خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    "مطارات دبي" تدعو المسافرين التحقق من حالة رحلاتهم "الحالة الجوية السيئة"    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    من الزيرو إلى الهيرو    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    البنى التحتية بسنار توفر اطارات بتكلفة 22مليون لمجابهة طوارئ الخريف!    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    استمرار حبس البلوجر هدير عاطف بتهمة النصب على المواطنين    أحمد موسى: ده مفيش ذبابة ماتت من الصواريخ والمسيرات اللي إيران وجهتها لإسرائيل    إسرائيل تعيد فتح المدارس!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    شاهد بالصورة.. إبن عضو مجلس السيادة رجاء نيكولا يحمل السلاح مدافعاً عن وطنه وجمهور مواقع التواصل يشيد ويعلق: (أبناء الإسلام والمسيحية في خندق واحد لحماية السودان من الجنجويد)    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    بعد راحة العيد...المنتخب الوطني يُعاود تحضيراته أمس    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    إعلام عبري: طائرات أميركية وبريطانية تسقط مسيرات إيرانية فوق الحدود العراقية السورية    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    والي الخرطوم يزور رموز ونجوم المجتمع والتواصل شمل شيخ الامين وقدامى المحاربين والكابتن عادل أمين والمطرب عوض الكريم عبدالله    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    الضربة المزدوجة الإنهيار الإقتصادى والمجاعة في السودان!    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القدم الرحالة للدكتور الكساندر كروكشانك: الشفخانة بديل للنقطة .. بقلم: الوليد محمد الأمين
نشر في سودانيل يوم 25 - 06 - 2020

يصعب تصور ما كانت ستمضي إليه أحوال البقعة من الأرض المسماة بالسودان لو لم تمر بمرحلة الاستعمار الإنجليزي . فبعيداً عن شعارات الوطنية والكرامة ، لا يمكن إغفال الدور العظيم للخدمات الإنجليزية للسودان . في الكتاب الذي نحن بصدده " القدم الرحّالة: حكاية طبيب " يروي الكساندر كروكشانك فصولاً من حياته قضاها بالسودان ضمن الخدمة الطبية الاستعمارية . بعد قراءة هذا الكتاب وكتب أخرى مماثلة ربما يجد المرء بعض المعقولية للمقولة التي برر بها الأوروبيون غزوهم واستعمارهم للشعوب الأصيلة ، أعني مقولة عبء أو واجب الرجل الأبيض ** . أقول المعقولية ولا أقول الترحيب أو التبرير ، إذ لا يعني ذلك أن الاستعمار كان خيراً كله أو أن نوايا المستعمرين البيض كانت طيبة أو مثالية ، فلا يخفي بالطبع الأهداف الأساسية للغزو الاستعماري من نهب الثروات والصراع الدولي على النفوذ وقتها ، كذلك لن تلغي هذه المجهودات والأعمال الطيبة حقبة تجارة الرقيق وأخذ الرجل الأسود عبدأ للرجل الأبيض غنيمة وتجارة في حقبة سابقة ولكن قريبة .
غير أن الوضع في السودان ربما اختلف بعض الشيء ، فبعد انقطاع المد الحضاري عن أرض السودان بعد مروي العظيمة ، لم تقم بالسودان حضارات يؤبه لها. وبالنظر إلى التاريخ الأقرب فقد تركت فترة الاستعمار التركي البلاد في فساد وظلم عجيبين . الدولة قصيرة الأمد في فترة المهدية تركت البلاد في حال سيئة هي الأخرى وبدا السودان منقطعاً عن العالم وغارقاً في الخرافات .
