ذكر د. منصور خالد أن الرئيس الأسبق جعفر نميري زار كردفان بعد فترة من حل الإدارة الأهلية في بداية السبعينات. وقد قوبل بحفاوة، ورددت في حضوره عديد من الشعارات الداعمة لحل الإدارة الأهلية. وكان من ضمن الحضور في استقباله الناظر بابو نمر ناظر عموم المسيرية في جنوب كردفان. فأراد جعفر نميري أن يسري عنه بقوله: "إن شاء الله ما تكون زعلت من الهتافات بسقوط الإدارة الأهلية؟"، فأجابه الناظر الحكيم: "زي الهتافات دي لا بتودّي ولا بتجيب. نحنا عرفنا الإدارة الأهلية سقطت مما دخل القطر بابنوسة".. وقد عبر الناظر بابو نمر بهذا القول عن فهمه للتحول الكبير الذي طرأ على بنية النظام الاجتماعي وطبيعة العلاقات التي ربطت المجموعات القبلية بأنظمة الحكم المحلي، بفعل تطور وسائل التواصل والاتصال، والتغييرات في المفاهيم والعلاقات الاجتماعية وتضاؤل الولاءات القبلية. والحق أن خلخلة البنية التحتية لنظام الإدارة الأهلية في السودان استمرت بفعل التطور الطبيعي، وزادت من خلال نمو زيادة مساحة الوعي عبر وسائل التواصل وانتشار أدوات التعليم وربط المناطق المختلفة بالطرق المعبدة وغير المعبدة، فلم يعد الولاء الذي تمتعت به بيوت الإدارة الأهلية على نفس المنعة منذ إلغاء نظام الإدارة الأهلية في بداية السبعينات. ورغم أن نظام الإدارة الأهلية قد أدى أغراضاً كبرى لبسط يد الحكومة في الأصقاع البعيدة التي لا تصل إليها وذلك من خلال فض الاحتقانات والسلم الأهلي، وفي جمع الضرائب، وفي الأقضية والفصل في النزاعات، إلا أن سطوته تضاءلت وفقدت بريقها، ولم يعد له ضرورة في كثير من المناطق بفعل التداخل السكاني والوعي المجتمعي. أعجبني التمييز الذي ذكره د. عبده مختار موسى بين مفهومي القبيلة والقبلية ووضع كل منهما في سياقه الصحيح، فالقبيلة تشير إلى كيان تربط بين خلاياه عدة روابط تتعلق بأصل الدم واللغة أو اللهجة والعادات والثقافة. وهي وجود حقيقي لا يمكن إنكاره أو التقليل منه بحال. ويتعين النظر إلى خصائصه ومميزاته كإضافة إيجابية في نسيج الوطن الكبير بما يخدم قضية التنوع والتعدد. أما القبلية فتتعلق بعصبية تعلي من مصلحة القبيلة على كل مصلحة وتسخر قوتها لأغراض سياسية واجتماعية على نسق المبدأ الذي يعتقده الشاعر العربي دريد بن الصمة: وهل أنا إلا من غزية إن غزت غزيت وإن ترشد غزية أرشد من المستحيل القول بإلغاء القبيلة، فهي كيان حي ماثل لا يمكن استهدافه وإنما يتعين الاستفادة منه، وإنما من الضروري منع استخدامه لتحقيق أغراض سياسية في دولة تنشد أن تؤسس نظاماً حكومياً حديثاً يقوم على الولاء للوطن وتغليب المصلحة القومية على مصلحة العصبية الصغيرة. لم تبدأ فكرة إلغاء نظام الإدارة الأهلية باعتبارها إحدى روافع القبلية، مع جعفر نميري وإنما بدأت في وقت مبكر جداً فيي العهد الوطني. فقد كتب محمد أحمد المحجوب كتابه (الحكم المحلي في السودان) قبل الاستقلال عدد فيه مساوئ النظام القبلي وذكر (أن نظام القبيلة لا يصلح أن يكون وحدة لنظام الحكومة المحلية أو أي نظام حكم. أهم عنصر يٌراعى في مثل هذه الأحوال هو عنصر جغرافيته واقتصادياته ونوع الحياة التي يحياها سكانه) كما عاب عليه أنه يقوم على النظام الوراثي ولا يعطي الكفايات والمؤهلات الفردية فرصة الظهور لخدمة المجموعة لأنه ليس من المحتمل دائماً أن يكون رئيس القبيلة الكبيرة أقدر أفرادها على الاضطلاع