انتهينا في الحلقة الماضية إلى السؤال: ما هو نوع تطبيع العلاقات مع إسرائيل الذي يراد له أن يكون مع السودان؟. التطبيع "خشُم بيوت" في العلاقات بين الدول، يبدأ بالاعتراف المتبادل، ولا ينتهي بالتحالف السياسي والعسكري، إلى أشكال علاقات أكثر تعقيداً وخصوصية واندماجاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وللسودان العديد من العلاقات في إطار النوع الأول من التطبيع بأغلب الدول في كل القارات. ولكنه، عدا عن أشكال التعاون في إطار الجامعة العربية مع بعض دول منظومتها (التي لم تخضع للتقييم الموضوعي من السودانيين). جرَّب على فترات متقطعة إقامة علاقات أكثر خصوصية تتجاوز محطة الاعتراف المتبادل البارد، والتي تفرضها في الغالب ضرورات التجاور الجغرافي أو التداخل الديمغرافي مع مصر وليبيا وأثيوبياوتشاد وأرتيريا، وأحياناً تصل الخلافات معها على العكس إلى حافة الجفاء والعداء المضمر، ولكنها لم تبلغ مرحلة الحرب أو العداء السافر في عصرنا الحديث. رغم أن الخلافات الحدودية معها يمكن أن تؤدي إلى ذلك. والشواهد على ذلك لا تكاد تخفى على أي سوداني، مثل احتلال مصر شمالاً لمثلث حلايب وشلاتين (20580 كلم مربع)، وتدخلاتها الاستخبارية في الشأن السياسي الداخلي بشكل سافر ومتكرر. وتوغل أثيوبيا في الفشقة التي تتراوح مساحتها ما بين (600 ألف فدان إلى مليون فدان) وتعتبر من أخصب الأراضي الزراعية. ومن قبل تم منحها اقليم بني شنقول السوداني بسكانه السودانيين منذ اكثر من قرن وهو بمساحة تزيد عن ضعف مساحة إسرائيل مضافاً إليها ستة أضعاف قطاع غزة، أضف إلى ذلك الاختراقات الاستيطانية لعصابات الشفتة الأثيوبية للأراضي الزراعية تحت سمع ونظر حكومات بلدها المتعاقبة. وتشهد حدودنا غرباً اتخاذ المليشيات والعصابات المسلحة المتمردة والمعادية، من شريط تشاد الحدودي مع السودان عمقاً لوجستياً، وأحيانا بدعم من الحكومات التشادية. ولكن، ورغم كل هذه العدائيات لم تصل العلاقات بين هذه الدول إلى درجة إعلان الحرب بينها. ولمن يتأمل تاريخ هذه العلاقات بما تخللها من ما يمكن أن يعكرها ويقودها إلى حروبٍ أسبابها حاضرة – لم تغب حتى هذه اللحظة – سيجد أن الحكومات السودانية المختلفة، كانت دائماً هي عامل التهدئة وعدم التصعيد وواسطة عقد التوافق والعقل، إلى درجة تدعو معارضي الأنظمة لوصمها بالجبن والتخاذل والتهاون والاستخذاء. يكاد يكون هذا هو موجز تاريخ علاقات السودان داخل محيطه الإقليمي في عصرنا الحديث. (العودة إلى الذات) فما هو نوع العلاقة التي ينبغي أن تكون بيننا وبينها من منظورها هي؟ وهل نقبل نحن منظورها لهذه العلاقة ونسلم به؟. وما الذي نستفيده من هذه العلاقة وما الذي سنخسره؟. على هذا النحو ينبغي أن يكون التفكير. وليس على نحو ما نطرحه على أنفسنا من وعي زائف، انطلاقاً من حالتنا الراهنة، كدولة خرجت للتو من جائحة نظامٍ اجتاحتها وتركتها بين الموت والحياة على المستويين المادي والمعنوي. هذا هو الوعي الذي ينبغي أن ننطلق منه في التفكير والعمل. أن نعرف أنفسنا وإمكانياتنا وقدراتنا، وأن نعرف ما الذي يريده منا من يضغط ويلح لنقيم علاقة معه، مستغلاً ضعف دولتنا الراهن. فقد نوافق ونرهن له إرادتنا، فنفقد حرية