(التعريف الأكثر تكاملاً يحدد الأيديولوجيا بأنها "النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة. وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، وتعمل على توجيهه. وللنسق المقدِرة على تبرير السلوك الشخصي، وإضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه. فضلاً عن أن الأيديولوجيا أصبحت نسقاً قابلاً للتغير استجابة للتغيرات الراهنة والمتوقعة، سواء كانت على المستوى المحلي أو العالمي") [ويكيبيديا] لتعريف الإيديولوجية (السياسية) الإسلامية، لنقل أولاً إن هذه الإيديولوجية هي جزء من الفكر الإسلامي، الذي نقصد به كل التراث أو الإنتاج البشري الإسلامي القديم والحديث، بما يشمل كل ما هو بشري من أفكار وآراء وفلسفات إسلامية، بجميع مذاهب هذا الفكر وتوجهاته، وتصعب الإحاطة به جميعاً. ولنقل من البداية إنه ليس من شأن القرآن أو الحديث النبوي أن يقدما لنا إيديولوجية أو نظرية أو فلسفة إسلامية جاهزة، بل مفكرينا هم الذين عليهم أن يستنبطوا هذه الأشياء استناداً إلى القرآن والسنة النبوية وأعمال الصحابة والتابعين، إلى جانب المصادر الإسلامية التراثية الأخرى. فما هي الإيديولوجية السياسية الإسلامية (العصرية) أو الإيديولوجية السياسية للإسلاميين (العصريين)؟ لنقل في البداية إن جانباً كبيراً من الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية والإيديولوجيا الإسلامية اقتضه ضرورة مواجهة الأفكار غير الإسلامية الوافدة، وبيان مدى اتفاقها أو اختلافها مع الإسلام، والرد على التساؤلات والشبهات التي يثيرها أصحاب تلك الأفكار. وثانيا، من الضروري أن تكون الإيديولوجية الإسلامية مستندة أساساً إلى المصادر الإسلامية الإلهية والبشرية، أي القرآن والحديث النبوي وأعمال الصحابة والتابعين وأقوالهم وغيرها. وثالثاً، يجب أن تكون الإيديولوجية (السياسية) الإسلامية مواكبة لتطور المجتمعات البشرية الحديثة والفكر البشري الحديث، باعتبار أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الأحوال كما هو مقرر عند الفقهاء. ومعنى هذا أن الإيديولوجية الإسلامية ليست شيئا ثابتا على مدى القرون بل يجب أن تتطور على الدوام لتواكب مسيرة الزمن. تكمن قوة الإيديولوجية الإسلامية في بساطتها ووضوحها وارتكازها الكامل على المصادر الإسلامية، مع الاستفادة التامة من كل ما يستجد في الفكر البشري للمسلمين وغير المسلمين. فالفكر تراث بشري متاح للجميع على صعيد العالم، لا سيما في هذا العصر الإلكتروني. وهذا ما يجعلها قريبة من وجدان الشعوب الإسلامية. تقوم الإيديولوجيا الإسلامية أولاً على بديهية أن الإسلام (كغيره من العقائد والأفكار) يقتضي من المسلم أن يتقيد بأحكام دينه تقيداً كاملاً، طاعة لربه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" (النساء -59)" وثانياً أن المسلم مطالب بالعمل على نصرة دينه بكل السبل: "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" (التوبة-40). وهذه النصرة هي ما يسمى الجهاد في سبيل الله، ومعنى الجهاد هو بذل الجهد في سبيل الله بكل السبل المتاحة وبحسب الضرورة، وليس القتال فقط كما يشاع. فالإيديولوجية الإسلامية تدعوا المسلمين إلى نصرة دينهم والجهاد في سبيله بكل السبل: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ ..." (التوبة 78). ثانياً، تأتي الإيديولوجيا الإسلامية في أطار التجديد الإسلامي المعروف في التراث الإسلامي. ففي الحديث الصحيح المشهور: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا". فالدعوة الإسلامية الحديثة، ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي والجماعة الإسلامية في باكستان والهند، هي امتداد لفكر الأفغاني ورشيد رضا ومحمد عبده وغيرهما من المجددين في العصر الحديث بعد سقوط الخلافة العثمانية، إلا أن حركتي الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية لم تكتفيا بالكتابة والوعظ بل أنشأ كل منهما، على أساس قوله تعالى: " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ" (المائدة-2)، تنظيما