من الأخطاء الشائعة علي ايامنا هذه عقد مقارنه بين الدول الغربيه المتطورة التي تطبق التعددية الديمقراطيه من جهه وكثير من دول العالم الثالث من جهه ثانيه، وذلك في كل ما يتعلق بالاستقرار السياسي والاجتماعي والثقافي وتوفر الحريات العامه والتسامح في الأولي، مقابل الضيق بالرأي الآخر والقمع وعدم الاستقرار السياسي في الثانيه، اي في دول العالم الثالث. المفارقه في إجراء مثل هذه المقارنة تكمن في انها تهمل حقيقه تاريخيه مهمه وهي أن العنف والطبيعة الثوريه للصراع السياسي والاجتماعي هو الذي مهد الطريق الي التعدديه الديمقراطيه التي نشهدها اليوم في العالم الغربي. الإصلاح الديني البروتستاني استغرق في اوروبا قرن كامل حتي ينجلي الغبار الكثيف الذي خلفه ليفسح الطريق الي التعددية الديمقراطيه التي سادت المشهد السياسي السائد اليوم ، وليس العلمانيه او اي مفاهيم لأفراد مثل توماس هوبز او جون لوك الخ . بمعني آخر فإن التعصب الديني والمذهبي الذي عاشته الشعوب الاوروبيه والذي تسبب في الملايين من الضحايا والكثير من الماسي التي خلفها التناحر والتطاحن بين الكاثوليك والبروتستانت هو الذي ساهم في إقناع هذه الشعوب بضروره التعايش السلمي بين المذاهب الدينيه، وأن السلام والاستقرار والأمن والمعاش أهم من محاولات فرض عقيده دينيه علي اخري، وتراجعت فكره الانتصار للعقيده الدينيه من أجل الخلاص في العالم الآخر، تراجعت الي الصف الثاني من الاهتمامات، مما مهد الطريق للسلام الاجتماعي كي يسود. تعلمت شعوب أوروبا هذا الدرس بعد أن كلفها الصراع الديني الكثير جدا ، وليس صحيحا علي الاطلاق القول بأن الطريق الي الديمقراطيه في أوروبا كان سهلا، إنما الصحيح هو انها جاءت بالدم والعرق والدموع. كتاب هوبز الشهير "ليفياسان" Leviathan الذي مجد دور الحكومه في المحافظه علي النظام الاجتماعي social order وحسم الفوضي والقتل والاغتصاب وكل أنواع الجرائم، الذي كان قد كتبه عام 1651م ، او ما كتبه جون لوك حول الحكم الرشيد وضروره التسامح الديني والأفكار التي أصبحت تمثل حجر الأساس للديمقراطيه كما يدعي من ينادي بالعلمانيه ، كانت نتيجه للديمقراطيه وليست سببا فيها ، وهذا التقييم المنصف والمهم ينطبق علي كل الأفكار اللاحقة لرواد النهضه والتنوير الأوروبي من روسو ومونتسيك الي فولتير وغيرهم. صحيح أن أفكار هؤلاء الفلاسفه ساهمت في التنوير وترسيخ الديمقراطيه لكنها لم تكن أبدا سببا في يوم من الايام في تأسيس ديمقراطيه او في أن يكون لها فضل في تدشينها، لان الاخيره، اي الديمقراطيه، فعل جماهيري بينما تظل الأفكار والمفاهيم مجرد منتوج فردي لمثقفين صاغوا افكارهم من ابراج عاجيه تنفتح بهذا القدر او ذاك وتجد حظها من الانتشار، بحسب قدرتها علي التعبير عن الواقع واقتناع الناس بمدي حاجتهم إليها. ظلت قضيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان تشغل المجتمعات البشريه أينما وجدت ، تلازمها حاجه ماسه الي الاحساس بالعدل والمساواة. لكن ذلك الإحساس كان يحتاج الي إطار ديني ايماني للتعبير عن نفسه فيما يخص الجماهير، وليس الي تفكير مادي تجريدي أو " علماني" لدي قله من الأفراد. وقد توفر ذلك الإطار الجماهيري في الإصلاح الديني البروتستاني في القرن السادس عشر في أوروبا المسيحيه. ظهور الطباعه عام 1441م في المانيا وترجمه الانجيل من اللغه اللاتينيه الي