إرادتنا للأبد، ونفقد قدرتنا على تحقيق إمكانات ذاتنا الكامنة مستقبلاً. إن هذا لا يعني أن نقاطع أي دولة في العالم، بما فيها إسرائيل بأي حال من الأحوال وإلى الأبد. ولكنه يعني أن نقيم علاقتنا مع كل الدول التي ليس بيننا وبينها عداوة موضوعية وفق حسابات تصب في تحقيق مصلحة دولتنا، ولا تضر بها، أو تعيق طموح انطلاقها نحو مثالها الأعلى. فالسودان يتوفر على كل إمكانات الدولة العظمى. وهذا هو موقعه الطبيعي والموضوعي. ولمن يراوده الشك في ذلك فلينظر إلى خارطة القوة والنفوذ بين الدول في عالمنا المعاصر. أليست الولاياتالمتحدةوالصين اليوم هما أقوى الدول وأكثرها نفوذاً؟. كيف استطاعتا أن تحققا ذلك؟. بالانكفاء على نفسيهما، والانفتاح المحسوب. انكفأت كل دولة منهما على ذاتها، وعملت بجد على تطوير مواردها الطبيعية والبشرية، وبذلت جهداً شاقاً ليكتفي إنسانها ذاتياً، بما يلبي حاجاته ويحفظ كرامته في العيش الكريم، وليس العيش المرفه. فالرفاهية تأتي لاحقاً، بعد أن يلبي الإنسان حاجاته الضرورية من الأكل والتعليم والسكن الصحي والعلاج. وأما الدولة فتأتي مرحلة رفاهها بعد تشييد بناها التحتية وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية الخاصة بما يتوفر من مواردها الطبيعية. بما يكفي مواطنيها بالدرجة الأولى فلا تحتاج إلى استيراد ما يأكله شعبها من الخارج. ( معادلة الانكفاء ..والانفتاح ) ورغم ثنائية الانكفاء والانفتاح المحسوب في التجربتين الأمريكيةوالصينية، إلا أن ذلك لا يعني تطابق التجربتين. فلكل تجربة منطلقاتها الخاصة ومساراتها الخاصة تبعاً لإختلاف معطيات كل بلد منهما. فإذا كانت أمريكا، كما يقول محمد حسنين هيكل: بلد محظوظ: لديه كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ. ومعنى ذلك أن لديه غنى في الموارد بلا حدود، وخفة في أثقال التاريخ وحمولاته لم يتمتع بها غيره، ما أعفاه من وساوس تاريخية ينوء بها عديد من البلدان. فالذاكرة الوطنية للشعوب في بعض الأحيان عبء بمقدار ما هي حافز لكن الهجرة إلى أمريكا كانت مشروطة بالتخلي عن القديم والبدء من جديد لمن يبغون الفرص الطموحة. أما الشيء الآخر فهو أن المجتمع الأمريكي لم يرهق نفسه في إعادة اختراع العجلة. فقد كانت ثمار عصر النهضة في أوروبا واختراعاتها العلمية وثقافتها بدأت تؤتي أكلها، من قوة البخار المحركة إلى قوة العدسات المبصرة، ومن المدافع بعيدة المدى إلى القطارات المسافرة فوق قضبانها حيث تمتد. فذهب إلى أوروبا واشترى، وعاين ما وجد أمامه واختار ما رآه نافعاً(1). بينما اتخذ المسار اتجاهاً مختلفاً في الصين التي كانت تعاني من وطأة ثقل حمولاتها التاريخية الموروثة منذ ما قبل العهد الفيجي وبعده، في محيط يضج بالديانات والقوميات والدول والإمبراطوريات في اليابان والهند، وتعرضت للغزو والاحتلال في عصرها الحديث من بريطانيا التي شنت على شعبها ما يُعرف بحرب الأفيون. وهذا ما جعل مسيرة نهضتها تبدأ بتوحيدها "أيديولوجياً" بسيطرة حزب يسيطر على الفضاء الاجتماعي والسياسي ويفرض قواعد السلوك الفردي، وتوجيه كل القوى للتنمية والكفاية وتحرير الإنسان الصيني من ذل الحاجة للآخر. ومثلما استفادت أمريكا ثمار عصر النهضة الأوروبي، استفادت