لست من المؤمنين بمطلق فكرة المؤامرة، ولكني ايضا اعرف جيداً بحكم التخصص والخبرة ان عالم اليوم منقسم الى معسكرين؛ معسكر الدول المتقدمة الغنية، ومعسكر الدول النامية الفقيرة، والجميع يعيشون في كوكبٍ مساحته محدودة، و يتزايد عدد سكانه بمتوالية هندسية لدرجة الرعب، وتتناقص موارده وتتدهور بيئته نتيجة لذلك العامل بنفس المتوالية الهندسية وربما بصورةٍ افدح. ووفق مبدأ غريزتي البقاء والاستحواذ، يستخدم سكان المعسكر الأول كل ما أوتوا من قوة مادية صلبة (جيوش وآلة عسكرية) وناعمة (تقدم علمي وتكنولوجي) في الاستحواذ على موارد الارض والتحكم في سكانها. كان ذلك المعسكر في السابق لا يبالي باستخدام القوة العسكرية، كما حدث في القرون السابع و الثامن و التاسع عشر الميلادية، حينما اندفعت جيوش مبراطوريات القارة الأوربية لاحتلال القارات البكر (افريقيا واستراليا وآسيا وامريكاالجنوبية)، حيث تبدأ العملية بمغامرين آحاد للاستكشاف ثم تتبعهم الجيوش الجرارة لأخضاع تلك البلاد وسكانها بالقوة تمهيداً لعملية نهب مواردها، لتغذية غول الحضارة الغربية واشباع نهم سكانها في الاستحواذ والتملك. ومع بداية القرن العشرين، انتبهت تلك الشعوب المستعمرة لفرية نهب الموارد تحت لافتة نشر الحضارة، فانتظمت فيها حركات التحرر التي ساعدها تنامي جشع وطغيان الحضارة الغربية متسبباً في اندلاع الحربين العالميتين الاولى والثانية، فتمكنت معظم دول العالم الفقيرة (المصنوعة) من الفكاك من الهيمنة الاستعمارية المفروضة بقوة الجيوش واجتهدت في تكوين انساق حكم وطني تتحكم فيها نخب عسكرية (انقلابات) او مدنية (ديمقراطيات هشة) عادةً ما تكون متشربة بثقافة المستعمر وتقع اما ضحية الاستلاب الحضاري او دورات العنف الكامن الذي يأخذ شكل حروبات ونزاعات داخلية متطاولة تنهك المجتمعات وتقعد بها عن تحقيق الاستقرار وممارسة الحكم الراشد. والسبب في ذلك هو ان معسكر الدول المتقدمة بعد تلك التجربة الاستعمارية، قد غير من تكتيكاته لتحقيق اهدافه الثابتة في السيطرة على موارد العالم عبر التحكم في شعوبه، ولجأ الى ممارسة حيل واساليب جديدة استعاض فيها عن الجيوش الجرارة والآلة العسكرية الجبارة بتبني آليات سيطرة ناعمة منها اضعاف الدول بالتسويق للديمقراطية الغربية تحت شعارات تطبيق مبادئ حقوق الانسان واقتصاد السوق وحرية التجارة في مجتمعات لها انساق ثقافية مختلفة وربما تتناقض مع انساق ثقافة وبنية المجتمعات الغربية، الامر الذي يجعل محاولة فرض تلك الانساق يؤدي الى نشر الفوضى و تغذية النزاعات الداخلية التي تتحول في غالب الاحيان الى حروبات اهلية تشغل النخب في هذه الدول عن الالتفات الى بناء هياكل حكم راشد وفق ثقافاتها المحلية يقود الى الاستقرار والنماء، وبذلك تسهل عملية نهب مواردها والسيطرة عليها دون الحاجة الى تحقيق ذلك عبر التكاليف الباهظة للغزو العسكري. وقد بلغت هذه الحيل الماكرة ذروتها بتبني سياسة ما يسمى بنشر (مفهوم الفوضى الخلاقة) التي تنسب لوزيرة الخارجية الامريكية السابقة كونداليزا رايس (2005-2009)، والتي عملت ايضاً كمستشارة للامن القومي الامريكي في عهد الرئيس الأسبق بوش الإبن. الفوضى الخلاقة" هي نظرية ترى أن وصول المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى متمثلة بالعنف والرعب والدم، يخلق إمكانية إعادة بنائه بهوية جديدة. تبنت كوندوليزا رايس، مفهوم "الفوضى الخلاقة"، وأوضحت لصحيفة "واشنطن بوست" عام 2005 كيفية انتقال الدول العربية والإسلامية