اللغات القوميه الاوروبيه مثل الالمانيه والفرنسية والانجليزيه الاسكندنافيه الخ ، التي ساهمت في كسر احتكار رجال الدين لتفسير الكتاب المقدس ، اضافه الي محو اميه الكثير من أفراد الشعوب، كانت كلها بمثابه رياح قويه عاتيه نفخت في اشرعه الإصلاح الديني وساعدته علي الانتشار السريع بين الناس وظهور التعدد المذهبي لأول مره في أوروبا المسيحيه . فكره الإصلاح الديني البروتستاني تقوم علي الاعتقاد بأن خلاص النفس البشريه يأتي من داخل الانسان نفسه وليس بفضل وسائط بين الإنسان وربه، ولذلك لابد من ذهاب الوسطاء جميعا من رجال دين وكنيسة وملك ، خاصه الملك لانه اكبر الوسطاء بين الانسان وربه، وذلك بحسب التراتيبيه التي سادت في الاقطاع. وقد كان لابد من دحض فكره الحق الالهي للملوك divine rights لان الله خلق الإنسان حرا والناس سواسيه ليس لأحد فضل علي أحد. وجدت هذه الأفكار طريقها الي الواقع وتجسدت حينما ثارت الجماهير في الجزيره البريطانيه وتدخل الجيش لدعمها وتم اعتقال الملك شارلز الاول واعدم في ساحة عامه عام 1649م. حدث ذلك نتيجه لانتشار المذهب البروتستاني الي ان أصبح عدد البروتستانت يضاهي عدد الكاثوليك وانتهي ذلك الي حرب وقتال بينهما، وتوسع الي حرب اهليه بانجلترا استمرت سبع سنوات قضت علي الأخضر واليابس بسبب التعصب الديني. هذه الفوضي استدعت الجيش بقياده كرمويل Cromwell للتدخل لحسم الأمر واعاده الأمن والهدوء لبريطانيا. ظهرت كتابات هوبز حوالي العام حول ضروره وجود حكومه قويه تستطيع أن تحافظ علي الأمن والنظام وان تقضي علي الفوضي والقتل والفقر الذي لازمها بسبب التعدد المذهبي والتناحر بين أصحاب المذهب الكاثوليكي من جهه والبروتستاني من جهه ثانيه، ظهرت بعد سنتين من إعدام الملك ، ولذلك وجدت أفكاره استجابه قويه من الناس . تم صياغه مبدا التسامح الديني وحريه الاعتقاد بعد ذلك بسبب الحاجه الماسه اليه، وهو من أهم المباديء التي تاسست عليها اول ديمقراطيه في العالم لاحقا بعد أن وضعت الحرب الاهليه الانجليزيه اوزارها. اعتقد ان هذا درس تاريخي يمكن أن نتعلم منه ضروره التسامح مع التعدد الثقافي والديني والاثني في السودان بعد ثلاثه عقود من الكذب والفشل والنفاق والفساد وانعدام الامل والفقر والحروب وانسداد الأفق أمام التنميه والتعايش والتعاون مع الاسره الدوليه بسبب سيطره الإسلام السياسي واحتكاره للسلطه والقوه في السودان . الشعب السوداني بكل اثنياته أصبح مهيئا لذلك بعد تجربته المريره التي خاضها والتضحيات الضخمه التي تكبدها بسبب التعصب الديني والدوله الدينيه. فقد أصبح شعبنا مستعدا تماما لقبول دوله المواطنه والحقوق والتسامح الديني . نحتاج الي التعامل بحكمه مع هذا القبول الذي جاء بالدم والدموع والمسغبه بدلا عن أن نستعدي معتقده الديني بعبارات مثل فصل الدين عن السياسه او العلمانيه. ومن حق المتدين أن يساهم في العمل العام طالما التزم باستلهام قيمه الدينيه في صوره مقترحات وتوصيات واضحه ومحدده بعيدا عن التعميم والعبارات المبهمه علي شاكله "القوي الأمين" و"ربط قيم السماء بالارض" التي كان يوظفها الكيزان في السودان لتسميم الأجواء السياسيه واستخدام الدين كوقود لاشعال الفتنه وابتزاز المجتمع المدني المتسامح وحجب ثمار الاستناره والتنوير والحداثة. طلعت محمد الطيب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.