الأخرى خمسة أشخاص، والنص على ذلك صراحة أو ضمناً مما يخلق إمتيازاً للمسلمين ويسقط المواطنة الكاملة حرفياً عن هؤلاء الخمسة أشخاص ويصبح من حقهم المطالبة بوطن خاص بهم، ناهيك عن إعلان أن الدولة إسلامية ممايعني الطرد الصريح لغير المسلمين الموجودين، ونظرياً عدم الترحيب بقادمين جدد من غير المسلمين كمهاجرين مثلاً، كذلك مثلاً جعل اللغة العربية اللغة الرسمية في دولة متعددة اللغات مما يخلق إمتيازاً للمتحدثين بالعربية كلغة أم في جميع مناحي الحياة ومن أهمها التعليم ويضمن سهولة حصولهم عليه وتفوقهم فيه ومقدرتهم على الإبحار في مناحي الدولة بسهولة ليست متوفرة لغيرهم من غير الناطقين بالعربية، ومن أمثلة الإمتيازات إعلان أن الدولة دولة عربية في دولة متعددة الأعراق وهو إعلان صريح لا شعوري بإقصاء الآخرين وإعطاء العرب وضع مميز عن غيرهم، وكذلك أن تقوم الدولة بفرض قيود معينة على النساء دون الرجال بل وفرض حدود صريحة لتقدمهن في السلم الإجتماعي منها عدم شرعية توليها مناصب معينة من ضمنها الحُكم، هذا غير الإحتكارات السياسية والإقتصادية لفئات أو عرقيات معينة في الدولة والتي يتم مواجهة محاولة كسرها بمقاومة عنيفة غير متناسبة مع محاولات الكسر العادلة تلك، فقد رأينا كيف تم تشتيت شمل الزغاوة حين بدأوا بالنهوض إقتصادياً وسياسياً ورأينا كيف أن من أهم أسباب التمرد في النيل الأزرق وجبال النوبة سياسة نزع الأراضي وتوزيعها كمشاريع للشماليين أو لشركائهم من المستثمرين العرب دون أن ينال صاحب الأرض أي شيء. ومن المعلوم أن من واجب الدولة تطوير هذا المواطن ليتمكن من إستغلال أرضه بنفسه ومساعدته في ذلك بدلاً عن إستبداله بدعاوي أنه كسول أو عديم الفائدة، فالكسولة وعديمة الفائدة هي الدولة نفسها لأنها صُنعت لتطوير هذا المواطن الذي هو ببساطة غير متطور وليس عديم الفائدة. إنظروا للقصص الملحمية لكيف قام لي كوان يو (سنغافورة) و مهاتير محمد (ماليزيا) بتطوير سكان بلدانهم الذين كانوا في أوضاع مزرية للغاية من الفقر والجهل والتخلف، ودور العلمانية في ذلك، وكيف قاموا بموازنات رائعة لمعالجة الإختلاف في درجات التطور بين السكان. ورأينا كيف أن نظام الإمتيازات هذا قد أغلق الدولة في وجه الجنوبيين تماماً ولا زال أثره قائماً عليهم إلى يومنا هذا ولهذا فلقد كان إنفصالهم حتمياً. إن حادثة مقتل د. جون قرنق والتي يحوم حولها الغموض حتى الآن هي في الغالب لاتعدو كونها إحدى فصول المقاومة العنيفة لمحاولات كسر الإمتيازات تلك والتي كان يمكن أن تؤدي لوحدة السودان، فالرجل هو الوحيد من خارج دائرة الإمتيازات الذي أحدث إختراقاً سياسياً نوعياً من دون أن يكون بترتيب من أصحاب الإمتيازات. إذاً فالمواطنة الحديثة تقوم على قفل باب الإمتيازات المسبقة بما فيها الدينية والعرقية