حيّرت نتائج الاستحقاقات الانتخابية التي أُعلن عنها من قبل المفوضية القومية للانتخابات حتى الآن مراقبي الشأن السياسي السوداني داخل السودان وخارجه، من حيث اكتساح المؤتمر الوطني لهذه الاستحقاقات الانتخابية بشقيها التنفيذي والتشريعي في الشمال، وكذلك الحال بالنسبة للحركة الشعبية في الجنوب، لذلك ذهبت النظريات والتحليلات السياسية إلى مذاهب شتى في تفسير هذه الظاهرة المحيرة التي جعلت هذه الانتخابات في نتائجها أقرب إلى الاستفتاءات التي تكون نتائجها معدة سلفاً ونسبتها مقررة اتفاقاً، إذ أن النسبة المعهودة لمثل تلك الاستفتاءات هي 99% أو يزيد. وهذا ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات حتى الآن، ومن التفسيرات التي بدأت تتداول في وسائل الإعلام المختلفة، محلياً وخارجياً، وبين ألسنة السودانيين، أحزاباً وأفراداً، أنها ناجمة عن عمليات تزويرٍ خالية من ذكاء المزورين، وموسومة بالمكر السيئ للظالمين، حسبما ذكرت أحزاب وقوى سياسية، مشاركة أو مقاطعة لتلك العملية الانتخابية. من ذلك ما جاء في بيان الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي عن هذه الانتخابات: "إننا قد تبين لنا بالشهادة والتجربة من داخل أروقة المشاركة بالانتخابات أنها كانت معلولة أساساً لانعدام الحرية السوية العادلة وللتمويل الحرام من خزينة الدولة وأنها من بعد كانت معيبة في إدارة المفوضية الخرقاء وفي التسجيل ومراكز التسجيل العسيرة البلوغ أحياناً إلا لذي الوارد من الدولة – كل ذلك احتملناه ومضينا. لكن تبين لنا أنها انتهت بعد الاقتراع عند ضرورة حفظ أوراقها وحسابها إلى زور شين وزيف فاضح، وسنرفع الأمر للقضاء، لكن من العسير في السودان أن يحاكم السلطان الجاني بحكم القانون وضمير القضاء الحر، ولذلك سنعتزل كل ما ترتب على هذه الانتخابات من النيابة إلا في مواقع متأزمة، بل سيعتزل مرشحونا أيما إعادة للانتخابات في دائرة. ذلك فضلاً عن أنا لن نشارك في أي سلطة يسود فيها هؤلاء المتحكمون بالقوة والمكر الباطل". أما السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) فأصدر بياناً قبيل مغادرته الخرطوم يوم الاثنبن الماضي غضباناًً أسفاً إلى القاهرة، رافضاً الاعتراف بنتائج الانتخابات، إذ جاء في بيانه: "إن قيادة الحزب إذ تحيي هذا الدور الكبير لكوادر وجماهير الحزب بمختلف قطاعاته الشبابية والطلابية والنسوية والمهنية في جميع بقاع السودان، رغم ظروف القهر والتغييب وممارسات الحكم الشمولي السلطوي لأكثر من عشرين عاماً وضعف إمكانيات الحزب المادية، لعلي ثقة تامة بأنّ جماهير الحزب ستواصل الجهود والعمل الجاد لتمتين بناء الحزب والاستعداد للجولة القادمة للانتخابات، والتي ستكون قريباً بعون الله، متمسكة بما أتيح من هامش الحريات التي ناضلت من أجلها وحققتها بالكفاح دون منة من أحد وسيكون النصر المؤزر حليفها بمشيئة الله طال الوقت أم قصر. كما اننا على ثقة تامة أن جماهير حزبنا رغم غضبتها من عمليات التزوير الفاضحة الواضحة سوف تتحلى بما عرف عنها من يقظة في هذه الظروف الدقيقة التي يواجهها الوطن. وسوف لن تستجيب لأي استفزازات من أية جهة كانت حرصا منها على سلامة الوطن والمواطنين. نقول قولنا هذا، لعل فيه عبرة لكل معتبر، ولمن سمع ووعى وأدرك وأرعوى، والسلام على من اتبع الهدى". وما كان للسيد محمد عثمان الميرغني مغادرة البلاد في هذه الظروف الوطنية العصيبة، إذ أن الأمر يستدعي بقاءه للمشاركة في البحث عن الإجماع الوطني لمعالجة تداعيات العملية الانتخابية. أما عن سؤاله عن الذين قابلوه في بلدتي كسلا أين ذهبوا؟ هل شالهم القاش؟ أطمئنه أن القاش بالنسبة لأهل كسلا ليس كله شر مستطير، بل فيه خير كثير، زراعة وثمار، وجمال وسياحة. ولما كان أهل كسلا تغلب عليهم رقة المتصوفة وحب المريدين، التي جاءتهم من مجاورة ضريح السيد الحسن الكبير – عليه رحمة الله - لذلك تجدهم يستصحبون في ذلك أقوال الفقهاء الذين دافعوا عن الموسيقى والغناء، منهم قول ابن عربي: ".. وليس الغناء بحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمعه في بيته وبيت غيره، وقد وقف عليه في حياته.."، وقول الفقيه الأديب ابن عبد ربه: ".. وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب..". لذلك تجدهم أميل إلى اعتماد قول المبيحين للغناء، كابن حزم الظاهري الأندلسي، وأبي الفضل المقدسيّ اللذين دافعاً بقوةٍ عن سماع الأغاني والموسيقى. فمن هنا كان القاش مسرح غنائهم وملتقى عشاقهم، فلا غرابة إن قال فيه (القاش) الأخ الصديق ابن بلدتي كسلا الشاعر عبد الوهاب هلاوي: مين علمك يا فراش تعبد عيون القاش الخضرة فى الضفة وهمس النسيم الماش على حمرة الوردة وحب الندى الرقاش غافل وما عارف انو الزمن غشاش بالله ليه يا فراش خلاك وراح القاش ودعواتنا لك بالعود الحميد إلى أرض الوطن يا أبا هاشم. وقال السيد مبارك الفاضل المهدي رئيس حزب الأمة: الإصلاح والتجديد في حوار أجرته معه صحيفة "الحقيقة" أول من أمس: "المؤتمر الوطني كان يريد انتاج نفسه بثوب ديمقراطي وإعادة انتاج نفسه تعني إعادة انتاج الأزمة السياسية في البلد، ونحن الآن منعنا ذلك، منعنا المؤتمر (الوطني) من هذا بمصوغ ديمقراطي، لأننا منعنا عنه الشرعية السياسية التي كان من الممكن أن يأخذها بالتزوير من خلال هذه الانتخابات، الآن نحن فضحنا هذا الأمر، والآن كل الإعلام العالمي والإقليمي يتحدث عن انتخابات مضروبة، فنحن أفشلنا المخطط كله، إذن المؤتمر الوطني إذا سار في انتخاباته هذه هو سيكرر سيناريو عام 1996 وعام 2000 على أنها انتخابات في ظل أوضاع شمولية ستفرز نفس الشكل الذي كان موجوداً سابقاً، بالتالي هذه الانتخابات أصلاً كنا ننظر لها كمدخل لحل أزمة الحكم في السودان، هذه الانتخابات بشكلها الحالي ستكرس أزمة الحكم في السودان". كما ذكرت الولاياتالمتحدة الأميركية يوم الاثنين الماضي أن الانتخابات السودانية لم تكن حرة أو نزيهة، لكنها ستتعامل مع الفائزين، في محاولة لتسوية النزاعات الداخلية قبل استفتاء يمكن أن يجلب الاستقلال لجنوب السودان. وقال فيليب كراولي المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية: "لم تكن هذه الانتخابات حرة أو نزيهة"، مضيفاً "وهي لا تفي بصفة عامة بالمعايير الدولية". وقال للصحفيين: "بعد قول ذلك أعتقد أننا نعترف بأن الانتخابات خطوة بالغة الأهمية نحو تنفيذ اتفاق سلام 2005 الذي جعل الجنوب شبه مستقل، ومنحه نصيباً في إيرادات النفط، وطريقاً نحو الاستقلال (الانفصال) من خلال استفتاء بحلول يناير 2011". وفي بيان منفصل قالت الولاياتالمتحدة وبريطانيا والنرويج، باعتبارها دولا ضامنة لاتفاقية نيفاشا، "إن الانتخابات السودانية شابها إعداد سيء ومخالفات مشتبه بها"، ودعت هذه الدول الثلاث المسؤوليين السودانيين إلى تنفيذ اتفاق سلام 2005 بالكامل. وتفسير آخر لظاهرة اكتساح المؤتمر الوطني للانتخابات في الشمال، روج له بعض من قيادات المؤتمر الوطني أن هذا الاكتساح نتيجة طبيعية لجهد مكتسب من الحزب، من حيث الإعداد والتنظيم والتمويل للعملية الانتخابية. وعزا بعضهم السبب إلى ضعف مشهود في الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، وانفضاض جماهيرها والتفافهم حول المؤتمر الوطني، ودليلهم في ذلك أن جماهير الأحزاب التقليدية انفضت من أحزابها، وجاءت إلى المؤتمر الوطني زرافاتٍ ووحداناً. وتأكيداً لذلك قال الدكتور نافع علي نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني للشؤون السياسية والتنظيمية في تصريحات صحافية يوم الأحد الماضي "إن الانتخابات أخرست الألسن وفتحت العيون "المعمشة"، والآذان الصم، ولا مجال للقدح فيها"، معتبراً نتيجتها تحولاً جذرياً