عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تناولنا على مدى مقالين قضية علاقة الجيش بالسياسة حيث أبَنا بجلاء أن الشعوب تقدر جيوشها لأنهم حماتها ولنا في السودان ولع اضافي بالفوارس وبالفروسية و الشجاعة وبمن يكون (كاتال في الخلا وعقبا كريم في البيت) كما أوضحنا أن مهام الجيش تمكنه من قوة قد تكون باطشة متى ما حادت عن الدرب، لذلك لابد من اخضاع أفراده لإعادة تنشئة وتكييف اجتماعي لضمان أن لا يتحول الحماة المفترضين إلى معتدين فيقتصر استخدام السلاح على الدفاع عن الأمة ومقدراتها. ثم تناولنا في ثاني حلقات هذا المقال، ضمن اطار نظري استعراضا لخمس نظريات تشكل علاقة الجيش بالسياسة وأوردنا أمثلة على تلك العلاقة فيما طرحه الدكتور عزمي بشارة وما رسمه صمويل هنتتجتون لتصور العلاقة بين الجيش والسياسة إبّان الحرب الباردة كما تناولنا واقع تلك العلاقة في أفريقيا ..والمثال الرابع الذي يمثل علاقة الجيش والسياسة سنأخذه من السودان على ضوء دراسة العميد معاش عصام الدين ميرغني .. برغم أن الانسان هو الانسان لكن الانسان ابن بيئته، تختلف حاجاته بحسب ظروفه المحيطة كما تخضع معالجاته للقضايا وما يواجه من مشاكل لمؤثرات كثيرة .. دراستنا لنماذج عديدة للعلاقة التي نناقشها اليوم ومنذ اسبوعين تمكننا من الاستفادة من رؤى مختلفة لتجنبها أو تبني ما يناسبنا منها..وفي الإطار سأكتفي بالتعرض لنماذج أقل مما وعدت به فليعذرني القراء على خلف الوعد بسبب أن المادة كبيرة جدا ولا يصلح ابتسارها في المساحة المحددة اضافة للتداخل والتشعيب الذي يحسن تناوله في مجالات التخصص . لذلك سنكتفي بأهم انطباعاتنا عن رؤية دكتور عزمي بشارة عن علاقة الجيش بالسياسة في العالم العربي وخلاصات دكتور حمدي عبدالرحمن عن تلك العلاقة في أفريقيا بحكم انتمائنا للعالمين العربي والأفريقي . يرى الدكتور عزمي بشارة عند مناقشته لعلاقة الجيش بالسياسة في العالم العربي حتمية تلك العلاقة بسبب أن مؤسسة الجيش في مجال دراسته المكاني أكثر تماسكا من مؤسسات المجتمع الأخرى وعندما يتطرق للانقلاب يتناوله كأمر واقع وليس كشيء سالب .. ربما كان من المناسب هنا لفت نظر القاريء للمشاكل الكامنة في تلك الفرضيات دون قدح في اطلاع وخبرة د.بشارة الواسعة: المشكلة الأولى التي تنشأ عند تدخل الجيش في السياسة إدارة مؤسسة مدنية بعقلية عسكرية، حيث الطاعة المطلقة للأوامر واللانقاش من متطلبات مؤسستها لأداء جيد.. المشكلة الثانية تنشأ عند انشغال الجيش بأمور الحكم منصرفا عن أهم ما يصقل ويجود مطلوبات مهنته وهو التدريب. المشكلة الثالثة أن إدارة الأمور بأولوية النظرة الأمنية تؤدي لتعقيدات اضافية في القضايا المشكلة الرابعة والتي تؤدي لأسوأ النتائج يتحول الجيش الى مؤسسة تستوعب من يؤيدون نظام الحكم خوفا من تمرد حملة سلاح فتضيع قومية الجيش ولا يصلح بعدها لحماية وطن بمكونات عديدة.. المشكلة الخامسة بالطبع تؤدي السيطرة الكاملة للجيش على مناحي الحكم لزيادة اضعاف المجتمع لمزيد من الهشاشة .. وأخيرا يتحول الجيش لبؤرة فساد بحسب أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. الملاحظ بالنسبة لدراسة د.حمدي عن تدخل الجيش في السياسة في أفريقيا أنه تكلم عن تلك العلاقة من منظور اشكالات التحدي الديمقراطي وتبدو الأسئلة التي طرحها لمواجهة ذلك التحدي أقرب الى ما نتطلع اليه من محاولة ابعاد الجيش عن السياسة في السودان كما يحمد للوضع في أفريقيا عموما أن الاتحاد الأفريقي قد قرر عدم الاعتراف بالنظم الانقلابية . على الصعيد الوطني بنظرة سريعة حتى لا ندخل في مقاربات التخصص نحبر على أن افتراضات د.