يهدف إلى التعاون والتنسيق بين أعضائه في هذا العمل، أسوة بالاتجاهات الفكرية الأخرى في كل بقاع العالم الحديث التي أنشأت أحزابا وتنظيمات للعمل على ترويج أفكارها والعمل على تحقيقها. وهذا هو الجديد في الموضوع في هذا العصر، وإن كانت سبقتهما إلية في الماضي البعيد حركات إسلامية أخرى مثل المعتزلة وإخوان الصفا وغيرهما. كل ما تقدم ذكره يصعب جداً على أي مسلم رفضه. ولكن تأتي الإشكالات في تفاصيل هذا النهج. فقد اختارت الجماعتان نموذج الكيان الشامل، الذي يتصدى لجميع جوانب الحياة، كما جاء في مقولة حسن البنا: "نحن دعوة سلفية، وطريقه سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية". أي أن هدف الجماعة كان أن تكون نموذجاً مصغراً ونواة للمجتمع الإسلامي المنشود. وبهذا أصبح العمل السياسي جزءا أصيلا من نشاط الجماعة. وهذا طرح ليس فيه ما يخالف مبادئ الإسلام، ولكنه يصطدم مع الفكر والواقع السياسي الحديث في العالم بأسره اللذان يدعوان إلى الفصل بين الدين والسياسة بصورة من الصور. ومن هنا كان حتمياً أن يحدث الصدام بين الجماعة والدولة طال الزمن أم قصر. وقد ناقشت الحركة الإسلامية في السودان على مستوى الصفوة (في الستينات أو السبعينات على ما أذكر) فكرة التخلي عن هذا النموذج لصالح نموذج آخر يقسم جوانب العمل المختلفة بين تنظيمات مستقلة مختلفة يعالج كل منها جانباً واحداً من هذه الجوانب، فمثلا حزب سياسي، وجماعة أو جماعات دعوية إصلاحية، وهيئة أو هيئات اجتماعية خيرية، وشركات اقتصادية...الخ. ولكن هذا التفكير لم يجد سبيله إلى المناقشة الجادة في خضم الأحداث المتسارعة. كما أن قلة الكوادر الفاعلة ربما كانت تقتضي حشدها جميعاً في التصدي لمعظم الجوانب. وأعتقد أن بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي والشرق الأوسط أخذت تتبنى تدريجيا في الآونة الأخيرة هذا النموذج المجزأ، كما في حالة تركيا وتونس. وربما يكون هذا النموذج هو الأصلح في ظروف الواقع السياسي المعاصر. ولكن أعتقد أن ما يشغل بال الناس وما يقصد بعبارة "أيديولوجية الإسلاميين"، بصفة أكثر تحديداً، هو قضية استعمال العنف في العمل السياسي، سواء من جانب الأفراد أو الحزب أو الدولة. وهذ القضية مرتبطة بقضية فقهية هي متى يجوز اللجوء إلى العنف أو القوة في الشريعة الإسلامية. وبالطبع لا أستطيع أن أفتي في هذا الموضوع أو غيره، ولكن لدي بعض الملاحظات. فجماعة الإخوان والجماعة الإسلامية الباكستانية كلتاهما كانتا ترفضان بصفة عامة عبر تاريخهما اللجوء إلى العنف إلا في مواجهة عدو خارجي مثل اليهود في فلسطين، على خلاف القاعدة والجماعة الإسلامية المصرية وداعش التي تتخذ من العنف منهجاً أساسياً لها. ولا يقدح في ذلك ما يحدث من تفلتات من أفراد أو مجموعات أو ما دأبت مخابرات الدول على أن تلصقه بجماعة الإخوان المسلمين من افتراءات في حربها المعلنة عليهم. وأياً كانت وجهة النظر في الحالات التي يباح فيها استعمال العنف فإن الجرائم التي ترتكب من جانب الدولة أو الأفراد لا تدخل في نطاق هذه الإباحة، رغم الحديث المشهور عنه (ص): "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده...". أما بالنسبة لشهيد الفكر سيد قطب فقد كان يكتب انطلاقا من واقع الدولة التي كان يعيش فيها ويحاول أن يوضح السبيل إلى مقاومة الاستبداد والقضاء عليه. وأرى أن كلامه عن كفر المجتمع في كتابه "جاهلية القرن العشرين" كان تكفيرا "حكميا" إن صح التعبير وليس تكفيرا حقيقياً، بمعنى أن المجتمع الذي يخالف تعالم الإسلام ولا يحكم بأحكامه هو مجتمع في حكم الكافر، كما في قوله تعالى "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" (المائدة-44). وليس بمعنى أن يخرج كل مسلم شاهراً سلاحه ليقتل أول من تقع عليه عينه أو أول من يصادفه من رعايا الدول غير الإسلامية حتى تلك التي يعيش فيها وآوته وأحسنت إليه، فهذا ما لا يقول به عاقل. والله أعلم. فؤاد العجباني 21/11/2020 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.