أمام أي فئة في المجتمع بغض النظر عن ما إذا كانت أغلبية أم لا، وهي جزء لا يتجزأ من الدولة الحديثة والتي هي علمانية. كما إن الدولة يمكنها أن تعلن عن نظام مفتوح وتقر ذلك في قوانينها ودستورها وتنشئ مؤسساتها وفقاً للنظم والتقاليد المتعارف عليها في الأنظمة المفتوحة، ولكنها تظل دولة ذات نظام مغلق عن طريق وضع حدود غير رسمية للحد من الإستفادة الحقيقية من هذه المؤسسات المرتبطة بالنظام المفتوح كالأحزاب السياسية وحرية التنظيم، حقوق الملكية وتنظيم الشركات، .. إلخ. وتكون النخبة وهم محتكري الإمتيازات هي الوحيدة التي لديها مدخل كامل لهذه المؤسسات. لقد أثبتت الدراسات والأبحاث بصورة لا تدع مجالاً للشك بأنه لا يمكن لنسبة الدخل القومي للفرد لدولة ما أن يصل إلى خمس وثلاثين ألف دولار، وهو المستوى الذي حققته دول العالم الأول، إذا لم ينتقل نظامها الإجتماعي إلى شكل الدولة ذات النظام المفتوح التي لاتخلق إمتيازات لفئات محددة مسبقاً، ومرة أخرى هي دولة المواطنة الحديثة العلمانية.
إن من أهم الأسئلة التي نواجهها في المشكلة السودانية هي لماذا تتمسك النخبة الشمالية بالدولة الدينية والعربية وتقاوم دولة المواطنة؟ ووظيفة الدين في التركيبة السودانية للسيطرة على اللآخرين؟ لنحل لغز تمسك النخبة الشمالية التقليدية بالدولة الدينية وتردد اليسار الشمالي في مقاومة ذلك، وفي الحقيقة فهو ليس لغزاً بقدر ما هو إمتداد تاريخي لتكون هذه الدولة نفسها، ببساطة إنظر لطريقة تكون الطائفتين الأنصارية والختمية مثلاً ودورهما في تكوين السودان نفسه، ومن المهم أن ننظر لطريقة قيام الثورة المهدية، إن المجتمعات السودانية كانت ولا زالت هي مجتمعات ما قبل رأسمالية وأقرب الطرق للسيطرة على المجتمعات ما قبل الرأسمالية دون عنف وخسائر هي الدين وهو الوسيلة التي سيطرت بها الطائفتين المذكورتين على أتباعهما، وعلى أساسه قامت الثورة المهدية، حيث أنه في المجتمعات ما قبل الرأسمالية فإن المعرفة الوحيدة المتوفرة الموثوقة هي الدين، وبما أن سلطة المعرفة من أهم أشكال السلطة فلهذا قامت السلطة الدينية وهي بالضبط السلطة القائمة عليهما عائلتي المهدي والمرغني والنخبة التي تلتف حولهما، ومن المعروف أن النخبتين المهدية والمرغنية وحواشيهما هما من أكبر وأشهر النخب حيازة على الإمتيازات السياسية والإقتصادية وجميع أنواع الإمتيازات الأخرى في الدولة السودانية وغلقها في وجه الآخرين، ولهذا فإن أنجح منافسة داخل هذا الحقل لكسر إحتكار هذه الإمتيازات من هاتين النخبتين إستخدمت نفس الآلية، وهي الجبهة الإسلامية القومية. إنظر كيف أن المكونات الأخرى كانت في موقف المتفرج على هذه المباراة ببساطة لأن إمتياز الدين والعروبة قد أقصاها تماماً خصوصاً أن الأسرتين المؤسستين والقائدتين لهاتين النخبتين