تمثل العملية الإنتخابية الجارية فى البلاد الآن ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار السياسي، وأستكمال بناء السلام والتحول الديمقراطي، وكذلك محوراً هاماً لتطور النسق الإصلاحى فى كافة الجوانب الإحتماعية والإقتصادية والسياسية، كما أن نزاهة وشفافية هذه العملية تعتبر محفزاً رئيسياً لتماسك وصلابة وحصانة المجتمع، الى جانب أهميتها القصوي في الاستجابة للمطالب التاريخية للتحول الديمقراطي الناجز، والتجاوب الفاعل مع إرادة الجماهير فى تغيير وإصلاح الاوضاع السياسية والإجتماعية الراهنة. وانطلاقاً من أن العملية الإنتخابية جزءاً لا يتجزأ من قضية الحريات العامة وترسيخ قيم المساواة والعدالة وحقوق الانسان، والتى تتطلب استدامتها ادواراً متعددة وجهوداً مضاعفة من جميع المؤسسات المدنية والسياسة، فقد قام مركز سالمة لمصادر ودراسات المرأة وباعتباره احدى منظمات المجتمع المدني الناشطة فى حقلي الديمقراطية وحقوق الانسان بمراقبة العملية الإنتخابية في مختلف مراحلها مع التركيز على مرحلتي الإقتراع وعد الاصوات، حيث غطت أعمال المراقبة والرصد خمس ولايات مختلفة على مستوى القطر. ومع اقتراب المرحلة الحالية من نهايتها المفترضة، بإعلان النتائج الأولية، نرى أنه لابد من التنبيه والاشارة لعدد من النقاط الهامة والمفصلية التى كان لها تأثيراً بالغاً على مجريات الأحداث وسير العملية الإنتخابية فى الايام الماضية، وربما يمتد هذا الأثر ليشمل كل التداعيات الراهنة والآجلة ويساهم لحدٍ كبير في رسم السيناريوهات المستقبلية، حيث أننا نعتقد أن هنالك عوامل سياسية ومؤسسية ساهمت و بشكل جدي في تشكيل خيارات الناخبين، وتمثلت أولاً فى المناخ السياسي الذى سبق انطلاق عملية الإقتراع، فقد افضت المواقف المتضاربة لقوى المعارضة من حيثيات المشاركة فى المراحل الأخيرة من الإنتخابات الى حالة من الإرتباك وسط قواعدها، امتدت اثاره بالضرورة الى الشارع العام الذي سادته حالة من الترقب والقلق نتيجة لتباين تصريحات قياديي هذه القوى والأحزاب، فقد برز من خلال متابعة الحملات الإنتخابية لعدد من تلك الأحزاب أن هنالك قوى اجتماعية ذات وزن مقدر تطمح فى إدخال إصلاحات حقيقة على النظام السياسي والإقتصادي القائم الآن، وتأمل في انجاز ذلك من خلال مشاركة واسعة للطيف السياسي في مهام المرحلة المقبلة من التحول الديمقراطي، لذلك وحسب تقديرنا نرى أن هذه المواقف غير المتسقه مع تحديات الواقع كان لها مردودها السلبي والذي خصم كثيراً من الرصيد الشعبي لتلك القوى وأدى بالضرورة لإفراغ مجمل العملية الإنتخابية من محتواها كما اظهرت ذلك النتائج الأولية المعلنة حتى الآن، العامل الثانى والذي لايقل أهمية مما ذكر سبقاً هو الضعف البائن فى استعدادات المفوضية القومية للإنتخابات والذي بدأ جلياً فى حالة الفوضى وكثرة الأخطاء الفنية التي لازمت العملية منذ بدايتها، فأنه وحسب متابعتنا لإجراءات الإقتراع تبين لنا غياب التنسيق والإشراف على سير العمل اليومي، فعلاوة على عدم الإلتزام ببداية الإقتراع حسب الزمن المحدد له فى كثير من المراكز ظهرت بعض الأخطاء الفادحة مثل تبديل دفاتر الإقتراع كما حدث فى الدائرة23/قومي 17/ولائى، ومشاكل الطباعة وسقوط اسماء المرشحين، الى جانب تواضع مستوى موظفي المفوضية والنقص الواضح فى تدريبهم وتأهيلهم، حيث أن كثير من الإشكالات حدثت نتيجة لعدم المامهم بالقانون، ومثال لذلك ما حدث فى الدائرة 5/ قومي 1/ ولائي شمال كردفان بالمركز 3، وقد كانت نتيجة هذه الأخطاء الفنية عدد من المخالفات الظرفية والمكانية المرتبطة بسير الإقتراع والتي انعكست بالضرورة على مماثلة ومطابقة بطاقات الإقتراع في مرحلة الفرز وعد الاصوات، ومن ذلك يتضح أن المفوضية تتحمل جزءاً كبيراً من المسئولية في ماحدث من تجاوزات. العامل الثالث المهم ايضاً ضعف التثقيف الإنتخابي الذى أثّر سلباً على أداء العديد من وكلاء الأحزاب والمراقبين المحلين، من خلال