النسخة السودانية من الكتاب والمكتوبة باللغة العربية والصادرة في العام 2019 ترجمها من الإنجليزية الدكتور طارق عبد الكريم الهد ، وطارق هو طبيب سوداني مهتم وباحث في تاريخ الطب في السودان وله في ذلك كتابات ومنشورات . والعنوان الأصلي للكتاب هو Itchy feet , A Doctor's Tale وبدت لي الترجمة موفقة بالنظر إلى محتوى الكتاب ولغة الترجمة ، غير أننا نجد في لغتنا السودانية العامية تعبيراً أكثر دقة فنحن نقول " كراعي أكلتني " في معنى الحث على السير أو الرحيل عموماً ، وهي الأقرب إلى كلمة Itchy الإنجليزية التي يمكن ترجمتها حرفياً بالحكة . الكتاب صادر عن دار أوراق للنشر في قطع متوسط من الورق وفي إخراج متواضع ولكن في ترجمة جيدة إلا من بعض الهفوات التي لا تذكر.
يقع الكتاب في 180 من الصفحات تبدأ بمقدمة الكتاب كتبها كولن ج . كروكشانك ابن المؤلف ، ثم مقدمة المترجم ، ثم بعد ذلك تقديم كتبه البروفيسور أحمد ابراهيم أبوشوك . بعدها تم تقسيم الكتاب إلى خمسة أجزاء كل جزء تم تقسيمه إلى عدد من الفصول هو الآخر ، والفصول الفرعية بعضها لها عناوين وبعضها بلا عناوين .
ولد كاتب الكتاب الكسندر كروكشانك في العام 1900 ، وشهد الحربين العالميتين الأولى والثانية . والكتاب في بعض منه وصف لأحوال المملكة المتحدة في تلك الأزمان ، حيث يروي الكاتب كيف كانت حياة الناس البسطاء وكيف أنهم في منزلهم لم تكن تتوفر لديهم الكهرباء والماء الساخن على سبيل المثال ، وكيف أنه حتى في شبابه كانت هناك بعض الأحياء في مدينة جلاسقو لا يمكن الدخول إليها إلا صحبة الشرطة وذلك أيام عمله في مركز الولادة هناك . وعن ذلك يقول إنه لم ير في حياته مثل تلك القذارة والأوساخ ومظاهر الفقر التي رآها هناك . في الحقيقة فإن حياة الناس البسطاء بل الناس على وجه العموم هي نفسها على سطح الكوكب . يذكر الكسندر كيف أن ممارستهم للعب في الشارع كانت من المحرمات لدى والدهم وذلك خوفاً عليهم من الحوادث ، وكذلك : من سماع بذيء الكلام !
يروي الكاتب كيف أثرت الحرب العالمية الأولى على حياة الناس ودخلت كل البيوت ، وكيف تغير نظام التدريس وكيف أن أحد إخوانه اختفي لعام كامل اتضح بعده أنه كان في جبهة القتال وغير ذلك من معايشته للحرب التي كان عمره وقت اندلاعها نحو الأربعة عشر عاماً . أما الحرب العالمية الثانية فقد عاصر جزء مقدراً منها في السودان وكتب عن ذلك فصلاً كاملاً .