عزمي لا تعنينا في شيء إذ تبدو متصالحة مع حكم العسكر والانقلاب : فالمجتمع المدني السوداني متقدم على الدولة بعكس كل ما يفترضه غرامشي من أن الدولة الهشة تلد مجتمعا هشا. كما أن الجيش السوداني فقد تماسكه وقوة مؤسسته بسبب التدخلات السياسية واختراق الأحزاب له ولبعده عن التدريب بسبب انشغاله بالحكم. وفي السياق نطمئن لما ختم به العقيد معاش عصام الدين ميرغني دراسته التحليلية للانقلابات العسكرية ومقاومة الأنظمة الدستورية في السودان بعنوان: (الجيش السوداني والسياسة) : (أنه ومنذ انشاء قوة دفاع السودان في 1925 التي تطورت الى الجيش السوداني 1954 ثم قوات الشعب المسلحة 1969 وأخيرا القوات المسلحة السودانية 1985 تدخل القوات المسلحة القرن الجديد وهي أقل انضباطا واحترافا وقومية مما كانت عليه في كل المسميات والحقب الماضية بسبب انهاكها من الحروب الأهلية وأهواء 3 نظم دكتاتورية ففقدت انتظام النمو والتطور وتعرضت للهزات والتصفيات مما أضعف قدراتها القتالية وتقاليدها الراسخة وانتمائها القومي فأضحت مؤسسة غير قادرة على تحقيق الأهداف الوطنية المطلوبة منها في سودان المستقبل) خاتما بأنها-أي قوات الشعب المسلحة (ستشكل تهديد واضح في وجه كل المحاولات لإعادة بناء وترسيخ النظام الديمقراطي المدني ما لم تعالج أوجه قصورها وتلوثها بصورة جذرية وبمنطلقات وتوجهات وبناء قاعدي جديد تماما).. إضافة لما ذكره العقيد معاش عصام الدين ميرغني، كان لزاما علينا أن نعرض هذا الأمر على أهل الاختصاص للوقوف على توصيف الحال في الجيش وكذلك لاستشراف المستقبل والاصلاح الممكن فاتضح لي من النقاش تناولي السابق لبعض النقاط بتعميم مخل في الجزء الأول من مقال (الجيش في السياسة لزوم ما لا يلزم) على هدى ما ذكره عقيد معاش محجوب برير بخصوص حلم كل الضباط وضباط الصف بالسلطة فربما صح ذلك الافتراض في الفترة التي كتب فيها محجوب برير وهي فترة ساد فيها اعجابا مبهورا بانتصار الثورة المصرية على النظام الملكي في مصر وانبهارا طاغيا بشخصية جمال عبد الناصر،اعجابا رأيناه يفجر مشاعرا قوية وشعرا ممجدا ومدا ناصريا من المحيط للخليج، طالنا في السودان بعضه حيث مجده الشاعر ابو آمنة حامد بقصيدة تغنى بها الفنان الفذ عبد الكريم الكابلي (جمال العربي). ألهم نموذج الضباط الأحرار سلسلة من الثورات(الانقلابات) منها مثلا حركة الفاتح من سبتمبر 1969 في ليبيا بقيادة معمر القذافي ومنها انقلاب 25 مايو 1969 بقيادة جعفر نميري. ( هناك من يقول أن انقلاب مايو لا يمثل انعكاسا للاعجاب بالمد الناصري بل هو من قبيل التدخل المصري السافر في الشأن السوداني وقد كتب ذلك في مذكراته بعنوان (صفحات منسية) الحبيب الشيخ الطاهر ذاكرا أن انقلاب مايو صناعة مصرية تم طبخها في القاهرة... المهم أن هذا المد المدمر انحسر ولله الحمد والمنة نتيجة لفشل تلك النماذج في إدارة ناجحة ولم يصح إلا الصحيح بخصوص تدخل الجيش فيما لا يحسنه.. كان من رأي محدثي أنه على عكس ما شهد به عقيد معاش محجوب برير فلدى كثير ممن هم في الجيش السوداني تحفظا واضحا على تدخل الجيش في السياسة برغم مما قد ينالونه من مصالح ومكتسبات ذاتية في العهود العسكرية. ذلك أن هذا التدخل هو حتما على حساب المهنية والتميز الوظيفي والتراتبية العسكرية فتحفظهم