لو أنك تفحصَّت هذين الراقصين اللذان يحتكران المسرح السياسي، ستجد آلاف الأسئلة تدور حولهما في ذهنك. * ليسوا بالكثرة العددية التي تخولهما إدارة الحياة السياسية والاجتماعية. ولم ينتدبهما الشعب ليقوما بهذا الدور ولم يمنحهما تفويضه، فهم في عديدهم يمثلون القلة بين جماهير الشعب السوداني. * ثانياً، هم ليسوا الخلاصة التي تتجسد فيها القيم الأخلاقية والسلوكية لهذا الشعب، ولا هم الأكثر وطنية بين الناس. وتاريخهم منذ استقلال السودان إلى اللحظة يؤكد عكس ذلك تماماً، طالما كل ما يهمهم كرسي الحكم والمكاسب الشخصية، وما يتوهمونه مجداً ذاتياً. * ثالثاً، هم فاشلون في أداء ما يمتهنونه حرفة ويتخذونه مهنة. فالسياسيون وأحزابهم فشلوا في الحفاظ على ما حققه الشعب من استقلال وثورات، وفشلوا بإمتياز في تحقيق أبسط مطالبه، وهو الحفاظ على الوطن بالمساحة التي استلمها من المستعمر، كما فشلوا في تنميته، وتوفير أبسط متطلبات الحياة الإنسانية الكريمة لمواطنيه. ولا يضاهيهم في فشلهم سوى فشل العسكر في حماية حدود الوطن الذي يصرف لهم رواتبهم وامتيازاتهم التي حُرم منها المعلمون، الذين هم بين الأمم بمثابة الرسل. ولم يجيدوا من فنون القتال سوى حروب شوارع المدن السودانية، وقتل العزل من أبناء وبنات الشعب وترويعهم وإذلالاهم، والانحناء والتزلف لقادة الدول التي تتآمر على السودان وتكيد له وتحتل أراضيه. فاشلان في أداء وظائفهما، ويصران على حكم السودان كله وإدارته!. وحتى لا نتهم بإلقاء القول جزافاً دعنا نلقي نظرة على المؤسسات التي يديرانها. وتسطيع بنظرة سريعة خاطفة أن تكتشف بأن السودان لا يمتلك جيشاً، بمعنى كلمة جيش. ولا يملك أحزاباً تستحق هذا الاسم. (دولة بلا جيش .. أم جيش بلا دولة) - عندنا جيش؟ إذن ما هي عقيدته القتالية؟. - حماية الوطن والمواطنين والدستور، أم حماية الدين والحكومة والحاكم؟. في افتتاح مسجد "حميدتي" بحي جبره، خطب البرهان قائلاً بأنهم لن يسمحوا المساس بالاسلام والشريعة، فهل هذه مهمة العسكر في دولة مدنية؟. هل هذا شأنه كعسكري؟. هل الجيش جيش الإسلام والمسلمين، أم هو جيش السودان والسودانيين؟ّ. - الجيش لا دين له، لأن وظيفته حماية تراب الوطن، وحماية الشعب والدستور. وبالتالي فإن الجيش الذي يدين بالولاء لدين قائدة يعتبر مليشيا دينية مسلحة، خاصة بقادة تنظيمه الديني. - جيش تتوزع ولاءات أفراده بين الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والطائفية: شيوعيين وقوميين وإسلاميين وجهويين. يمكنك أن تطلق عليه أي صفة، ولكنه ليس بجيش. - البشير قال أنه سأل الترابي عندما أمر الأخير بحل الحركة الإسلامية: "الدولة دي حقت منو؟". ولم ينتظر إجابة شيخه، بل بادر مؤكداً: " نحن يا شيخ حسن قناعتنا أن الدولة دي ملك للحركة الإسلامية". لماذا؟ لأن قيادة تنظيم الإخوان أمرتهم بالاستيلاء على السلطة. فهل مهمة تحديد هوية الدولة ضمن مهام الجيش وضباطه؟!. - جيش، بقرار فوقي من قائده يقوم بضم مليشيا قبلية مستقلة بسلاحها الذي لا يخضع للقيادة العليا للدولة، وتمتلك شركات واستثمارات داخل وخارج البلاد، تبيع وتشتري خارج ولاية وزارة المالية .. ليس بجيش. - جيش يُقتل مواطني دولته العزل وتغتصب حرائره وترمى جثث شبابه في النيل أمام بوابة قيادته العسكرية، فيغلق أبوابه في وجه من احتموا به، ويعجز عن حمايتهم، وينتظر منه أن يحمي حدود السودان المترامية الأطراف، لا يمكنك أن تسميه جيشاً. - أي جيش في العالم هذا الذي ينبري أحد ضباطه للتشكيك في حكومة الدولة، بتصريحات صحفية، ويفتي بعدم محاكمة مجرم اعترف أمام القضاء بفساده. ثم يهدد مكون مدني يشارك في السلطة بالحرب، ولا يتعرض للمساءلة من قيادته، التي عزلت ضباطاً أصغر رتبة انحازوا للعُزَّل أمام القيادة بدعوى أن "من يريد أن يمارس السياسة مكانه ليس في الجيش"؟!!. - جيش يتدخل في توجيه السياسة الخارجية للدولة، ويتدخل في النزاعات بين دول صديقة، ليس بينها وبين دولته حرب، وينحاز لطرف دون طرف، ويؤجر أفراده بسلاحهم للقتال في دولة أخرى .. ليس بجيش. والدولة التي يجرؤ جيشها على فعل ذلك ليست بدولة. - جيش يملك إمبراطورية اقتصادية تشمل شركات متنوعة النشاطات التجارية وصناعات واستثمارات مالية، خارج رقابة سلطة الدولة المالية ونظامها الضريبي. هل جيش هذا أم دولة داخل الدولة؟. - جيش أراضيه تحتلها دول حدودية مجاورة، وتتوغل عصابات النهب المسلح الأجنبية داخل أراضيه ، تقتل وتروع المزارعين وتنهب محاصيلهم ولا يحرك ساكناً، ولكنه يستخدم القوة القصوى ضد مواطنيه السلميين، ويطارد الشباب في الشوارع ليحلق رؤوسهم حفاظاً على الأمن العام .. ليس بجيش. - ودولة من عمر استقلالها ال68 سنه، يحكمها العسكر 52 سنة، ليست دولة. باختصار، إنه واحد من اثنين: - إما أن السودان دولة .. ينقصها جيش. - وإما أن هناك جيش ولكن .. تنقصه دولة. (غربة الديمقراطية بن الأحزاب) أما عن الأحزاب السياسية فحدث ولا حرج. وقد كتبت، ومنذ الثمانينات – عدد كم من المرات لا أدري – حول البنية الطائفية/ العشائرية لأحزابنا السودانية، "وأوضحت بأننا لو طرحنا جانبا غلالاتها الأيديولوجية التي تتبرقع بها كأقنعة، سنجدها مجرد طوائف، تحاول عبثا ،أن "تتعصرن"، ولا يمكنك أن تستثني الأحزاب العلمانية أو التقدمية – سمها ما شئت – من هذا، وإلا كيف يمكن كان أن يحل "نقد" في موقع سكرتارية الحزب الشيوعي لو لم يبعد نميري الشهيد عبد الخالق محجوب من هذا الموقع اغتيالا، وكيف يمكن أن يعتلي الخطيب السكرتير الحالي للحزب الشيوعي، لو لم يتوفي الله السكرتير السابق عن واحد ثمانين عاما بلندن يوم (الخميس 22 مارس 2012 م) ؟!. إن الحزب العلماني الذي يعبر عن الحداثة السياسية والفكر التقدمي في السودان، ظل منذ تأسيسه في عام 1939 كما تقول وثائق الحزب، وممارسته