[email protected] (1) استهوتنى منذ نعومة اظافرى الحياة السياسية وحركتها الحيوية، وجذبتنى أمواجها العاتية وصراعاتها المحتدمة. كانت مدينة عطبرة قلعة يسارية حصينة، مع وجود أصيل وراكز لطائفة الختمية، ونواة صلبة للحزب الاتحادى الديمقراطى. وسآتيك – أعزك الله – الى سياسة عطبرة وسياسييها، فى ذلك الزمان، يساراً ووسطاً ويميناً. ثم أن المدينة – الى جانب النشاط السياسى - كانت تموج بحراك ثقافى واجتماعى ورياضى مصطخب وفاعل. تنبهت منذ وقت باكر الى بعض الشخصيات التى كانت تقود ذلك النوع من الانشطة. واحد من هؤلاء هو المرحوم ابراهيم عز الدين. وكان ابراهيم هذا شخصية محورية واسعة الانتشار على مستوى المدينة، ويتوفر على طاقات جبارة ومهارات قيادية خارقة للعادة، فهو المبتدر لغالب الفعاليات، وهو الدينمو المحرك لمعظم الانشطة، وقلما تجد لجنة تحضيرية او تنفيذية لكيان مدنى اجتماعى او رياضى او ثقافى دون ان ترى اسمه رئيسا او سكرتيرا او أمينا للخزينة. وقد بلغ من انتشاره الفاعل رأسياً وافقياً فى كل مضارب العمل العام بالمدينة وضواحيها ان والدى كان اذا جاءت سيرته يقول لاصحابه، على سبيل المفاكهة، انه سمع بأن ابراهيم عزالدين قد جرى انتخابه سكرتيراً للجنة التنفيذية لفرع الاتحاد النسائى بعطبرة! ومع صغر سنى وقتها فقد فهمت الامر على انه دعابة مجردة. لكن الامر اختلط علىّ اختلاطاً شديداً حينما زارت المدينة النائبة فاطمة احمد ابراهيم، اول امرأة تفوز بمقعد فى البرلمان السودانى. كان وصول النائبة فاطمة احمد ابراهيم الى عطبرة حدثا مدوياً قامت له المدينة ولم تقعد. واذكر الآلاف المؤلفة من الجماهير وهى تتحلق حول سيارة ابراهيم عز الدين الكونسول ذات اللون الاخضر الزرعى، ثم تطارد السيارة من مكان الى مكان. ابراهيم يمسك بالمقود وفاطمة احمد ابراهيم الى جانبه فى المقعد الامامى، والهتاف يزلزل الارض: (عاشت فاطمة النائبة الحرة). خطر لى ان ابراهيم ربما كان قد تمّ انتخابه فعلاً سكرتيرا للاتحاد النسائى، والا فلماذا كانت فاطمة تستقل سيارته هو بالذات، دوناً عن سيارات المدينة الاخرى وتتجول بها بين المواقع حيث تنتظرها الجماهير المتراصة لتحييها وتهتف لها ملء حناجرها؟ لماذا لم تكن تتنقل – مثلاً - فى سيارة محافظ المديرية وتتقدمها وتجرى فى ذيلها سيارات الشرطة مثلما كان الحال عندما زار المدينة كلمنت امبورو وزير الداخلية، الذى كان قد شرّف المدينة قبلها، ولكنه لم يحظ بمثل الاستقبال الذى حظيت هى به، رغم انه وزير مركزى بينما فاطمة مجرد عضو فى البرلمان؟! (2) كنت من المحظوظين عند زيارة النائبة فاطمة احمد ابراهيم، إذ قدّر لى ان اقترب منها جداً دون ان يتنبه لى أحد وهى تلقى خطاباً داخل قاعة كبرى بمدرسة عطبرة الصناعية المواجهة لعمارة عباس محمود، وحدقت فى النائبة تحديقاً كادت معه عيناى تخرجا من محجريهما، ومشاعر الحماس والاعجاب تكاد تقتلنى. ثم فوجئت بها فى اليوم الثانى لزيارتها تأتى لمدرستنا، المدرسة الشرقية الابتدائية. ومن دون الفصول كلها دخلت الى فصلنا بالسنة الرابعة وفى معيتها، بطبيعة الحال، ابراهيم عز الدين، ثم ناظر المدرسة الاستاذ حسن سيد احمد بتيك، فوقفنا جميعا لتحيتها ونحن مشدوهون لهول المفاجأة. وبدون مقدمات او سابق اعداد بدأ الفصل يغنى بصوت واحد نشيد (أصبح الصبح)، الذى كان وقتها حداء الجماهير الثائرة ونشيدها الأوحد. واظن فى يومى هذا ان زيارة فاطمة لعطبرة كانت معلماً فارقاً فى حياتى، اذ ربطنى ذلك الحدث وأحكم وثاقى بالسياسة والشيوعية والاشتراكية والعمل الجماهيرى الذى أخذ يسرى منى مسرى الدم فى العروق. غير أن عطبرة شهدت بعد يوم فاطمة التاريخى ذاك، يوماً أسوداً أغبراً، وران على سمائها حزنٌ غامر، اذ فقدت ابنها البار ابراهيم عزالدين الذى تمكّن منه وأقعده داءٌ عضال، ثم استأثرت به رحمة المولى بعد حياة رحيبة خصيبة دانية القطوف متصلة العطاء، أوقفها على خدمة الناس وترقية حيواتهم، وتفجير طاقاتهم، وتوجيهها فى مضامير التنمية الاجتماعية والرياضية والثقافية. وشيعت المدينة فقيدها العزيز فى موكب مهيب لم تر له مثيلا لا قبلاً ولا بعداً.