الصين من ثمار جارتها وحليفتها في النسب الأيديولوجي: الاتحاد السوفيتي. ثم أوروبا، وأخيراً من التقنيات الأمريكية المتفوقة. وواصلن مشوار تقدمها حتى صارت منافسة لها على القمة، وهي تخطط لزحزحتها والانفراد بها. ( فتيل الحرب العالمية الثانية ) وبالمقابل تقدم لنا التجربة الأوروبية درساً مجانياً أبلغ، في هذا السياق، حول بناء العلاقات بين الدول في الحالات الاستثنائية التي تمر بها الشعوب المنهكة بسبب الحروب وتضعضع بنيان الدولة (زي حالتنا) في موقفنا الحالي ونحن نبحث عن حل نخرج به من انهيار الدولة السودانية. ففي الوقت الذي كانت أمريكا تشتغل بكامل طاقتها في تطوير نفسها، في عزلة عن الضجيج الصادر من شواطئ الأطلنطي الشرقية، كانت أوروبا منتشية بقوتها الصاعدة، تخوض صراعات مريرة بين دولها على نهب وتقاسم العالم. وبلغت ذروة صراعاتها في الحرب العالمية الثانية التي هدمت دولها ودمرت مدنها حتى لم تُبق حجراً على حجر. فاضطرت دولها إلى البحث عن حليف يحول دون محوهما من خارطة العالم، وكان أن دخلت أمريكا وحسمت الموضوع بقنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي، وانتهت (الحدوتة) بتراجع النفوذ الأوروبي وبزوغ فجر النفوذ الأمريكي في الشطر الغربي منها، وسيطرة الإتحاد السوفيتي على الشطر الشرقي. وبما أن الدول الأوروبية كانت خالية الوفاض من كل شيء، تماماً مثلنا، مدنها وبنياتها التحتية مدمرة ولا تملك أي شيء، فعملتها لم يعد لديها قيمة او قوة شرائية، ولا يجد الناس مساكن يأوون إليها ولا ما يقتاتونه. لقد قامت الولاياتالمتحدة التي بلغت ذروتها بين الحربين العالمتين حيث كانت تنتج ما يقرب من 50% من مجمل الإنتاج الصناعي العالمي بإطلاق مشروع أو خطة "جورج مارشال" والتي بمقتضاها ضخت بلايين الدولارات في الاقتصاد الأوروبي لتساعده على النهوض، وقامت بتخصيص جزء من فوائض ميزانياتها لدعم حلفائها الخارجيين، لإعادة إعمار أوروبا والدفاع عن نمط الحياة الغربية الرأسمالية، في كافة ما عرف فيما بعد بدول المعسكر الغربي في أوروبا، في مواجهة تلك التي تبلشفت وصارت تعرف بدول المعسكر الشرقي. وبدأ الإعمار بإعادة تأهيل البني التحتية في أوروبا الغربية بالسكك الحديدية، لتشمل ببقية القطاعات الأخرى مثل الطرق والمياه والكهرباء، وإعادة تشييد المدن على ما كانت عليه قبل الحرب. وفي عام 1948 اجتمع الاقتصاديون الأوروبيون مع وكالة التعاون الاقتصادي الأمريكية لوضع خطة شاملة للإصلاح للاقتصادي، بدأت عملها بتغيير العملات الأوروبية التي انهارت قيمتها التداولية، بعملات جديدة تطبع في الولاياتالمتحدة وبدعم من الدولار الأمريكي، لتستعيد عافيتها. هل كان كل ذلك مجاناً لوجه الله، هبة بلا مقابل؟. ( أوروبا عظمة النزاع هذه المرة) لا لم يكن، وما ينبغي أن يكون. لقد تناسلت إثر ذلك وظائف وكالة التعاون الاقتصادي لتخرج من تحت قبعتها وكالة المخابرات الأمريكية C.I.S للترويج للحرب ضد الشيوعية، والتي كانت تستهدف الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، واعتبار كل شيوعي بدولها هو جاسوس سوفيتي. فالحرب ضد الشيوعية جيدة ومهمة بالطبع وضرورية. ولكن أفضل منها وأكثر أهمية الترويج لأمريكا ونمط الحياة