تنشغل الأوساط السودانية، على كافة المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية، كما تعج وسائط التواصل الاجتماعي حالياً، بجدل محموم حول المناهج في السودان. ومرد ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى ما أقدم عليه السيد مدير المركز القومي للمناهج، الدكتور عمر القراي، وسعيه منفرداً لفرض وجهة نظر غير مجمع عليها من كثير من الناس والمفكرين والمختصين في مجال التربية والتعليم وتطوير المناهج، والآباء والأمهات، وحتى السياسيين. وبينما يرى البعض أن ذلك الجدل أسبابه سياسية، يقول آخرون إن مدير المركز القومي لم يتبع الخطوات المعروفة لوضع وتطوير المناهج، وكأنه على عجلة من أمره حتى يهتبل فرصة الوضع القائم الآن في البلاد، ومن ثم يفرض فهمه الذي يريد، على نفقة وحساب الشعب السوداني الذي، لا يقبل ولا يقر كثيراً من آرائه وتوجهاته. ويعرف المنهج اختصاراً بأنه: "هو مجموع الخبرات التربوية والثقافية والاجتماعية والرياضية، والدينية والبيئية والفنية، التي تهيئها المؤسسة التربوية وتقدمها لتلاميذها وطلابها داخل المؤسسة أو خارجها، بهدف تحقيق نموهم الشامل وتعديل سلوكهم. وهو وعاء شامل ومناسب يستجيب لكل من سرعة المعرفة المتزايدة، وأهداف المجتمع المتزايدة والمتجددة، مع مراعاة عدم الإخلال بهدفه طويل المدى والمتمثل في نقل الثقافة والقيم. ويشمل المنهج كافة النشاطات الصفية واللاصفية التي تهدف إلى إكساب الطالب الخبرات التربوية وتحقيق الأهداف المنشودة. ويشمل المنهج أيضاً الوسائل التعليمية والرسومات والبيانات التوضيحية، وطرق التدريس وطرق التقويم والتقييم، والمواكبة للتغيرات والمستجدات الآنية والمستقبلية للمجتمع، والتي مُخرجها فرد متوائم مع متطلبات عصره محققاً لأهدافه الشخصية وأهداف مجتمعه." وهنا يمكن الخطر، لأن أي تعدي على أو تقليل من شأن القيم والعقيدة والموروث الثقافي للمجتمع ذي الصلة، سوف يؤدي لرفض محتوى المنهج، وبالتالي قد يكون سبباً للاضطراب وربما ينسف الاستقرار الأكاديمي. والمنهج يشمل أهداف قومية متنوعة، ومجموعة من القيم والمهارات والمفاهيم وأنماط السلوك، التي يرى التربويون أنها ضرورية لتعزيز الانتماء الوطني وتطوير الذات بحيث يعد الدارس إعداداً جيداً للقيام بدوره في المجتمع سواء من خلال الوظيفة أو المهنة أو المشاركة في نقل القيم من جيل إلى آخر عبر مختلف المواعين الاجتماعية. ومن هذا المنطلق فإن المنهج ذو طبيعة ديناميكية؛ حتى يتناسب مع ما يستجد من تطور في العلوم وتغير في الأهداف، وهو لذلك خاضع للتغيير من وقت لآخر، شريطة ألا يتعارض مع ثوابت المجتمع الثقافية والأخلاقية والقيمية وألا يحدث شرخاً في المجتمع بطرح أفكار غير مجمع عليها وليست محل اتفاق بين الناس؛ لأن المنهج من المفترض أن يكون إحدى ممسكات النسيج الاجتماعي من حيث المحتوى والأهداف العامة. وحسب طبيعته المذكورة، يتطلب إعداد المناهج مشاركة جهات كثيرة من المختصين، والجمهور، وحتى أصحاب العمل والمهنيين، وبالطبع أولياء الأمور والمعلمين؛ حتى يكون متكاملاً من كافة الجوانب وفقاً للتعريف أعلاه، وإلا كانت مخرجات التعليم دون المتوقع والمطلوب! وأول خطوات المناهج إعداد المادة الدراسية وتحليلها وتبويبها ومن ثم تجريبها وتقويمها للتأكد من مدى صلاحيتها لتحقيق الأهداف التربوية والتعليمية، وتدريب المعلمين على ذلك المنهج، واختيار كافة ما يتعلق به من أنشطة لاصفية مصاحبة له. ومن المطلوب أن تكون تلك المادة ذات صلة وثيقة بمعتقدات المجتمع وحياة الناس وتطلعاتهم. وفي بعض الأحيان يتطلب إعداد المنهج عقد مؤتمر قومي تشارك فيه الجهات ذات الصلة، ويستعان فيه بالخبرات العالمية؛ حتى يوفر الإطار الفلسفي والتوجه القومي، ويكون ما يخرج به من توصيات قابلة وصالحة للتطبيق في كل أنحاء البلاد، ولا تستفز أي مكون اجتماعي أو تتناقض مع أفكاره وموروثه الثقافي. ولكن ما قام به السيد مدير المركز القومي للمناهج يتضارب مع كل هذه النقاط الحيوية لإعداد المنهج؛ سيما وأن سلوكه في هذا الصدد ينطوي على سوء نية واضح. فهو قد انفرد بالأمر ولم يستمع لكثير من النصائح التي قدمها المختصون في المركز القومي للمناهج وغيره، وجابه رفضاً واسعاً من بعض منظمات المجتمع المدني وقادة الفكر والرأي ومن بعض التنفيذيين. وعلى سبيل المثال قال المستشار الإعلامي لرئيس مجلس السيادة ما نصه: "إن الطريقة المتبعة الآن في تغيير المناهج أحدثت احتقاناً وغضباً شديداً، مع أن من الضرورة بمكان تغيير المناهج لمواكبة العصر وتطور أدوات المعرفة. وأضاف سيادته هنالك رفض واسع يجب أن نتوقف عنده ونعيد النظر في هذا التغيير، أليس من الممكن أرجاء الأمر إلى حين استكمال هياكل السلطة الانتقالية؟ " ومن جانب آخر قال رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل: " أتابع الجدل حول مناهج الدكتور القراي، واستغرب كيف يقبلها وزير التربية، الذي يرأسه، ويستمر في طرح المنهج ونشره، رغم نصيحة البنك الدولي، بعدم جدواه." أخيراً، فإن المثل السوداني يقول: "المكتولة ما بتسمع الصيحة"، ويعني ذلك أن القراي بعناده وإصراره على فرض الفكر الجمهوري عبر المناهج سيجد من المعارضة والنقد ما سوف يوأد مسعاه ولما يرى النور بعد؛ وهذا ما حدث بفضل الله، بعد تجميد المنهج المثير للجدل. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.