يقول الكاتب إن ولعه بافريقيا لربما نبع من الحكايات والقصص التي كان يسمعها من قريبيه المبشرين المسيحيين عن حكاياتهما في افريقيا . وهما على كل حال لاشك كانا من المؤمنين بقداسة مهمتهم وخدمة المسيح وعبء الرجل الأبيض وقتها وواجبه تجاه الشعوب مما كان سائداً في أدبيات تلك المرحلة . لذلك ربما ، أو لعله السائد في ذلك الزمان كان لدى الدكتور كروشانك نفسه ذات الأفكار أو المشاعر التي يمكن التقاطها مرة مرة عبر ثنايا الكتاب ، ففي الفصل السابع وتحت عنوان المستشفى المتنقل نقرأ قوله : " ... نحن صغار السن والمقام ! بيد أننا رسل القوة التي آلت على نفسها نشر قيم العدل والحق والمساواة " ، وفي الفصل التاسع المعنون بجنوب السودان نقرأ له متحدثاً عن مفتشي المراكز من البريطانيين الذين عملوا في جنوب السودان : " كانوا من الرجال الذين لهم سجل خدمة مشرّف في الجيش ورغبة صادقة في خدمة تلك القبائل البدائية " . إلى ذلك يذكر كروكشانك كيف أن نداء كتشنر للشعب البريطاني كي يسهم في تعليم السودانيين لقي تجاوباً منقطع النظير وأدى إلى إنشاء كلية غردون التذكارية التي افتتحت في الخرطوم في العام 1902 ، ويذكر كذلك أن معمل ويلكم للأبحاث الذي افتتح في العام 1903 كان هدية من السير هنري سولومون ويلكم الذي صدمته مناظر الفقر والمرض حين زار السودان في العام 1900 فقرر أن يعمل عملاً عساه أن يخفف من عناء أولئك البؤساء ، والكلمات والأوصاف لكروكشانك . لا ينبغي أخذ هذه الكلمات وغيرها مأخذ الامتنان أو الاستعلاء بأي حال من الأحوال ، فقد كتبت بلغة صادقة ومحبة للبلاد ولناس السودان تبدت في أكثر من موضع . من ذلك قوله : " إن أولئك السودانيون هم أناس في غاية الروعة ! وكم كنت محظوظاً أن أعمل بينهم لفترة تجاوزت الأربعة وعشرين عاماً . أراني جد فخور بمشاركتي في تأهيل السودانيين ليصبحوا أناساً مميزين " . وقبل ذلك في الفصل الخامس وتحت عنوان أول إجازة في ربوع الوطن نجده يشير إلى أنه مع تسعة من الموظفين البريطانيين في السودان في الطريق إلى انجلترا وحين ناقشوا إيجابيات عملهم في السودان ألفوا أنفسهم مصممين على العودة بعد الإجازة : " لنسهم في تدريب هؤلاء المواطنين السودانيين الرائعين والجديرين بكل محبة لكي يصيروا يوماً أمة تحكم نفسها بنفسها ".
وفي الوقت الذي كان فيه السودان خارجاً لتوه من ظلامات عهود التركية ومن بعدها المهدية ، كان العالم قد بدأ سيره نحو التطور ، لقد كانت العراقة الإنجليزية على سبيل لمثال قد تبلورت أو هي كانت في طور التشكل . يذكر الكاتب أنه وجد إعلان وظيفة مفتش طبي في السودان الإنجليزي المصري في جريدة الصانداي تايمز في ميز الأطباء وكان ذلك في بدايات العشرينات من القرن الماضي . يرد كذلك ذكر اسم الكويكرز صاحبة مصنع الكادبري المشهورة للشوكولاتة ! المشهورة وقتها على حسب تعبير الكاتب والمشهورة إلى يومنا هذا كما نرى .
وفي الحقيقة فقد بدا من المثير بالنسبة لي والدافع للإعجاب إلى حد كبير التأمل في سيرة أولئك الشباب الغض واليافعين من الإنجليز في عشرينات أعمارهم وبدايات حياتهم العملية وهم يختارون بطوعهم الذهاب إلى أماكن مثل السودان في ذلك الوقت . من الثابت أن بعضهم اضطرته الظروف أو تم جبرهم على ذلك كضباط الجيش مثلاً ، ولكن الكثيرين منهم أيضاً اختاروا ذلك طوعاً .