بشؤون الحكم. وكانت تصفية الإدارة الأهلية أحد المطالب والشعارات التي رفعتها قوى الشارع خلال ثورة أكتوبر، إلا أن ذلك وجد طريقه للتنفيذ بعد مجيء نظام جعفر نميري. ورغم محاولات جعفر نميري في أواخر سنوات حكمه السماح الخجول بعودة الإدارة الأهلية لكن هذا الاتجاه لم يجد كبير اهتمام، وظل في دائرة التجاهل. واستمر الحال على هذا الوضع طوال فترة الديمقراطية االثالثة بين عامي 1985 و 1989. نفث نظام الإنقاذ طاقة دفع قوية في مفهوم القبلية واستغلالها لأغراض السياسة، من خلال تعميق البعد القبلي في شغل الوظائف وإنشاء هياكل إدارية لشؤون القبائل فيما عرف بمجالس شورى القبائل. كما أنه سعى لاستقطاب رضا بعض القبائل على حساب قبائل أخرى. وتم استغلال مفهوم القبلية في الصراع الدامي في دارفور وفي مناطق النزاعات الأخرى، وكان كل ذلك عن وعي كامل، وأدى في ختام المطاف إلى إحياء نعرة كانت قد تضاءلت وانزوت بعيداً عن دائرة السلطة. شهدت الفترة الانتقالية الحالية محاولات كبيرة لاستغلال القبلية لتحقيق أغراض سياسية، وليس بعيداً عن الذاكرة الملتقى الذي تم تنظيمه لشيوخ الإدارة الأهلية في عموم السودان أثناء التجاذبات بين المجلس العسكري والقوى المدنية قبل الوصول إلى صيغة توافقية حول إدارة الفترة الانتقالية، واصطف إلى جانب المجلس العسكري وفوضه تفويضاً مطلقاً بتشكيل حكومة تكنوقراط وكفاءات لإدارة شأن البلاد. وخاطب السيد محمد حمدان دقلو ذلك الملتقى وأشار إلى أهمية (أن ترجع الإدارة الأهلية لتاريخها الماضي وسلطاتها الحقيقية وفتح بيوت الإدارة الأهلية وتنظيمها وأن تكون مربوطة وأن تكون مسيطرة على القبيلة). واستغلت القبلية أيضاً أسوأ استغلال في حوادث لاحقة في ولايات الشرق ونهر النيل وأخذت شكلاً دامياً يخالف الحكمة والدعوة للسلام التي عرف بها أهل النظام القبلي أمثال الناظر بابو نمر والناظر منعم منصور والعمدة محمد حسن عمران. إلا أن أخطر ما يمكن الإشارة إليه هو تكريس القبلية لأغراض سياسية بموجب تشريع قبل أن تتم دراسة وافية لأوضاع الخدمة المدنية ومدى إمكانية الاستفادة من دور الإدارة الأهلية في تحقيق الخدمات الحكومية. فصدور تشريع عشوائي على هذا النحو قد يخلق أضراراً للسلم الاجتماعي يصعب تجاوز جراحاتها. وقد ظهر إلى العلن محاولات لتكريس القبلية على هذا النحو، فقد ورد في الأخبار أن نائب رئيس مجلس السيادة أجرى لقاءً بوفد الإدارة لأهلية في ولايتي نهر النيل والخرطوم، وذكر الناطق الرسمي باسم مجلس شورى قبيلة الجعليين حسن كافوت، إن اللقاء تطرق لعدد من القضايا في مقدمتها اتفاق السلام الذي تم توقيعه، بجانب أوضاع الادارة الاهلية في ظل القانون الجديد الذي يجري اعداده. الدعوة لإعادة تنظيم الإدارة الأهلية على النسق القديم تخالف منطق التاريخ، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ أن ألغي نظام الإدارة الأهلية في بداية السبعينات، وتمت تحولات اجتماعية وجغرافية لا يمكن تجاهلها. ويتطلب الاستفادة من نظام الإدارة الأهلية إجراء دراسة دقيقة وواقعية تحدد الجدوى التي يمكن أن يحققها والمناطق التي يمكن أن يطبق فيها في الحالات التي لا تستطيع الإدارة الحكومية أن تبسط نفوذها وسلطتها. وبالطبع فإن هذا يعني لا يعني تطبيق نظام الإدارة الأهلية كضربة لازب على كل أصقاع السودان. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.