إدعت في مناورتين ذكيتين إنتمائهما لبيت النبوة أي أنهما كريمة - من Cream - العرب في السودان لتدعيم موقفهما الديني والعرقي، ولا يهمنا هنا صدق هذا الإنتماء من عدمه فهذا شأن يخصهم ولكن ما يهمنا هو الوظيفة التي يؤديها إدعاء هذا الإنتماء والذي يشكل إمتياز داخل إمتياز العروبة والأخير هو إمتياز معروف في السودان تحرسه الدولة وأعلنت عن ذلك صراحة دون خجل في العديد من المناسبات. لقد كانت نتيجة هذين الإمتيازين أن أحد المتفرجين وهو الجنوب قد مل المباراة خصوصاً وأن الكرة السودانية ليست بتلك الجاذبية وذهب لايلوي على شيء بعد أن قدم ما يفوق الإثنين مليون شهيد، فقط ليجد فرصة ليلعب! ولهذا فمن الطبيعي أن تتمسك النخبة الشمالية بالدولة الدينية والعربية لأنها تمثل إمتياز حصري للذين وجدوا حظ من السلطة والثروة والجاه منهم وتشكل إحتمالية واعدة لمنافسيهم في داخل الحقل الإسلاموعروبي كما أثبتت ذلك الجبهة الإسلامية القومية. أما المكونات اليسارية فمأساتها أنها أسيرة الحقل العروبي وخاضعة لإبتزاز الحقل الإسلاموي، وهذا ناتج عن ضعف قياداتها الفكري والقيادي رغم المقدرات التنظيمية المميزة لهذه التيارات، ويتبقى الخوف من خسارة الناخبين في داخل الحقل الإسلاموعروبي من أهم أسباب فشل اليسار السوداني، والنتيجة بأنه لم يستطع تطوير هذا الناخب ولم وغالباً لن يتمكن من تحقيق إنتصار إنتخابي في المستقبل المنظور.
المحور الثاني هو حقوق الإنسان ومايهمنا في هذه الحقوق تحديداً هو حق المواطنة الكاملة وعدم التمييز وحق تقرير المصير. من المعلوم بأن هذه الحقوق قد تواثق العالم على إقرارها بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحت مبدئياً ملزمة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ومن المعلوم كذلك بأن هذه الحقوق كأحد منتجات الحضارة البشرية قد تم التوصل إليها بعد تضحيات هائلة للبشرية ليتم التوصل لهذه القائمة البغيضة من الحقوق بالنسبة للأنظمة الإجتماعية المغلقة وهي الأنظمة التي تقليدياً تقوم بإنتاج الدكتاتوريات والشموليات كما في حالتنا السودانية، إن هذه الحقوق مبدئياً لا يجوز تحت جميع الظروف التفاوض عليها أو عرضها للإستفتاء أو التصويت وهي ليست محل مساومة، ومحاولات التلاعب بها يقود مباشرة للحروب الأهلية وحتى الخارجية وأظن أن هذا واضح في الحالة السودانية ولهذا تحديداً قامت التجربة البشرية بإنتاج هذه الحقوق وجعلتها ملزمة، ليس لشيء سوى إيقاف الحروب وجعل الإنسان يعيش حياة تليق به، وهاتين تحديداً المشكلتان التي يعاني منهما السودان، ولكن النخبة السودانية ترغب في إعادة التجربة البشرية لعلها تصل لصيغة تحافظ بها على مصالحها الغير مشروعة وحتماً فإن محاولة إعادة التجربة سيؤدي إلى إراقة الدماء السودانية لعشرات أخرى من السنين.
