فبراير 2021 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. يتعلق هذا المقال بقضية إصلاح الدولة وجهاز إدارتها، وكيف نبني الأطر التنظيمية الحديثة لمواجهة التحديات العظيمة اللازمة لتنفيذ الخدمات العامة للدولة ولتحقيق نهضتنا. وما يدعونا لطرح قضية الخدمة العامة هو أن قياداتنا التنفيذية والسياسية المكلفة ببناء الدولة، تبدو لي، وآمل أن أكون مخطئا، كما لو أنها تحلم بأن تدير وتشغل الدولة بالبيروقراطية المترهلة القديمة وبماكينة أقل ما يمكن أن نصفها به هو أنها آيلة الى الانهيار ومنتهية الصلاحية. ونبدو كما لو أننا نحلم لتسيير الامور بمنطق قوة الدفع. وهو منطق نعلم أنه هوالذى أدى الى انهيار منظومة الحكم السابق والى إنهيار منظومات سبقته منذ مولد دولة ما بعد الاسقلال. فعملية بناء الدولة تحتاج أولا لوضوح رؤى للمطلوبات التي نرجوها من منظوماتنا الآدارية ومؤسساتنا لننجز بها مهام الدولة وتحدياتها الجسام و تستدعي ثانيا تطوير وهندسة هياكل وبنى تنظيمية وإدارية تضمن لنا (على الأقل على المستوى النظري) مقدرة على انجاز الأهداف و تستدعي ثالثا استجلاب وبناء نظم العمل والتشغيل وأدوات الشغل وما يصفه متخصصي تقنية المعلومات بالتطبيقات والأجهزة ((Software and hardware التي تحول المدخلات الى مخرجات وفقا لمنظومات معالجة وتشغيل فعالة ورابعا استجلاب الكوادر لإدراة وتشغيل هذه المؤسسات وأخيرا السهر على متابعة أداء هذه المنظومات البيروقراطية والإدارية للدولة والحرص على تطويرها وديمومتها في خدمة مجتمعاتها وشعبها، وبالطبع فوق هذا وذاك توفير الموارد المادية اللازمة لبناء هذه الماكينة. والسؤال هو هل أقدمنا بعد الثورة ، ونحن نقبل على اصلاح وبناء الدولة التي ورثناها منهارة تماما، على فحص وتقييم فعالية وملاءمة أجهزة الدولة ونظم ادائها وكفاية كوادرها أم أننا، وفي تسابقنا على توزيع المناصب، قد افترضنا أننا ورثنا منظومة ملائمة تماما لمهام البناء والانتقال؟؟ وانطلقنا بيقين تام من أن قوة دفع هذه المؤسسات وقدراتها كافية. ولذلك فنحن نحصد اليوم نتاج ضعف دولتنا وحقيقة هوانها في مظاهر تتجلى لنا يوميا باشكال متجددة، ولكننا نشغل انفسنا بالظواهر ونغفل عن جوهر العلل والامراض؟ فالتشخيص السليم أول خطوات الاصحاح والعلاج. هذا المقال دعوة للتفكير الجاد حول هذه المهمة المتمثلة في اصلاح ماكينة الدولة على كل مستويات الحكم الاتحادي والولائي. فالنجاح منعقد عندنا، كما في كل التجارب الإنسانية، بنجاحنا في بناء الدولة القادرة. وهي الدولة التي تتمكن من تطوير القدرة على بناء الهياكل والمنظومات ومناهج العمل والمنظومات والاستراتيجيات وبناء ماكينة العمل ذات الفعالية والكفاءة والمرونة. وهذه الخواص والمميزات لا تحدث هكذا بالصدفة ولكنها تبنى عن قصد وتشحذ لها الإرادة والعزم وتوفر لها الموارد. وفي حال توفرها فهي تمثل ضمانة مهمة بل وأساسية للنجاح، من ضمن أمور أخرى. وعندما تصل الأمور الى ما وصلنا اليه من انهيار مخيف في مقدرات الدولة، ومؤسساتها على كافة مستوياتها العليا والوسيطة والدنيا، فان تخيل أن حل الازمة يتمثل في مجرد جلب وزراء "سوبرمانات" يتجاوز عددهم العشرين بقليل هو ضرب من الخيال وموقف يدعو الى دق ناقوس الخطر لتذكير الناس بعظم ما ينتظرنا من مهام معقدة ومركبة يبدو أننا نغفلها بقصد أو بغفلة. لدينا تجارب تاريخية متعددة ومختلفة حول قضية الخدمة العامة واصلاحها، كما تتعدد تجارب العالم حول ذات الامر. ولكن ما يستحق التنبيه له أننا وفي ظل تنامي ثقافة الإهمال والاستخفاف بالمهمة، مهمة تطوير أجهزة الدولة وبناءها، أصبح الخيال الجمعي عندنا يقف بالمهمة عند سقف "اصلاح الخدمة المدنية" بما لا يتجاوز إختيار الكوادر بعدالة، مهما كان مفهومنا لهذه العدالة، وما لا يتجاوز قضايا "التوظيف". وبهذا فهذا الخيال يتقاصر عن أن المطلوب هو توسيع لمفهوم "مدى" "ومهام ومحتوى" هذا الإصلاح. فمن حيث مداه فهل هو إصلاح للدولة أم إصلاح للخدمة العامة بما قد يعني شموله للخدمة العسكرية والمدنية على كافة مستويات الحكم بمعنى المفهوم الأشمل للدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية؟؟ ومن حيث محتواه فهو لا يقتصر على عمليات التوظيف التي تشمل الاختيار والمرتبات والأجور وانما يتطلب النظر الى الموضوع كإعادة بعث الحياة لماكينة إدارة الدولة وأجهزتها، بما يعنيه ذلك من إعادة النظر في اختصاصاتها التي اختلط حابلها بنابلها، والنظر الى اقتصاديات الدولة كلها بجدية وواقعية. فللدولة منطق اقتصادي يتطلب فحص مختلف مكونات أجهزتها ومؤسساتها وطرح أسئلة تتعلق بمبرر وجودها من ضمن منظومات الحكومة ابتداءا. كما يتطلب فحصا لفعاليتها بوضعها الراهن وكفاءتها ومقدرتها على الاستجابة لتحولات الطلب على خدماتها(responsiveness). ولا ينتهي الامر عند تقييم أجهزة الدولة فحسب ولكنه يتطلب ابتدار التحديث والتطوير لهذه المؤسسات وتثويرها. وهذا بالطبع يتطلب وجود عقل مركزي أو "خلية مركزية" تكون مهمتها الرئيسية السهر على مراقبة ومتابعة هذه الآلة وإصدار تقرير سنوي دوري حول نظمها وأدائها: لعل مسماه الأمثل يكون "حالة آليات وأنظمة الدولة"، يوضح بحيدة وشفافية حالة مؤسسات الدولة. وسيكون من المنطقي أن يكون هذا الجهاز إداريا تحت الاشراف المباشر للسلطة التنفيذية، أي لرئيس الوزاء مباشرة. ويجب أن يراعي هذا الجهاز الاعتبارات السياسية والاجتماعية في أعماله وخياراته وممارساته حيث أن الامر يتعلق ببناء الدولة مثلما يتعلق أيضا ببناء الوطن مما يتطلب الحرص على معالجة قضايا إدارة الدولة ومنظوماتها وتواؤم ذلك مع مطلوبات بناء وطن يتيح مكانا فيه لكل شعوبه. وقد يكون من المفيد أن تبدأ المهمة بأعداد تقرير أولي تقييمي شامل يحدد خط البداية لحال الدولة ومؤسساتها يكون نقطة ارتكاز(Baseline Report) يقاس إزاؤها مستقبل تقدمنا ونجاحنا في المهمة التعلقة ببناء أجهزة الدولة وفقا لمؤشرات فعالية وكفاءة متفق عليها. ففي دولة اليوم يكاد المواطن لا يعلم شيئا عن المؤسسات التي تتبع للدولة (كليا أم جزئيا) وماذا تفعل باسمه، ومن موارده، وما هي مبررات وجودها...ولا يشرك في معرفة ما يحدث فيها لأنها لا تحرص على طرح ما تقوم به لخدمته بشفافية وما هي أسس حوكمتها؟ ومن هي المجموعات التي تقرر بشأنها وما دورها ومشروعيتها في تكوين وتشكيل مؤسسات الدولة ولمصلحة من وما هو منطقها؟؟. كنت قد شاركت ومعي أحد الزملاء في إطار تكليف استشاري من أحد مشاريع البنك الدولي خلال العام 2018 بإعداد دراسة حول تعزيز الموارد الذاتية لولايات سنار ونهر النيل وكسلا وشمال كردفان سنة 2018. وعلى الرغم من محدودية مطلوبات بنود أختصاص تلك الدراسة ولكنها افادتنا في فهم "حالة ماكينة الحكم" على مستوى الولايات، وهو مستوى ربما يكون الأهم في الكثير من القضايا التي تهم حياة الناس مباشرة مثل الصحة والتعليم وغيرها. وقد كان من أهم نتائج تلك الدراسة هي التنبيه الى أننا نحتاج الى مراجعة لآلة إدارة الحكم الولائي والتي كانت وبالطبع، ولاتزال، معتلة ومريضة تعاني من قصور مواردها مقارنة مع المهام الملقاة على عاتقها. فهي، ومع إتهام أهل الولايات لها بأنها أصبحت آليات للجبايات، فانها، اذا استبعدنا الجهد الكبير الذي تبذله لتوفير مرتبات أصحاب المهن الصحية والتعليمية فان نموذج عملها جعلها عاجزة عن تقديم أكثر من الإيفاء بالمرتبات بالكاد. وصارت موازناتها مقلة عن توفير الحد الادني للموارد التسييرية للتعليم والصحة ذاتها وأصبحت في معظم القطاعات الأخرى لا تكاد تفي بمقابلة المرتبات وأصبحت اقرب لنظم الاعاشة وتكتفي بدفع المرتبات للألاف دون توفير معينات العمل لهم ليقدموا الخدمات للمواطنين، وحتى