الأمريكية، كبديل ينبغي الترويج له ونشره. ومن ثم تولت القيام بهذه المهمة المخابرات المركزية بالتخطيط لحرب أفكار شاملة، استُخدمت فيها كل مؤثرات السيطرة على العقول وتوجيه اتجاهات الرأي العام الثقافية والإعلامية على نحو دعائي ذكي عن طريق الكتب والمنشورات والعروض المسرحية والحفلات الموسيقية والمحاضرات العامة ومعارض الفنون التشكيلية من خلال المراكز الثقافية المنتشرة في كل العالم والصحف والمجلات والسينما وغيرها من الوسائل(2). وتم منح جورج مارشال جائزة نوبل للسلام كمنقذ لدول أوروبا ومجتمعاتها من الانهيار، لتعزيز مكانة الولاياتالمتحدة وترسيخ صورتها كرمز للكرم والعطاء النبيل وسعيها لرفاهية الشعوب، وكمدافعة عن قيم الحرية الفردية ضد العدوان والسيطرة. في مواجهة دولة الشيطان الشيوعية، كممثلة لقوى لدولة الشر التي تكرس اضطهاد الشعوب وتجويعها. وقد عزز هذه الصورة الذهنية واقع الشطر الشرقي من ألمانيا، الذي كان سكانه يعانون من الفقر والجوع وتدهور قيمة عملتهم، كما يعانون من سيطرة وبطش قبضة الحزب الشيوعي وأجهزته الأمنية. والواقع أن الأنظمة التي تفشل في تحقيق الحياة الكريمة وتعجز عن الإيفاء بأبسط مقوماتها لمواطنيها لا تجد بين يديها سوى القبضة الأمنية الحديدية لؤاد الأصوات المعارضة لشعوبها المحاصرة بين مطرقة الفقر وسندان العبودية، والمطالبِة بالحرية والعدالة وحقها في حياة كريمة تليق بإنسانيتها. وهذا بالضبط ما كانت تعكسه مقارنة كل حالة من الألمانيتين بعد فصلهما بجدار برلين ( حروب الشعارات ) في سنوات الحرب "العالمية" الباردة بين المعسكرين، تحول الصراع إلى حرب ناعمة، استخدمت فيه الشعارات بدلاً من المدافع. ارتطمت فيه الشعارات بالشعارات المضادة بلا هوادة. لتشتعل الحرب الثقافية لأول مرة في التاريخ البشري بين أيديولوجيتين عالميتين متنافستين تستخدم فيها الشعارات كأسلحة. يمكنك الآن تسأل: ما هو السلاح الذي كانت تستخدمه كل من القوتين العظميين في حربهما لاكتساب الحلفاء من الدول خارجهما ؟. * استخدمت الولاياتالمتحدة وعد الرفاهية، واستخدمت المال لإعادة إعمار ما هدمته الحرب العالمية الثانية في أوروبا. * بينما استخدم الاتحاد السوفيتي الأيديولوجيا الشيوعية ووعدها برفاه الدولة البلشفية بعد سيطرة الحزب على الدولة. ومعروف بالطبع من كسب الحرب بعد ذلك. ولكن هل كسبت الدول الأوروبية الغربية الحرب مع الولاياتالمتحدة التي كسبتها؟. أعني: هل كسبت أوروبا حرب/ها هي، عندما كسبت أمريكا حربها وحققت أهدافها منها ؟. الإجابة فيما هو واضح للأوروبيين الغربيين: لا !. صحيح أن أوروبا "نجت" في الحرب من سيطرة الإتحاد السوفيتي بتحالفها مع أمريكا. ولكنها "وقعت" تحت سيطرة أمريكا حليفتها !!. ( أوروبا المحتلة تبحث عن استقلالها ) لقد نجت الدول والمجتمعات الغربية من سيطرة إمبراطورية الاتحاد السوفيتي، ولكن لتقع تحت سيطرة الإمبراطورية الأمريكية. التي حاولت، وما تزال تسعى ما وسعها مصادرة حرية تطورها الخاص، وإعادة صياغة هويتها على شاكلتها هي الخاصة منذ مشروع جورج مارشال. ومع ترامب كادت علاقتها مع السياسات الأمريكية تكون حرباً صامته وغير معلنة. أقرب إلى حروب التحرير من نير السيطرة الأمريكية