إذاً لماذا تتمسك النخبة الشمالية وهي النخبة السودانية الحاكمة بعدم إقرار حقوق الإنسان كاملة لكل السودانيين بجميع مكوناتهم بما فيهم الشماليين أنفسهم؟ أولاً وقبل كل شيء لأنه يعني إنعتاق النساء والشباب في مجتمع بطرياركي أبوي محور تماسكه قهري يعتمد على قهر السلطة الذكورية الأبوية للنساء والشباب ووضعهم في مرتبة دنيا تجردهم عملياً ورسمياً من الأهلية الكاملة التي تمكنهم من المشاركة في بناء مجتمع تكون أوضاعهم فيه أفضل كأفراد متساوين، والسلطة الذكورية هنا تمتد من الأب في الأسرة إلى رئيس الجمهورية قاطعة كل الطريق مروراً بالأستاذ والشرطي والعسكري والقاضي .. إلخ. هذه السلطة لديها فوبيا في مراحلها المتأخرة من إنعتاق النساء والشباب في السودان. ثانياً إن إقرار هذه الحقوق يعني إنعتاق الشعوب السودانية المضطهدة التي يتم إستغلالها ومناطقها في نظام إقتصاد الريع العشائري الذي تقوم عليه الدولة السودانية، خصوصاً حق تقرير المصير لأنه يعني إما أن أبقى معك على قدم المساواة دون أن تقوم بإستغلالي أو أن أقوم بفسخ هذا العقد الذي يبقيني معك، والعقد شريعة المتعاقدين الأحرار إلا إذا كنت تستبطن أني لست حراً وملك لك أنا وأرضي، وفي الحقيقة أنت تستبطن ذلك بل وموقن منه وأنا وأنت نعرف هذا جيداً.
بقي كنقطة أخيرة أن نوضح لماذا تكون المفاوضات مع الحركات النضالية للهامش شديدة الصعوبة؟
أولاً للمرتكزات الخاطئة التي تفاوض على أساسها الدولة السودانية الآخرين. إنها بإختصار تفاوضهم على حقوقهم الأساسية في أن يكونوا بشر متساوين. فإذا إفترضنا من جانب الحركات التحررية المسلحة بأنها تفاوض نيابة عن الهامش كما هو معروف ومحدد (وعملياً عن النساء بالمناسبة) فبإعتباري مهمش مثلاً أستطيع أن أقول بأنها تفاوضنا كهاتين الفئتين على أن نتخلى عن حقوقنا كبشر أحرار متساوين كاملي الإنسانية.
ثانياً إن التفاوض يكون معنياً بمسألة الديموقراطية وقرار الأغلبية باردة الأحاسيس والتي لأسباب تاريخية وثقافية ليست متعاطفة مع ما تعتبره أقليات سيتسبب الإنجرار خلف مطالبها إلى إنهيار مرتكزات مجتمع الأغلبية والتي هي مرتكزات خاطئة من الأساس، وأن الإحتكام إلى الديموقراطية لايعني إلغاء مسائل شديدة الأهمية في حياة الأقلية، ولكن العكس ليس صحيحاً في حالتنا لأن المسائل الشديدة الأهمية بالنسبة للأغلبية تقوم على مرتكزات خاطئة لايمكن المجاملة فيها وهذا يقودنا كمثال إلى مسألة التهديد بالمؤتمر الدستوري، والذي بسببه تحاول النخبة التي تفاوض بإسم الدولة جعل المفاوضات عبارة عن مفاوضات في مسائل إجرائية تقود إلى المؤتمر الدستوري والذي سيتم فيه حسم النزاع عن طريق الأغلبية المكنيكية بإعتبار أن العدالة والديموقراطية تقتضي ذلك ولهذا لايجب إتخاذ قرارات مصيرية ورئيسية في ما يخص مستقبل الدولة وطبيعتها وحقوق مواطنيها في عملية المفاوضات. إن قسم كبير في مبادئ الفلسفة السياسية الحديثة يقوم بنقاش ومعالجة مسألة الديموقراطية وجدلية الأغلبية والأقلية وهي ترتكز إلى حد بعيد على حماية حقوق الأقلية، خاصة مما يمكن تسميته بالأغلبية غير الصديقة، بترتيبات دائمة يصعب خرقها للأغلبية والسبب الرئيس ليس سواد عيون الأقلية بل لأن هذه الأغلبية نفسها قد تجد نفسها في يوم من الأيام أقلية تحت رحمة أغلبية تعرف جيداً ما ذا فعلت فيها من قبل عندما كانت أقلية! كما أن هناك أقليات وضعها كأقلية مزمن ومن الصعب أن تتحول لأغلبية the intense minority و the persistent minority فهل يعني هذا أن القرارات ستتخذ دائماً لمصلحة الأغلبية؟ وهذا بالمناسبة جزء يسير من الجدل والنقاش الفلسفي في هذه القضية. وفي حالتنا قطعاً إن الإسلاميين والعروبيين سيشكلون أغلبية في المؤتمر الدستوري وكلنا يعرف جيداً بأن الإسلاميين والعروبيين ليسوا هم فقط المؤتمر الوطني والبعث أو القوميين العرب، بل أن هؤلاء أقلية في وسط العروبيين والإسلاميين، مما يعني عملياً إجهاض أي إتفاق يتم التوصل إليه في المفاوضات إذا لم يكن مشروطاً بعدم طرحه في المؤتمر الدستوري، وكذلك يعني الهزيمة الحتمية لأي طرح لإتفاق تضعه ما تعتبر أقليات وهي الأقليات العرقية والدينية أو ما يعرف بالهامش بالإضافة للحركة النسوية المستنيرة في هذا المؤتمر، هذا إذا إفترضنا ترحيل الأمر برمته للمؤتمر الدستوري كما تشتهي النخبة المسيطرة على الدولة. وفي الحقيقة إذا كانت هذه النخب مخلصة لجميع المواطنين السودانيين فإن أنسب وقت لحماية الحقوق الجوهرية للأقلية من تغول الأغلبية لاحقاً في المؤتمر الدستوري هو مفاوضات ''السلام‘‘، والتي من إسمها يعني أن عدم حماية هذه الحقوق يعني الحرب. يجب أن يعي المفاوض عن الدولة بأن هذه الحركات لم تُهزم بعد وبأنه من غير الممكن أنها سوف تقوم بإلقاء السلاح لتتلقى هزيمة محققة في ''مؤتمر دستوري‘‘. إن حوار الأغلبية والأقلية قطعاً ليس هو الحوار الذي تحاول أن تُقنعنا به النخبة الشمالية، وهي عمداً تعمل على تجهيل قواعدها بأن الديموقراطية عن الأغلبية الميكانيكية حتى إذا قامت في المستقبل بإتخاذ أي قرار غبي عن طريق هذه الأغلبية وأدى هذا القرار إلى نتائج خطيرة تكون هي غير مسئولة عن هذه النتائج وتلقي بكل اللائمة على الأقلية المشاكسة الشريرة العميلة التي لاتريد أن تلتزم بقواعد الديمقراطية، وهذا يطرح سؤال مهم في الفلسفة السياسية وهو تحت أي ظروف تكون الديموقراطية ممكنة من الأساس؟ الإجابة هي الدولة العلمانية التي يتم فيها إقرار حقوق الإنسان وتطبيقها فعلاً. هذا لنكفيك عناء القراءة الطويلة في هذا الموضوع.
هذا يدعونا للتفكير في شخصية المسلم التقليدي ''الصحيح‘‘ في معظم المذاهب، وهو الماعون الذي يستغله الإسلامويون في مجتمعنا، ويتشكل منه نخبتهم وبالتالي فكرهم المقاوم بطبيعته للعصر وعدم مقدرتهم على التكيف والمواكبة، وفي نفس الوقت عدم مقدرتهم على تقديم بديل سوى الخراب والدمار والفساد والإقصاء الصريح للغير، فإذا عرفنا أن الديموقراطية - عكس ما تحاول أن تعكسه لنا النخبة الإسلاموعروبية - هي نظام للوصول للقرار السياسي عبر النقاش المفتوح لكل من يعنيهم ويهمهم الأمر داخل الدولة، ويتم إفتراض أن المعنيين لديهم الإرادة للإستماع لنقاشات ومعطيات الطرف الآخر ووزنها وفق معايير العدالة والمنطق، وبأنهم سيقومون بتغيير رأيهم ونظرتهم وفقاً لذلك. فهل ياترى أن شخصية صاحبنا أعلاه تسمح بذلك؟ فماذا إذا تعارضت نتيجة النقاش العادل والمنطقي مع نصوصه وتفاسيره الدينية؟ فهل سيقوم بالقبول بالرأي الآخر ويصوت وفقاً لذلك؟ بالتأكيد لن يقبل، لأن هذا فوق إرادة الله وأن آرائنا هذه كبشر ليست محل مقارنة مع ما أنزله الله ولا يمكن أن تحل محله. هنا الحل الوحيد هو نزع هذا المفهوم عن تفكير هذه الشخصية وأن يكون محسوماً معه أن هذه الدولة ليست لها علاقة بالله وبأنها من صنعنا نحن البشر لكي ندير فيها شؤننا الدنيوية وليست الدينية، وأنها ليست محل تعبد، وأن لإدارة الشئون الدينية والتعبد محل آخر غير الدولة، وبأن الدولة ليست طائفة دينية. وبما أن هذه الشخصية غالباً سترفض فهذا يفسر سبب أن الحوار مع هذه الشخصية في أي مكان تتواجد فيه مع الغير في حيز واحد يفرض تعايشاً مشتركاً ينتهي دائماً بصاحبها بأنه إما أن يَقتل أو يُقتل.