في الخارطة السياسية السودانية، مؤكداً إن ما وجده حزبه من الأصوات تجاوز عضويته المسجلة. أخلص إلى أن المؤتمر الوطني أدخلته هذه الانتخابات في مأزق جديد، خاصة إذا أصر على تجاهل الدعوات الحكيمة من بعض قياداته التي تستشرف آفاق المرحلة المقبلة وتحدياتها التي تتطلب السعي الصادق إلى الإجماع الوطني والرؤية المشتركة لمواجهة تحديات استحقاق الاستفتاء على تقرير المصير في جنوب السودان، وذلك بترتيب الأولويات الوطنية، بحيث يكون خيار الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين والشماليين معاً، إضافة إلى بذل جهود مقدرة لجعل الاتفاقين الإطاريين مع حركة العدل والمساواة وحركة التحرير والعدالة إلى اتفاق نهائي مع كافة الحركات المسلحة في دار فور، ليعمل الجميع من أجل سودان موحد ومستقر ومزدهر. ولكن يبدو أن الدكتور نافع من الرافضين لتوسيع قاعدة الحكومة المقبلة، لتكون حكومة إجماع وطني لمواجهة التحديات الوطنية المقبلة، إذ قال: "لن تكون هناك مساومات حزبية، ولن يكون هناك مجال للأحزاب التي قاطعت (الانتخابات)، بالمشاركة في الجهاز التنفيذي للدولة". بينما سارع الدكتور غازي صلاح الدين العتباني القيادي في المؤتمر الوطني عندما ظهرت المؤشرات الصادرة من مراكز الاقتراع باكتساح المؤتمر الوطني للانتخابات، إلى الدعوة في تصريحات صحافية إلى إجماع وطني ورؤية مشتركة لمعالجة التحديات الوطنية المقبلة، من خلال حكومة ذات قاعدة عريضة. وأبان دعوته في مقال مميز في صحيفة "الشرق الأوسط" يوم الثلاثاء الماضي، مؤكداً في مستهله "نصر المؤتمر الوطني في الانتخابات هو نصر مستحق، لأنه كان الحزب الأكفأ والأكثر أهلية من جميع النواحي: التنظيم، والتشبيك، والحركية، ووضوح الرؤية، وفاعلية القيادة"، مشيراً إلى أنه "مفهوم أن بعض تلك القوى غير راض، بل غير مؤيد، بل غير معترف بنتيجة الانتخابات، وهو موقف يصعب الثبات عليه في إطار تفويض انتخابي محلي قومي واعتراف دولي بالانتخابات. وسيكون على المؤتمر أن يعين تلك القوى على اتخاذ الموقف البناء تأسيسا على حقيقة النتائج. النجاح في هذه المهمة سيعني اتخاذ الوضعية الصحيحة للتعامل مع أعجل قضية وطنية تالية وهي مسألة الاستفتاء في الجنوب واحتمالات الانفصال. وبينما يمكن التسليم بقدرة المؤتمر الوطني على أن يخوض تحدي الوحدة الوطنية وحده، فهو لا تنقصه الكفاءات ولا الخبرة، فإن النتائج ستكون أفضل إذا جابه المؤتمر الوطني تحديا كهذا في ظل تماسك وطني ورؤية مشتركة تتوافر على أكبر إجماع ممكن لدى القوى السياسية. في هذا السياق وردت الدعوة إلى إنشاء حكومة ذات قاعدة عريضة. كيف تكون الدعوة إلى مثل هذه الحكومة، ومن تشمل ولا تشمل، هي قضية تفصيلية لكن أصل الدعوة وجوهرها صحيح، وهي دعوة ترسل إشارة طمأنة ضرورية بأن المؤتمر لا يرغب في احتكار الساحة السياسية من حيث الرؤى والمواقف ولا احتكار المناصب من حيث مواقع السلطة". وأحسب أن دعوة الدكتور غازي تأتي ضمن دعوات مماثلة لبعض قيادات المؤتمر الوطني، من حيث أن التحديات الوطنية للمرحلة المقبلة تستدعي أهمية الإجماع الوطني والرؤية المشتركة، وتغليب الحس الوطني على الحس الحزبي، بعيداً عن المشاكسات الحزبية. فلا شك أن هذه الانتخابات غابت عنها الشرعية السياسية نتيجة لعدم الاعتراف بها من الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، مشاركة أو مقاطعة للعملية الانتخابية، كما أنها تتسم بحضور كثيف للهواجس الأمنية، وفوق هذا وذاك أن من تداعياتها الخطيرة قضية أن يكون السودان بوضعه الحالي بعد 6 يناير 2011 أو لا يكون! والتاريخ لن يرحم. ولنتذاكر في هذا الصدد جميعاً قول أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الوائلي: بلادي وان جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام Imam Imam [[email protected]]