ممارستهم للدور الرقابي والإستعمال المهني للادوات المتاحة، وكذلك المامهم بقواعد السلوك وضوابط القانون (الدائرة 31/ قومي 42/ ولائي المركز 6، الدائرة 2/ قومي 19/ ولائي المركز 5، الدائرة 37/ قومي 27/ ولائي المركز 1). اضافة للعوامل السابقة هنالك نقطة لابد من التوقف عندها وهي التصريحات المتعجلة لفرق المراقبة الدولية حول نزاهة وشفافية العملية الإنتخابية وخلوها من التجاوزات، حيث أن هذا التسابق غير مبرراً لدينا، فليس من المعقول الجزم بهذه الحقائق دون الوصول بالعملية الى نهايتها المفترضة وكان هذا الخطأ قد تكرر عند التجربة الكينية ففي الوقت الذي جزم فيه العديد من المراقبين الدوليين بأنها تسير في سلاسة ويسر ولا يوجد ما يعتبر تجاوزاً في سير إنتخاباتها، حتى انفجر الوضع وفقدت السيطرة عليه حتي أصبح كارثة لا تبقي ولاتذر، وبما أن الدرس المستفاد من تجربة الإنتخابات الكينية يحتم على المراقب الدولي مزيداً من التدقيق وكذلك الرجوع لتقارير المراقبة المحلية، كان حرياً بهذه الجهات أن تتريث قبل أن تصدر احكاماً مطلقة، وإلا فهذه العجلة تدعو للريبة والتشكك في ما ترمي إليه هذه الجهات، فالمتابع لتصريحات إحدى اهم الجهات الرقابية الدولية مثل مركز كارتر يجد أنها أتخذت من اجتماعاتها مع لجان المفوضية مصدراً اساسياً لمعلومتها، في حين كان تواجده الميداني ضعيفاً فى المراكز، وقد قمنا بتنبيههم لذلك خلال زيارتهم للدائرة 15/ قومي 20/ ولائي والمركز رقم (3) الدائرة 5/ قومي 1/ ولائي، لذلك وبناء عليه ستظل مواقف هذه الجهات وعلى رأسها مركز كارتر، غامضة بالنسبة لنا حتي يتضح لنا مايبررها. اخيراً لابد أن نؤكد وانطلاقاً من دورنا الرقابي المحايد أن ماحدث خلال هذه الإنتخابات من تجاوزات قد لايرتقي الى مستوى الإتهامات بالتزوير أوالفساد الإنتخابي، على الرغم من وجود حالات كان يمكن التعامل معها على أنها جرائم انتخابية، لكن مانستطيع الجزم به أن هذه التجربة كشفت وبوضوح ضعف الارادة السياسية للعديد من الأحزاب والقوي الوطنية، وكذلك دللت على النقص الكبير في التعبئة المجتمعية لمواجهة التحديات الراهنة والمنظورة على المدى القريب، فالواضح من النتائج الأولية أن المعادلة السياسية القادمة قد لاتختلف كثيراً عن سابقتها في السنوات العشر الأخيرة، مع وجود بعض الفوارق المتمثلة في عدد من الشراكات والتحالفات الجديدة المتوقعة والتي يحدد حجمها واتساعها صاحب الأغلبية النموذجية فى المؤسسات التشريعية، حيث سترتبط أغلب السيناريوهات المحتملة بالنتاقضات القائمة بين أطراف العملية السياسية، فإلاحتمال الأول والأكثر قرباً للواقع أن تستمر حالة الجمود في النظام السياسي مع عدم الرغبة أوالقدرة على اجراء إصلاحات حقيقة سياسية واقتصادية، والاحتمال الثاني والذى ينطلق من نفس الفرضيات السابقة أن يحدث قدر محدود ومقيد من التحسينات مع حفاظ النظام السياسي على بنيته وطبيعته ووظائفه والتي لاتسمح بتغييرات حقيقة، والاحتمال الاخير أن يتم ادخال إصلاحات حقيقية مع وضع قوانين متدرجة تحمي مصالح القوي الحاكمة، وهو مايعني بداية دورة جديدة من الصراع السياسي الداخلي. خلاصة القول أنه عند النظر لكل هذه الإحتمالات والسيناريوهات نجد أنها مرتبطة بعدد من المتغيرات الهامة والتي ستحدد وبشكل قطعي كل مآلات المستقبل، أولها من حيث الأهمية قضية الانفصال أو الوحدة، والثاني اتساع هامش الحريات وترسيخ قيم العدالة والمشاركة، والثالث زيادة المشاركة المجتمعية فى صنع السياسات الإقتصادية والتنموية، حيث أن هذه المتغيرات بتفريعاتها المختلفة تمثل الحصيلة العملية لمجمل ما سبق من مراحل وإستحقاقات، ومن هنا تنبع المخاوف المتزايدة لدينا من امكانية إعادة إنتاج الأزمة السودانية بشكل جديد ومغاير، في ظل المعطيات الماثلة الآن وخصوصاً التراجع الواضح والذي برز فى صفوف الحركة الإجتماعية والسياسية في تجربة الإنتخابات الحالية. مركز سالمة لمصادر ودراسات المرأة 17 ابريل 2010م