ً (3) الى جانب التنويه فى النشرة اليومية للسكة الحديد التى عرفت باسم (البولتين)، فان الاعلان عن الندوات السياسية فى المدينة كان يتم عن طريق سيارة تاكسى تطوف طرقات المدينة واحياءها، تحمل على رأسها مايكروفوناً ضخما، ويجلس متوهطاً فى داخلها رجل ذى صوت مميز ينادى بأسماء كبار السياسيين الذين سيزورون المدينة ويخاطبون جماهيرها فى ميدان المولد. ولم يكن ذلك المنادى يستخدم عبارة "ندوة"، فالمصطلح المستخدم وقتها كان هو "ليلة سياسية كبرى". الغريب ان قيادات الحزب الاتحادى الديمقراطى التى كانت تأتى الى عطبرة لم تكن تتغير فهى فى غالب الامر ذات الوجوه، ومع ذلك فقد كانت تحظى باستقبال كبير وجماهير مقدرة. لم تكن جماهير الحزب الاتحادى التى تتحلق حول زعاماتها تضاهى عدداً بطبيعة الحال الجماهير التى كانت تحتشد عند زيارات قيادات اليسار، ولكنها كانت جماهير غفيرة على اية حال. من الوجوه الاتحادية المألوفة: نصر الدين السيد وزير المواصلات، واحمد زين العابدين وزير الصحة، بالاضافة الى شخصية نسائية وهى السيدة بدرية الزين. وكانت الجماهير الاتحادية تهتف عند صعود كل واحد من هؤلاء السياسيين هتافاً مميزاً خاصاً بذلك السياسى، فعلى سبيل المثال اذا صعد نصر الدين السيد الى المنصة بميدان المولد هتفت الجماهير هتافاً متواصلاً: (نصر الدين نصير الشعب)، ولم اعد اذكر الهتاف الموازى الخاص بالسياسى البارز الآخر احمد زين العابدين. وقبل صعود اى من هؤلاء السياسيين الكبار الى المنصة لمخاطبة الجمهور كان محمد عبد الوهاب الساعاتى، وهو من أشهر رجال الحزب الاتحادى بالمدينة، وقد اكتسب اسمه من كونه يمتلك محلاً لبيع وتصليح الساعات بالسوق الكبير، يصعد ليلقى أبياتاً من الشعر الشعبى فى مدح القيادى الحزبى المدعو لمخاطبة الجماهير. وكان محمد عبد الوهاب الساعاتى هذا يجلس بشكل دائم على سلم المنصة أثناء القاء السياسيين لخطبهم، ويكتب شعراً فورياً من وحى اللحظة، ثم يتقدم الى حيث المايكروفون بصورة مفاجئة ليقاطع السياسى الخطيب ويلقى شعره العامى المرتجل فتهتاج الجماهير وتصفق له، ثم يقول له السياسى "شكراً"، فيعود الساعاتى الى سلم المنصة ليواصل كتابة الشعر. (4) ويبدو لى ان والدى، الذى لم يكن ليظهر اهتماما بالسياسة والاحزاب، كان فى حقيقة أمره اتحاديا، اذ انه ظل فى كل الانتخابات التى شهدها السودان يدلى بصوته لمرشحى الحزب الاتحادى الديمقراطى، ما عدا مرة واحدة صرح فيها بأنه ادلى فيها بصوته لمرشح جبهة الميثاق الاسلامى محمد صالح كرار. غير اننى سمعت والدى يؤكد لبعض مجالسيه الذين فوجئوا بتصريحه ذاك بأنه كان بوده ان يصوت لمرشح الاتحادى الديمقراطى كما يفعل دائما، ولكن محمد صالح كرار صديقه واخيه الذى يعتز به كثيراً وانه صوت له تعظيماً لحق الصداقة وواجب الاخوة، لا بسبب انتمائه السياسى. وقد حصل محمد صالح كرار فى تلك الانتخابات على خمسمائة وواحد وعشرين صوتاً، بينما حصل مرشح الحزب الاتحادى الطيب حسن الطيب على ما يربو على ثلاثة آلاف صوت. وكان الفائز هو مرشح الحزب الشيوعى الحاج عبد الرحمن الحاج الذى حصل على اكثر من خمسة آلاف صوت. وقد لاحظت اثناء اقامتى فى الولاياتالمتحدة ان هناك عدداً من الممثلين السينمائيين تحولوا الى السياسة وخاضوا انتخاباتها واصبحوا اعضاء