النشاط السياسي الفعلي في عام 1946 يخضع لسلطة الزعيم الفرد، ولأكثر من 67 عاما، هي تاريخه كله، لم يتوالى على رئاسته سوى زعيمين !!. هذا عن الحزب التقدمي الذي يعبر عن الحداثة السياسية. ما يغنيك الحديث عن الأحزاب الطائفية التي تقوم على الولاء المطلق لمرشد روحي يتمتع بالقداسة ،وبالسلطة المطلقة مثل تلك التي يتمتع بها الصادق المهدي زعيم "طائفة الأنصار" المهدوية ورئيس "حزب الأمة السياسي" معاً، أو "الميرغني"!. ويدلك على طائفية وعشائرية البنى الحزبية إن قراراتها جميعا، "تتنزل" هابطة من البطريارك الأكبر إلى القاعدة، ولا "تصعد" من الاتجاه المعاكس/ القاعدة. ولذا يستطيع رئيس الحزب أن ينحرف بالحزب كله مائة وثمانون درجة في مواقفه، متسببا بدوامات التفافاته ومناوراته البهلوانية هذي في إرباك قاعدته، بل وبين قيادات حزبه العليا والوسيطة. لذا، بقدر ما بنية الأحزاب الفوقية "تسلطية"، بقدر ما قاعدتها الجماهيرية هي "امتثالية"، الأمر الذي يؤدي إلى تجريد هذه الجماهير من قدرتها على المبادرة والتعبير عن نفسها واستثمار رصيدها النضالي، ويحرمها من استثمار ما هو كامن فيها بالقوة من إمكانات، لتغرق في مستنقع اليأس والإحباط . ولعل هذا الواقع يفسر لنا هذا الانحسار والتآكل المتواصل في رصيد الأحزاب السودانية – ولو تحرينا الدقة لقلنا والعربية أيضا – من الجماهير، التي أخذت تتنائى شيئا فشيئا بنفسها عن هذه الأحزاب العاجزة. (1). ما تخلص إليه من هذا أن الأحزاب السودانية غير مؤهلة للعمل في فضاء ديمقراطي لأنها هي نفسها غير ديمقراطية مبنى ومعنى. هي أحزاب مضادة في بنيتها ومن حيث جوهرها للديمقراطية. - لا تؤمن بسلمية تداول السلطة، لأنها ديكتاتورية - ولا بالمؤسسية لأنها تقوم على الشخصنة، وعبادة الفرد/ الزعيم/ السوبر - ولا بتعدد الآراء والأفكار لأنها تقوم على الطاعة والامتثال. ولكنها وبطريقة مخادعة تقول أن الطاعة والامتثال تكون لما تقرره مؤسسات الحزب ولجانه .. وتبحث عن هذه المؤسسات واللجان فلا تجد سوى "ظل" الزعيم وكلمته المهيمنة. فهل هذه أحزاب تعبر عن جماهيرها، أو أنها منابر للجماهير لتعبر عن نفسها من خلالها؟!. ولك أن تسأل بعد الإجابة على هذا السؤال: هل دولة حديثة يمكن أن تتأسس بغياب تعاقد اجتماعي عادل ترتضيه وتلتزم بدستوره كل الجماعات التي تحتويها الدولة، وبغياب مؤسسة عسكرية حديثة، ومؤسسات سياسية مدنية/ أحزاب تتمخض عنها سلطة تشريعية؟. :::::::::::::::::::::::::: هذان هما الراقصان ... وهذه هي رقصتهما الدائرية المملة، رتيبة الحركات.. وقد آن لها أن تنتهي. ولكن كيف؟. مصادر وهوامش (1) عزالدين صغيرون، فصل بعنوان "ولكن أين هي الأحزاب؟"، من كتاب: "متلازمة العصاب الأيديولوجي القهري: عبد الوهاب الأفندي نموذجاً"، نشر في الراكوبة يوم 20 / 12/ 2012. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.