هذا يفسر لماذا أن المثقف الإنسانوي يجد صعوبة بالغة إن لم يكن إستحالة أحياناً في التحرك في مجتمع صنعته مثل هذه الشخصية. لكن خضوع هذا المثقف لضغط قاعدته الإثنية أو الدينية (هذا الخضوع يمكن أن يكون مقبولاً من السياسي) بل والتواطؤ معها يجعله أشبه براقص تعري يتخلص من ملابسه الأخلاقية قطعة قطعة حتى يتعرى أخلاقياً تماماً أمام الجمهور.
خاتمة
المخيلة الشمالية وخطورة الآيدلوجيا الشعبية:
إن المخيلة الشمالية عن الآخرين في السودان والتي تغذيها النخبة وتستغلها لها دورها الرئيس في مقاومة العلمانية وحقوق الإنسان الحديثة، وذلك مخافة التساوي مع الآخر مما يفتح الطريق على سيطرة مكونات أخرى على الحكم والإقتصاد، وفرضية أنهم كشماليين مستودع للقيمة الأخلاقية بإعتبارهم مسلمون وعرب إختارهم الله كغيرهم من العرب والمسلمين في البلدان العربية والإسلامية الأخرى ليكونون هم الأعلون ويحكمون أمر الله، وخطورة أن الآخرين قد يكونوا مستودع لعدم الأخلاق المطلق إما لأن الله لم ينعم عليهم بالإسلام أو العروبة وفي أقصى الحالات خطورة أنه لم ينعم عليهم بالإثنين معاً (ليسوا عرباً أو مسلمين) وبالتالي فمن المنطقي أن لا تسند المسئولية لشخص كهذا! وفي الحقيقة يجب أن لايكون حتى مسئولاً عن نفسه وكلنا يعرف ذلك، ناهيك عن أن هذا الشخص لدي معظم أصحاب هذه المخيلة هو نجس حرفياً!! كما أن الله قد أنعم عليهم بنعمته كاملة وهي الإسلام والعروبة، وهذه حقيقة والدليل مثلاً أن الغالبية على إستعداد للعيش في ظروف مريعة للغاية بالنسبة للمستوى العالمي للحياة للحفاظ على هاتين النعمتين مما يدل على أنهما يمثلان النعمة الكاملة وما عداها فضل أو ثانوي، كما أن الله بسائلهم عن هذه النعم يوم الحساب ويحملهم المسئولية كاملة عن فقدانها، ومن الطبيعي أن أقرب الطرق لفقدانها هو إقرار حقوق تبطل دور هاتين النعمتين في الحياة العامة مما يعطي فرصة لفاقد هاتين النعمتين أن يعتلي قمة الهرم الإجتماعي في مجتمع مفتوح كما وصفناه في أحدى الفقرات أعلاه، وفاقد الشيء لا يعطيه بل وسيقوم بتضييع هذا الشيء نفسه إذا وجد مما سيجعل الحساب عسيراً يوم الحساب وهو أقرب الطرق إلى النار.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.