فى الكونغرس ومجلس الشيوخ فجمعوا بذلك بين السينما والسياسة. ويعتبر الطيب حسن الطيب هو اول سودانى يجمع بين السياسة والسينما. فمع الاحتفاظ بدوره القيادى فى مدينة عطبرة كزعيم سياسى فى الحزب الاتحادى قام الطيب حسن الطيب بدور البطولة فى اول فيلم سودانى وهو فيلم (آمال واحلام) الذى انتجه واخرجه الرشيد مهدى. (5) ولكن عطبرة كانت تستحيل الى شعلة متوهجة من الحركة والنشاط عند وصول القادة السياسيين اليساريين لمخاطبة العمال فى ميدان المولد الذى كان يكتظ عن بكرة ابيه بجموع اليسار الهادرة. كنت تسمع مكبر الصوت الشهير من فوق سيارة التاكسى وهو يردد بذلك الصوت المميز أسماء مثل: عبد الخالق محجوب، احمد سليمان، الشفيع احمد الشيخ، فاروق ابوعيسى، وأمين الشبلى. ومن القيادات المحلية كنت تسمع اسم القائد العمالى والنائب البرلمانى الحاج عبد الرحمن. وقد خاض الحاج عبد الرحمن الانتخابات النيابية عن دائرة عطبرة ممثلا للحزب الشيوعى فى مواجهة القطب الاتحادى الذى سبق ذكره. وكان رمزه الانتخابى " العنقريب". وأشار الاستاذ عبد الخالق محجوب الى ذلك الرمز اشارة فكهة حين خاطب العمال فى ليلة سياسية تحدث فيها دعماً لمرشح الحزب اذ قال:(اؤكد لكم ان الحاج اذا فاز فلن يذهب ليرقد فوق العنقريب وانما سيبذل كل وسعه لخدمة قضاياكم وقضايا السودان). وفى معتقدى ان الحاج عبد الرحمن كان شاعرا مفوهاً الى جانب كونه قائدا عمالياً وسياسيا شيوعياً، فمما علق بذاكرتى عبر العقود والحقب أبيات من الشعر سمعته يرددها من فوق المنصة بصوت جهورى فى احدى لياليه السياسية، ومن هذه الابيات: ( يا عطبرة يا قلعةُ الاحرارِ كم منك انبرى / سهمٌ يجلجلُ عالياً لا لن نُباع ونُشترى). وقد ذهب الحاج عبد الرحمن الى البرلمان لحضور الجلسه الاولى فى اول يوم لافتتاح الجمعية التأسيسية فى مظاهرة اعلامية، وهو يرتدى الاوفراول (الابرول) الذى يرتديه عمال الورش، محمولا على اكتاف جمهرة من العمال. الا ان محمد احمد محجوب رئيس الوزراء المنتخب، الذى كان يرتدى البدلة الاوربية الكاملة وربطة العنق، استهجن ذلك التصرف وعدّه نوعاً من المزايدة غير المستحبة، كما اوردت الصحف التى نقلت عنه قوله متسائلا: ( من منا ابن الباشا؟ من منا ابن البرنس؟ كلنا اولاد مزارعين ورعاة وعمال. كلنا أبناء سودانيين فقراء)! (6) ومما لا شك فيه، كما ذكرنا، ان "الليالى السياسية" اليسارية فى عطبرة كانت تؤمها جماهير تفوق فى العدد بما لا يقاس جماهير الاحزاب الاخرى. وبالرغم من اننى لم اكن أعى شيئاً مما يُقال فقد كنت اعود الى المنزل على متن دراجتى الصغيرة ماركة "رالى" اشعث اغبر ورأسى مضطرب من فورة الهتافات. يصعد نجم اليسار عبد الخالق فاذا بالهتاف يشق عنان السماء لدقائق متواصلة بلا توقف (عبد الخالق أمل الأمة)، ويبدأ الرجل فيبادر الجماهير بالتحية ويغوص فى القضايا السياسية، وعند كل مقطع من حديثه تتصاعد الجماهير بهتافاتها المؤيدة. يتحدث الرجل عن الشفيع احمد الشيخ، مثلاً، فيشيد بدوره وانجازاته كوزير لشئون الرئاسة، ممثلا للعمال، فى حكومة اكتوبر، فتسمع الهتاف يشق عنان السماء على الفور: (لا حكومة بلا شفيع). وفى مرحلة لاحقة فى حياتى سمعت هتاف "أمل الامة" هذا مستخدماً من قبل الانصار فى تحية وتعظيم السيد الصادق المهدى اذ يهتفون: (عاش الصادق أمل الأمة). ولا اعتقد ان الجماهير السودانية منحت هتاف "أمل الامة" لشخص آخر بخلاف الراحل عبد الخالق محجوب، رحمه الله، والامام الصادق المهدى، أمد الله فى عمره. وربما كان مرد ذلك ان شعبنا اكتشف متأخراً أن المعضلات التى تواجه هذه الامة من الضخامة والتعقيد بحيث تستعصى على " الأمل "! [ نواصل ] نقلا عن صحيفة (الاحداث) – 7/5/2010