الكتاب توثيق جيد بطريقة ما لأحوال السودان وقتها وسفر مهم عن الخدمة الطبية الإنجليزية في السودان ومجهودات الرعيل الأول من الأطباء الإنجليز بل وأفكارهم المتقدمة والمتجاوزة للواقع حينها ، أفكار ومقترحات عملية كان سيكون من الصعب تصور توسع الخدمات الطبية دونها . مثال ذلك ما سماه كروكشانك بظاهرة تميزت بها الخدمة الطبية السودانية في تلك الأيام ، وهي صالون القطار الطبي ، الذي قال كروشانك إنه كان يقوم بإلحاقه بأي قطار عابر شمالاً أو جنوباً مما أتاح له زيارة كل المدن والقرى الواقعة على الخط الحديدي ، وبذلك يقول إنه نجح في تغطية تلك المديرية الشاسعة ( الشمالية عموما ) التي كانت ثلاثة أضعاف مساحة اسكتلندا . المستشفى المتنقل بعد ذلك والذي كان من بنات أفكار كروشانك كان اختراقاً حقيقياُ في الخدمات الطبية في ذلك الوقت . والحقيقة فقد كان هذا المستشفي المتنقل عبارة عن قافلة كبيرة من الناس والحيوانات ، إذ تكوّن هذا المستشفى من نحو ستين ثوراً لحمل الأثقال من خيام وأسرّة ومتاع وملابس وكتب وطعام وكذا ، رفقة طاه ومساعديه وشرطة في بعض الأحيان وآخرون ممن تحتاجهم الرحلة .
الإنجاز الأكبر للدكتور الكسندر كروكشانك كان إنشائه لمستوطنة أو مستعمرة الجذام . وغير الأنجاز الطبي الكبير بمقاييس ذلك الزمان بل وحتى بمقاييس اليوم في بلد كالسودان ، فإن بناء المستوطنة وقيامها من العدم في أرض الزاندي لهو إنجاز آخر لا يقل أهمية . لقد تميز الدكتور كروشانك بالتفكير الإبداعي والنظرة الإيجابية المتجاوزة للصعوبات ، تم بناء المستشفي ورافق ذلك أو سبقه تعبيد الطريق الواصل بيامبيو ( يا لشوقنا لتلك الأسماء الآن بعد انفصال الجنوب نحن الذين عشنا قسطاً كبيراً من عمرنا والسودان واحد كبير يمتد من خط العرض 3 إلى خط العرض 22 ! ) ، وبناء الكباري على الخيران والأنهار ، وقطع الأشجار وتسوية الأرض الزراعية ، بناء المستشفى والمخازن وسكن الموظفين ، تجهيز حدائق الزهور والفواكه ، وأنشاء مزرعة للألبان بل وصناعة الطوب الأحمر محلياً بواسطة تلاميذ الارسالية الذين تم تدريبهم على ذلك . وعلى ذكر مزرعة الألبان هنا فلعل من الواجب أن نذكر أن الأصعب من ذلك كان إنشاء مزرعة ألبان أخرى في بورتسودان أيام عمله هناك ، نظراً لطبيعة المنطقة وفكرة الناس عن صعوبة ذلك ، والتي ، وللغرابة لا تزال راسخة حتى يومنا هذا . نعود إلى إنشاء مستعمرة الجذام فلا ننسى بالطبع الصعوبات الإدارية الأخرى من الحسابات والإجراءات الإدارية المعروفة وغير المعروفة والمتوقعة وغير المتوقعة في تلك الظروف . يشرح كروكشانك كل ذلك بصبر وتفاصيل دقيقة تشمل حتى الاتجاهات والأبعاد بقياساتها .
رغم ذلك لعله من المؤسف القول أن الجذام لا يزال متوطناً في السودان ، كان ذلك في الجنوب حيث شيد كروكشانك مستوطنة " لي رانجو" أم في القضارف التي يشير المترجم إلى أن أول مستوطنة للجذام أنشئت فيها في العام 1908 . إلى وقت قريب في العشرية الأولى من الألفية الجديدة في رحلاتنا البحثية إلى القضارف لم يكن شيئاً مستغرباً مصادفة حالات الجذام .