منها إلى تعاضد الحلفاء الذي كانت عليه في الحرب الثانية. لقد خرجت إلى العلن العديد من الأصوات التي تحذر من عملية الغزو الأمريكي للثقافة الأوروبية ولنمط العيش والقيم الاجتماعية فيها، الأمر الذي يهدد بالزوال مرتكزات هويتها ويطمسها. ويعبر عن هذا الامتعاض الأوروبي من السيطرة الأمريكية الخانقة ميشال جوبير الكاتب والصحفي الفرنسي قائلاً: كيف يمكن التفلت من جهاز المخابرات الرهيب الذي بالصورة، وباستخدام كافة اللغات، أن يصنع الجغرافيا، التاريخ ورجالات أمريكا الذين ألفناهم؟. إن الأبطال الأمريكيين، من سيتينغ بول Sitting Bull إلى رونالد ريغان، من فورت آلامو Fort Alamo إلى غرينادا Grnade ، من جورج واشنطون إلى رامبو، يفرضون على كل جيل من الأجيال حتمية وجودهم. فهم يشكلون جزءاً من الأساطير الشعبية التي يتلهى من لا صفة معينة لهم بقضم بعض بقاياها لكسر رتابة الحياة اليومية. إن تسلل أحداث هذا العالم الجديد القديم يرسمن يوماً بعد يوم، حقيقة أمريكا، في تقاليدها، في تعابيرها، في أزيائها، في عنفها، أو اكتمالها. ويبقى الثوب الأكثر ملاءمة للأرض بعد ثوب البؤس، هي، وثوب جندي حرب الانفصال"(3). وبالمقابل ، كما يقول جوبير فإن الولاياتالمتحدة تجهل كل شيء عن الآخرين، إذا استثنينا قِلة من المتخصصين والأشخاص الذين يتمتعون ببعض الثقافة، منذ أن بدأ نمط المعيشة الأمريكي بإفراغ ذاكرة المهاجرين ونسيان الماضي. وغير جوبير ظلت تتعالى أصوات المفكرين والسياسيين عن خطر هيمنة الثقافة الأمريكية ونمط التفكير وأسلوب الحياة والتقاليد الأمريكية التي تتنافى وتتناقض مع مقابلاتها الأوروبية ذات التقاليد الحضارية الراسخة. وهم يصفون التقاليد الأمريكية بالهمجية والبربرية. وقد قال السياسي الفرنسي جورج كليمنصو معبراً عن ذلك بأن الإنسان الأمريكي قفز من مرحلة الهمجية إلى مرحلة الانحلال دون أن يمر بمرحلة الحضارة. إن الهيمنة الأمريكية لم تقتصر على الغزو الثقافي الناعم، ولكنها شملت كل مناحي الحياة الأوروبية لتصبح سيطرة اقتصادية وسياسة تكبل الدول الأوروبية عن حرية اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها السياسية والاقتصادية، وعلاقاتها بالدول خارج منظوماتها وتكتلاتها الإقليمية، وأقرب مثال على ذلك عجز الدول الأوروبية عن دعم السودان بعد إطاحة شعبه بالنظام الذي كانت سياساته الداعمة للإرهاب سبب مقاطعته ومحاصرته اقتصادياً، في انتظار منح صك الغفران الأمريكي للسودان. وربط الصك بالتطبيع مع إسرائيل رغم ما يسببه التطبيع من انشقاق في وحدة البلد الذي يجاهد للخروج من حفرة الضعف والفاقة والانقسام و"تهلهل" بنية دولته. مصادر وهوامش (1) محمد حسنين هيكل، الزمن الأمريكي من نيويورك إلى كابول، الشركة المصرية للنشر العربي والدولي، القاهرة/ مصر. (2) راجع للتفصيل: فرانسيس ستونر سوندرز، من الذي دفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب، المركز القومي للترجمة، القاهرة/ مصر ، الطبعة الرابعة 2009. (3) ميشال جوبير، الأمريكيون، ترجمة البعيني، منشورات البعيني/ منشورات عويدات، بيروت/ باريس، الطبعة الأولى 1989. ص (5) من مقدمة المؤلف. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.