السودانيون عاطفيون سواء كانوا مواطنين او حاكمين، ودائماً ما يتعاملون مع التحديات الاقليمية والدولية من منظور المعيّة والضديّة المبني على الحب والبغض، بينما تضيع مصالحهم الفردية والجماعية في خضم هذا المزيج المتناقض من هذه المشاعر التلقائية غير المرشّدة، في مراحلنا الاولية ونحن نخطو خطواتنا الابتدائية في سلم التعليم حدثنا اخوتنا الذين يكبروننا سناً وعلماً ان العالم منقسم الى قطبين، قطب تقوده روسيا العظمى وآخر تتقدمه الولاياتالمتحدةالامريكية، وكان كبارنا هؤلاء يبررون لنا تلك الضرورات التي اباحت المحظورات وجعلتنا نتبع حلف اليانكي الامريكي، دون ان يحدثوننا عن الوطن وريادته التاريخية للنهضة الافريقية والعالمية، ومن النادر جداً أن ترى في ذلك الزمان مدرساً سودانياً أو مثقفاً يعتد بالدور الرائد لوطنه كشريك اصيل ومساهم رئيس في الارث الانساني عموماً، ظللنا مندهشين لما يملكه الاثيوبي من ثراء ثقافي متنوع ومنبهرين بما يجود به المصري علينا من ثقافته الخاصّة المعلبة في اشرطة الافلام والمسلسلات المهتمة بترسيخ محددات هويته داخل الوجدان السوداني، انه الاستلاب الحضاري ولا شيء غير الاستلاب ما جعلنا نقف محتارين بين عشقنا لاديس ابابا وحبنا الوحشي لقاهرة المعز لدين الله الفاطمي. المصريون بنوا السد العالي والاثيوبيون شيّدوا خزان النهضة ونحن واقفون بين هؤلاء واولئك، لا نبني السدود ولا نصدر الفواكه واللحوم الا عبر الجارة الشمالية، ولعب الغزو الثقافي المصري لعبته منذ عشرات السنين فصار السوداني نسخة مشوّهة من المصري في طرائق التفكير وتذوق الاشياء، لا تجد الا القليلين ممن عكفوا على القراءة المعتمدة على المصادر المتعددة قد نجحوا في الخروج من ثوب الاستلاب المصري، اما الغالبية العظمى فقد باعت منازلها وهجرت الوطن وسكنت المهندسين والاحياء القاهرية الجميلة، وقاطعت الكسرة والعصيدة والقراصة وعشقت الفلافل، في وقت تجد فيه الاثيوبي يصطحب معه الانجيرا اينما حل ورحل ويعرضها في مطاعمه الاكسومية الفاخرة بين عواصم اقطار الدنيا، في اثيوبيا تكمن وحدة الروح الوطنية واتفاق الشعور االجماعي بين الفقير والغني على الوفاء للتراب، فترى القوميات كلها قد اجتمعت ضد من اراد ان يفرق جمعهم في اقليم تقراي، وفي مصر كذلك تستشعر علو سقف الحس الشعبوي والوطني، فالفلاحون والباشوات يلتقون عند نقطة واحدة هي حب مصر، اما في بلادنا فالانقسامات الداخلية لا تقر بقداسة الوطن الا على الاوراق ولا ترفع من شأن المنتج الوطني الا تهافتاً وتكسباً وبيعاً رخيصاً وشراءً مربحاً وثراءً فاحشاً غير حلال. المدهش حقاً هو اختلاف رأسي نظام الحكم (البرهان وحمدوك) حول اولويات السياسة الخارجية وقضايا الامن القومي، ففي الوقت الذي يسعى فيه رئيس الوزراء والقوى المدنية الشريفة نحو ترسيخ الاواصر مع الجارة الشرقية، يهرول العسكر وبقايا الدولة العميقة لكسب ود الجارة الشمالية وتقديم الوطن ككبش فداء من اجل رفاهية هذا الشعب الجار، هذه الحالة لن تراها الا في السودان، وجود تمثيل سيادي برأسين متناقضين تمام التناقض، والاكثر ادهاشاً هو أن ميدان لعب هذين الرأسين مكشوف للمراقب في الداخل والخارج، مثلما جرى من مناورات عسكرية مشتركة بين البرهان والسيسي اعقبت مقدم جيوش السلام من جوبا، وسبقت اندلاع المناوشات المسلحة بين الجيشين الاثيوبي والسوداني على الحدود الفاصلة بين البلدين، فالشأن الوطني السوداني ما يزال رهين للمساومات الاقليمية والدولية، وللأسف من يقوم مقام ادارة هذه الملفات هم الذين يجب ان يكونوا حماة مكاسب ثورة ديسبمر التي نعايش تباشير ذكراها الآن، فمتى يستوعب السودانيون ان الوطن اغلى من الولد وان خراب البلاد اضيع للانسان من فقدان الاولاد، ومتى ينسجم الوجدان الجمعي للفرد والجماعة ويحقق مقصد اهزوجة العطبراوي (كل ارجاءه لنا وطن اذ نباهي به ونفتتن). الحل في الخروج من نفق الضديّة والمعيّة غير المبنية على تغليب المصالح الاستراتيجية المشتركة، والخلاص من هذه الحسابات العاطفية المتخذة في تقييم وتغليب ايهما الاكثر نفعاً للوطن، والتي تعاني منها عقلية الحكام والمواطنين على حد سواء حينما يقومون بوزن موازين العلاقات الانسانية بين الجيران، وحينما يقع عليهم واجب تحديد المصالح والمنافع الاقتصادية مع المحاور الاقليمية والعالمية، وهذا الحل لا يتحقق الا باجراء عمليات غسل للادمغة الملوثة بمرض الدونية الحضارية تجاه الجار الشمالي، وكنس خرافات النظرة الاستعلائية والاستخفافية المغشوشة التي ترسخت في اذهاننا تجاه الجار الشرقي، وازالتها من المنظومة المفاهيمية المستلبة والمختلة لدى العقلية السودانية، تحابوا وتصافحوا فيما بينكم كسودانيين ثم من بعد ذلك ستشاهدون الجار القريب والصاحب البعيد يقف اجلالاً واحتراماً لكم، لكن اذا لم تعالج هذه المثبطات ولم تزال نقاط الضعف البائنة في تركيبة وجداننا الجمعي لن ننتصر ولن نعبر، وطالما بقيت نخبتنا الحاكمة سادرة في غي الارتماء بين احضان المحورين ومتارجحة بين ارضاء هذا الجار مقابل كسب ود ذلك الجار الآخر لن تقوم لنا ولا لبلادنا قائمة. اسماعيل عبد الله عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. 19 ديسمبر 2020