العين اللماحة والذاكرة التوثيقية لكاتب الكتاب لا تخفى ، التفاصيل الدقيقة في وصف جحافل الحيوانات في هجرتها وحرصه على تصوير ذلك مستخدما كاميرته السينمائية ووصف أنواع الحيوانات والطيور في المناطق التي مر بها ووصفه الدقيق لأنواع الأدوية والعلاجات في الكثير من الحالات ، كل ذلك لا يتأتى إلا لشخص امتلك مواهب متعددة وليس مجرد طبيب مهني . من ذلك نعلم أن مستشفى عطبرة والذي بني من الحجر في العام 1910 كان أول مستشفى في السودان به كهرباء وتزين أسقف عنابره المراوح الكهربائية وكانت سعته عند التأسيس ثمانين سريراً ، وكان هناك اثني عشر ممرضاً من الرجال وأربع من النساء جميعهم من القبائل المحلية . ثم يصف بعد ذلك زيهم في العمل ويذكر كذلك ممارسة رئيسة الممرضات للختان الفرعوني مما دفعه لإبعادها من المستشفى . يجدر بالذكر أن عمره وقتذاك كان نحو 24 عاماً حين صار مسؤولاً عن المديرية كلها من مقره في بربر .
الحكايات العادية أو حكايات الناس العاديين واضحة في الكتاب ، من حكايات عائلة كروكشانك في عهد الفقر الأول ثم بهجتهم بالسيارة الأولى وغير ذلك من القصص ، ومن حكايات الناس السودانيين وقصصهم وقفشاتهم التي يرويها ببساطة ومحبة ، ومن ذلك قصة حبه والغرام التي انتهت بالزواج . إن الانسان في حقيقة الأمر هو الإنسان ، وما تلك الفروقات إلا قشرة على سطح البشر ، ولا يستطيع الوصول إلى تلك الحقيقة إلا الذين آمنوا بالانسانية في معناها الواسع .
يصف كروكشانك كذلك عطبرة ويصف كردفان وجنوب السودان ، ويسرد بكثير من المتعة بعض حكاياته ومغامراته الطبية في تلك المجتمعات المحلية . في أم روابة وبعد شرح كثير لاقناع ناظر المدرسة الأولية لحث التلاميذ للقدوم لفحص بولهم للبلهارسيا يذكر كروكشانك أن الناظر في النهاية حين فهم الأمر ابتدره صائحاً بدهشة واعجاب : " والله ... إنك تحدثنا عن البول الحار " . الأفضل من ذلك حدث حين قام كروكشانك بتوضيح كيفية النظر في الميكروسكوب للناظر ورؤيته بنفسه لبيوض البلهارسيا . هناك أيضاً قصة زعيم القبيلة الجنوبي الذي كان مصاباً بالاستسقاء وقصة الولد في جبال النوبة القام كروكشانك باستئصال عينه في النهاية ، وفي القصتين كانت حياة الطبيب على المحك . وثمة قصص أخرى كثيرة لا تخلو من الطرافة والحكمة تجدها مبثوثة عبر صفحات الكتاب .
كذلك فقد عاصر كروكشانك اكتشاف بعض الأدوية ، بعضها تم في السودان وبعضها خارجه ، فهو يذكر علاج البلهارسيا في السودان على سبيل المثال ، كما أنه عاصر بدء عصر الطيران التجاري وبداية تحول العالم وقتها إلى ما صرنا عليه اليوم .
يرى كروكشانك أن بعض الموظفين من شمال السودان كانوا ينظرون إلى أهالي جنوب السودان نظرة دونية ويعتبرونهم من العبيد الأرقاء وأن التكليف بالعمل في تلك الأنحاء هو نوع من العقاب ! ويكتب أن الرجال البيض إذ ينتهون إلى تلك الأنحاء ربما صاروا نهباً لحمى البول الأسود أو ربما غدوا مدمنين للخمور البلدية وزئرين للنساء المحليات ، أما موظفوا الخدمة من المصريين فقد كانوا يعتبرون نقلهم للعمل هناك ضرباً من العقوبات المترتبة على الحكم بالأشغال الشاقة . ولكنه يقول في موضع من الكتاب إن هناك كثيراً من الخرافات رافقت فكرة الناس عن جنوب السودان . على كل حال ربما أمكننا أخذ ذلك على أنه إشارة أخرى لإيمان كروكشانك بفكرة عبء الرجل الأبيض !