حين تنجح فان نوعية الخدمات تكون أقل من التوقعات في كل المرافق،مما يستدعي المراجعة التي يدعو لها هذا المقال. وأكتب هذا المقال أيضا وبخاطري أيضا، كمثال آخر، أحد قضايا إدارة الأجهزة المعنية بإدارة المدخرات العامة مثل التأمينات الأجتماعية والمعاشات التي تستحق الدراسة والتقييم. فقد كانت تدار في الماضي ،كما تدار هذه الأنظمة في معظم دول العالم، وفقا لما ورثناه من الانجليز بنظام الخصم والانفاق الجاري عبر موازنة الدولة وما يعرف بنظام (Pay-as-you-go)، وهو نظام شبيه بنظام الضمان الاجتماعي الأمريكي أيضا. تحولنا منه قبل عقود الى نظام انشاء صناديق استثمارية مستقلة. والسؤال هنا هو هل قمنا بتقييم موضوعي لنجاعة هذا النظام الجديد وما هو تقييمنا لأداء هذه الأجهزة التي كلفت بإدارة هذا الموارد الهامة بعد تحول منهج ادارتها، لا سيما وأن بين يديها موارد مالية ضخمة وأنها تمثل منظومة مهمة في حياة الألاف من العمال والموظفين. غاية حديثي هو أن دولة رئيس الوزراء ومجلسه الموقر وبحكم جلوسهم على قمة الجهاز التنفيذي للدولة نثق في أنهم سيكونون حريصين على قيام مفوضية إصلاح الخدمة العامة (إذا اتفق على توسيع مهمتها لتشكل الخدمة العامة كلها) ولعل من أهم دوافع كتابة مقالنا هذا هو الا تقتصر مهمتها على حيدة الإختيار لوظائف الحكومة ولكن أن تتوسع لتشمل الحرص على تقويم وتحسين فعالية وكفاءة الآلة الإدارية للدولة على مستوى المركز والولايات، مثلما أشرنا اليه أعلاه.. وأثق في أن هذه المفوضية ستجد عونا كبيرا من العديد من أهل الرأي والخبرة من الوطنيين في الداخل متى ما استقطبوا لأداء الواجب لعونها، وستجد أيضا العون الفني المماثل من كل المانحين لأنهم بذلك يعلمون أنهم سيعينوننا على تدبر أمر بناء دولتنا بدلا من تلقي الدعم منهم بالغذاء لبلد يفترض الجميع أن تكون مصدرا لغذاء الآخرين. ويستدعي الامر وضع تصور شامل لبنود اختصاصها ومهامها ومنهجها وأجندة طموحة في برامج عملها لعله يبدأ بدراسة تجاربنا السابقة وتجارب الآخرين والاستفادة منها. ونعلم أيضا أن عملها سيواجه بكثير من التحديات أولها أخذ الأمر كتأدية واجب والالتزام الإسمي بالإستحقاق الدستوري بتكوينها بدلا من أعتبارها فرصة حقيقية للقيام بعمل تأسيسي تنتظره البلاد. وثاني التحديات هو ما بتعلق بموضعة المفوضية بما يعطيها ما تستحق من موارد وصلاحيات وإرادة لتعمل عملها المرجو منها، وأن ننطلق بأن ما ننفقه عليها هو ليس "انفاقا" وانما هو استثمار أذا جودنا نهجه سيكون ربما الأعلى عائدا، وسيشكل نجاحه بداية في طريق نجاح مشروعنا الوطني الذي نطمح لتحقيقه. أن تجاهل تكوين هذه المفوضية وقد مضى عام ونصف على توقيع الوثيقة الدستورية فهو مما قد يرسل رسائل سالبة تعبر أما عن جهلنا لحال آلتنا التنفيذية وهي الأساس لبناء الدولة، أو عن قناعتنا بأن قوة الدفع وحدها كافية لادارة مؤسسات الدولة أو عن إغفالنا المهمة نفسها بافتراض ألا حاجة لنا لبناء الدولة وأن التحدي قد أنتهى بقيام الثورة.....لا نحتاج للقول بانه أيا كان سبب تجاهلنا لهذه المهمة الملحة فانه ما يقع في مكان الخطأ إن لم يكن في مكان الخطيئة. أن مهمة بناء الدولة تشكل أحد ثلاث ركائز لارساء نظام الحكم والتي تتطلب وتتمثل في بناء المنظومة الإدارية للدولة (أو بناء الدولة) وحكم القانون والديمقراطية. ويحتاج الامر عندنا في السودان الى بذل جهود متوازنة في المحاور الثلاثة كون أنها جميعها تحتاج لعنايتنا ورعايتنا بسبب ضعفها وتحديات بنائها، غير أنه من البداهة مراعاة أن الاسبقية يجب تعطى لبناء الدولة: حيث أننا اذا فقدنا الدولة، وهذا ما أصبحنا نخشاه في ظل التدهور المريع في مقدراتها، فان الحديث عن الديمقراطية وحكم القانون يظل غير ذي معنى. لا مجال لافتراض أن قوة الدفع ستكون كافية لنا في أي جبهة من هذه الجبهات.