نابع من حبهم لمهنتهم .. فإن كان هناك طموح في السلطة فربما انحصر في القيادات العليا ومنهم من تمت ترقيته على أساس الولاء في نظم تقدم الولاء على المهنية، ضاربا المثل بما حدث في 11 ابريل 2019 وقد كان نتيجة للانحياز الفعلي والفعّال من الرتب الوسطى والرتب الدنيا التي حدث في أوساطها تململا مشهودا قبل ذلك بكثير وهو قول يتفق مع ما رأيناه من تفاعل وتعاطف الجيش مع الثوار وحمايته لهم كأفراد في ثورة ديسمبر وفي اعتصام القيادة و تقفز هنا أسماء رنانة مثل النقيب حامد عثمان حامد والمقدم ركن طيار خالد البدوي وملازم طيار عمر الفاروق والضباط الذين تم ايقافهم وايداعهم السجن الحربي هذا يعني أن قيادات الجيش انحازت عندما صار تيار دعم الثورة جارفا لا يمكن الوقوف في وجهه دون عواقب وخيمة أو بتعبير بروف عبدالله علي ابراهيم (كان ما عملوها الكبار بعملوها الصغار) .. من الاضافات المهمة في هذا الملف لفهم ما يحدث وتقرير ما ينبغي أن يحدث الكلام عن أوضاع الجيش حاليا بخلفية ما تعرضت له المؤسسة العسكرية من نظام الانقاذ المباد ..فقد كان تعويل النظام كبيرا على الجيش في المرحلة الأولى وحرص على اختراقه بمن ينتمون للحركة الاسلامية لدرجة أن دفعة كاملة في الجيش كانت منهم لكن بسبب حرب الجنوب فقد معظم هؤلاء في تلك المحرقة وصحيح أن قيادات الوحدات واستخبارات الجيش والتوجيه المعنوي أوكلت لهم حصريا لكن القيادات الوسطى والدنيا بعموم مثل بقية الشعب السوداني الذي أراد الطغاة إعادة صياغته ظلت عصية على الاختراق تقاوم بشتى السبل حتى كان السقوط العظيم لنظام يونيو في ابريل . المرحلة الثانية إزاء الفشل في ضمان ولاء الجيش كاملا كانت بتقوية جهاز الأمن والاستعانة به في المهام القتالية وتدريب عضويته على ذلك واطلاق يده بقانون يعّمده حاكما فعليا على الوطن بامكانات عسكرية ومالية ضخمة وقيل أن تسليح الجهاز لم يكن ينقصه إلا الطيران في عهد قوش الأول! وبحسب طبائع الأشياء وطبائع البشر كان طمع قيادة جهاز الأمن في السلطة تطورا متوقعا في المرحلة الثالثة مما نتج عنه تلفيق محاولة الانقلاب على مدير جهاز الأمن صلاح قوش واقصائه بل سجنه وقيل تعذيبه، ولأن معظم عضوية جهاز الأمن منحازون لمديرهم الذي توسع الجهاز على يديه فقد أتت فكرة الاستعانة بمليشيا قبلية لحماية النظام طالما أنه لا عاصم من دين ولا خلق، مما زاد من تزمر وتعقيد أوضاع الجيش بصورة لا يمكن احتمالها .. إذن المشهد في الخلفية: جيشا متبرما من التغول على سلطاته ، جهاز أمن بسلطات وامكانات غير محدودة وتجري فيه تصفيات داخلية وثأرات انتقامية بعد عودة قوش لرئاسته مرة أخرى بغرض الاستعانة به لتأديب عناصر المؤتمر الوطني من المعترضين على التمديد للبشير في انتخابات 2020، ومليشيا قبلية بلا عقيدة قتالية ولا تدريب كاف لكن رهن اشارتها سلاح فتاك وأموال بلا حدود تم تجنيدهم أول مرة لسحق الحركات المسلحة في دارفور وبعد تصفيات جرت داخلهم خلصت القيادة لحميدتي ثم في وقت لاحق تم تصديرهم لحروب خارجية لا مصلحة للسودان فيها ثم جلبهم للخرطوم بعد تظاهرات سبتمبر 2013 لمجابهة أية محاولة لتغيير النظام أو انتفاضة ضده ... وخوفا من انقلاب السحر على الساحر و الطمع في السلطة تم الحاقهم مباشرة برئاسة الجمهورية مع ادخال عناصر من الجيش والأمن والأمن الشعبي في أوساطهم لكبح جماح أي تفلت .. كل تلك التدابير التي خلقت توازن المتناقضات لفترة من الوقت قصد منها المحافظة على النظام الفاشل المتهالك ، أتت لحظة مفصلية حولها الشارع الى عدم فجلّ من قال (.. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) الأنفال آية 30.. فالدعم السريع الذي جمع أصلا لحماية النظام لدرجة أن المخلوع سماه (حمايتي) انحاز في اللحظة المفصلية للشعب. قد يكون من المناسب عند هذا المنحنى القاء نظرة على مقاربة زولتان بارني التي اهتمت بالجيش في لحظة الثورة للتنبؤ بردات فعل الجيوش على الثورات "كيف تستجيب الجيوش ولماذا؟)، في الإطار عند استدعاء ما حدث في اكتوبر64 وابريل85 نجد أن الجيش انحاز في النهاية للثورات في اكتوبر وفي ابريل مع اختلافات طفيفة فرغم التخريب الذي طال جسم الجيش من جراء نظامي عبود ونميري بسبب الاختراق السياسي لجسم الجيش والانشغال عن التدريب لكن عندها كان الجيش أكثر تماسكا منه اليوم حيث انحازت كل مؤسسته للثورة : بعد اكتوبر ابتعدوا تماما عن الحكومة الانتقالية أما بعد ابريل فقد كانت الحكومة الانتقالية بقيادة المشير عبدالرحمن سوارالذهب الذي سلمها للحكومة المنتخبة بعد عام الانتقال . الأداء العسكري السيء في الديمقراطية الثالثة –(بسبب ابتعاد الجيش عن مهامه خلال النظم الدكتاتورية )، الذي لم يستفد من الامكانات المتاحة أدى لهروب الجيش للأمام بتقديم مذكرة فبراير 1989 وقد أمكن تجاوز البلبلة التي أحدثتها لكنها لفتت النظر لضرورة اشراك ممثل للجيش في الحكومة(حكومة الجبهة الوطنية المتحدة مارس 1989ممثل القوات المسلحة بالتشاور معها كان اللواء معاش مبارك عثمان رحمة) لضمان الاستقرار السياسي ريثما تنضج الديمقراطية التوافقية وتصل للشكل المطلوب من خضوع الجيش للارادة السياسية.. خلف نظام الانقاذ جيشا مخترقا بتنظيم الجبهة الاسلامية ويعاني من اضهاد النظام له انحيازا للأمن ومؤخرا لمليشيا قبلية ..ويعاني من كل التشوهات السابقة واللاحقة .. بالطبع في عشية 11 ابريل اعلنت كل القوات النظامية من جيش وأمن ودعم سريع انحيازها للثورة وبسبب كل تلك التعقيدات تراضت القوى السياسية على رأسها قحت بحكومة تشاركية بين الجيش والحكومة المدنية وهذا أفضل ما أمكن الحصول عليه . لكن لابد لنا من تأكيد أنه برغم هذه (الضرورة) فلابد من التدرج الواعي المتفق عليه لابعاد الجيش من الحكم (بيده لا بيد عمرو) . يبدو في السياق أن الحديث عن أن الطمع في السلطة ليس من هموم قطاع عريض في الجيش نبأ سار و يعني أنه مهما كان المنظر سوداويا أمامنا فعظم الجيش معافى مما يجعل مهمة فطمه عن السلطة أكثر يسرا.. ما زال العشم في قيادة الجيش لقيادة خط يدخل التعافي الكامل في جسد الجيش بمرّحلة الاصلاح وفق خطة زمنية محكمة الإعداد .. وفي الاطار لابد من اجراء اصلاح لازم بالتوازي مع اصلاح الجيش واستيعاب الدعم السريع في القوات المسلحة بحيث تتم محاسبة من أجرم في حق الشعب واعادة تكييف اجتماعي لبقية عضوية الجهاز ثم استيعاب الجدد على أساس المهام التي تنص عليها الوثيقة الدستورية للجهاز أي الاكتفاء بجمع المعلومات وتحليلها.. ونختم بما ختم به الحبيب الامام الصادق المهدي بخبرته السياسية واطلاعه الواسع الفصل الذي تناول فيه الوجه العسكري في كتابه الموسوم(الديمقراطية راجحة وعائدة): (من مسلمات عصرنا:أولا المجتمعات التي حققت الاستقرار والتنمية غربا وشرقا هي مجتمعات تقودها قيادات سياسية مدنية. ثانيا: القوات المسلحة ذات الكفاءة القتالية العالية وذات الانضباط في العالم كله هي البعيدة كل البعد عن الحكم وشئون السياسة)