عمل كروكشانك في السودان لفترة أربعين عاماً ، في شمال السودان ، في كردفان ، في النيل الأزرق ، في جنوب السودان ، في شرقه وفي الخرطوم التي عمل فيها كذلك كبيراً لأطباء الباطنية ومديراً لمستشفيي الخرطوم وأمدرمان المدنيين ، وكذلك عمل كمحاضر في طب المناطق الحارة في مدرسة كتشنر الطبية في الخرطوم التي يقول عنها إن المستوى العام لها تم إرساؤه ليكون مثيلاً لمدارس الطب البريطانية !
توفي الدكتور كروكشانك في العام 1991 تاركاً إرثاً عظيماً من الخدمات الطبية في السودان ، أسهم فيه هو وزملاء آخرين له ، وكتابه القدم الرّحالة هذا إسهام مهم هو الآخر في توثيق تطور الخدمات الطبية في السودان وفي أهمية الابتكار في بلد كالسودان وكذلك في أهمية احترام العادات والتقاليد المحلية وفي كيفية التعامل مع تلك المجتمعات المحلية . لقد غادر كروكشانك السودان في العام 1948 ، عمل بعدها لسنوات قليلة في كينيا ولكن السودان والسودانيين ظلوا في خاطره : " كان السكان المحليون في غاية الطيبة ويسهل التعامل معهم ، إلا أن ذلك لم يكن ليعدل ما ألفته من السودانيين من طيبة وحسن تعامل " .
آخر الأمر بدا لي أنه من المناسب أن نختم هذا العرض المختصر للكتاب بما قاله كروشانك نفسه : " وأنا إذ أدون هذه السطور ، لم يند عن ذاكرتي ما صار إليه حال السودان اليوم ، بعد أربعين عاماً على مغادرتي له ، كنت أحياناً أسأل نفسي وبين جنبي لاعجة من حزن عميق ! هل ذهبت كل مجهوداتنا لبناء ذلك البلد أدراج الرياح ؟ هل ياترى قد أضعت أربعة وعشرين عاماً قضيتها هناك ، فغدت هباء منثورا؟ " . من المؤسف أنه السؤال الذي لا يزال قائما ومنطقياً إلى وقت كتابة هذا المقال بل وإلى غد وربما لبعد الغد !
............................................
* من قصيدة " الجابرية " للشاعر محمد الحسن حميد ، وفيها : دايرين بوسطة ومدرسة وسطى / الشفخانة بديل النقطة / التموين وزيادة الحصة / كهربة موية وسوق منضبطة .
** عبء الرجل الأبيض : في آخر القرن التاسع عشر ألف الشاعر البريطاني كيبلينج قصيدة عبء الرجل الأبيض يحث فيها الجيش الأمريكي على القيام بأكمل وجه بعبء الرجل الأبيض في احتلال جزر الفلبين حتى وإن لم يقدر غير البيض هذا الصنيع وهذه التضحية الكبيرة التي يقوم بها الرجل الأبيض لإنقاذ العالم الآخر من الجهل والتخلف . سادت النظرية عموما في أوروبا و لجأت إليها الدول الأوروبية الاستعمارية لتبرر الهيمنة الاستعمارية وتم تقسيم البشر إلى أجناس غير متساوية القيمة. والفكرة أن هؤلاء المتوحشين من البشر يقع عبء تمدينهم على الجنس الأبيض المتحضر وصاحب الأفكار السامية. ولذلك فعملية استعمار الشعوب البدائية مبررة أخلاقياً .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.