من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، معلنة أنّ الولاياتالمتحدة ستلجأ إلى نشر الفوضى الخلّاقة في الشرق الأوسط، في سبيل إشاعة الديمقراطية. " بدأت العملية في عام 2011 وحقق المخطط نجاحا باهرا لاسيما في مصر وليبيا والعراق واليمن وتونس، وعرج على السودان متأخراً في عام 2019. معظم هذه الدول التي انتظم فيها الحراك الذي اطلق عليه (ثورات الربيع العربي)، قد دخلت في متاهات سياسية اهم معالمها الاستقطابات الداخلية الحادة وصراعات النخب والتدهور الاقتصادي وعدم الاستقرار المجتمعي والوقوع فريسة للتدخلات الاجنبية. فسياسة نشر الفوضى الخلاقة، بالرغم من الشعارات البراقة تحت لافتة الديمقراطية والحكم الراشد وحقوق الانسان، هي تهدف في جوهرها وغرضها الخفي الى خلق دول (فاشلة) لتسهيل عملية التحكم فيها والوصاية على شعوبها والسيطرة على مواردها. واذا نظرنا الى الخريطة سنلاحظ تمدد عضوية هذا النادي في العقود الاخيرة من افغانستان وسوريا والعراق ولبنان واليمن في آسيا، الى الصومال ودولة جنوب السودان، والسودان، وافريقيا الوسطى والنيجر ومالي وليبيا وربما تشاد في القريب العاجل في افريقيا، وكذلك انضمت اليه بعض الدول في قارة امريكاالجنوبية. القاسم المشترك الاعظم بين كل هذه الدول الفاشلة او تلك التي في طريقها الى الفشل، هو التدخلات الدولية التي تهدف الى انهيار بنية الدولة الوطنية وتمدد واقع (اللادولة)، عبر صناعة توازنات دقيقة خفية بين النخب المؤثرة في الساحة السياسية واحداث تقاطعات داخلية عميقة بتأثيرات خارجية للدرجة التي يستحيل فيها بروز تيار قوي موحد يمكنه التغلب على بقية القوى لفرض الامر الواقع، وتوحيد المجتمع ومن ثم بناء نظام حكم وطني متماسك يتخلص من الوصاية الاجنبية ويحفظ هيبة الدول ويفرض الاستقرار والأمن ويواجه تحديات التنمية بوقف التدهور الاقتصادي عبر السيطرة على الموارد وتوظيفها لصالح الشعوب. وارى ان ربيع السودان (ثورة ديسمبر) هو مرحلة متقدمة من نجاح سيناريو نشر مفهوم الفوضى الخلاقة الذي سبقته تحضيرات مكثفة لتدريب واعداد العناصر اليسارية التي تمكنت باستخدام الوسائط والحراك الثوري من اضعاف نظام الانقاذ ثم اسقاطه بنفس تكتيكات ثورات الربيع العربي والتي هي اصلاً مصممةٌ بحيث تفلح في اقتلاع الانظمة الدكتاتورية عبر الانتفاضات الشعبية ولكنها تفشل في ادارة الدولة والنهوض بالمجتمع والاقتصاد بعد ذلك لأنها لم تدرب على ذلك، وان من دربها واطلق عقالها اصلاً ليست تلك غايته. سقط نظام الانقاذ، وكانت الثورة محل رضى من الجميع حتى من بعض افراد ومكونات النظام السابق نفسه، وكانت سقوفات تطلعات وآمال الثوار (الحقيقيين) ومعنوياتهم عالية، ولكن ما بين براءة وعنفوان الثورية الجامح، وواقع مجتمع النخب المقسم بدأت الأمور تلقائياً تتجه نحو سلسة الأزمات المتوقعة وفق سيناريو نشر الفوضى الخلاقة. انحاز العسكر للثورة وكانت لهم اهدافهم ومخاوفهم، واضطرت القوى المدنية وعلى رأسها نشطاء اقصى اليسار (شيوعيون وعروبيون وجمهوريون)، الذين كانوا ابرز ادوات التغيير، تحت ضغط الواقع الى القبول بشراكة مع العسكر وبعض كيانات اليمين المعتدل (الاحزاب الطائفية) هم اصلا غير مقتنعون بها وفي دواخلهم يضمرون هدفهم الخفي وهو إسقاط اقصى اليمين (التيارات الاسلامية) والاحزاب الطائفية معاً بالضربة القاضية والتخلص منهم للأبد للانفراد بالساحة. وقد ظهر من خلال الممارسة الفعلية للادوار ان كلا المكونين العسكري والمدني يضمر شراً للطرف الآخر ويمارس معه لعبة القط والفأر ويتحين السوانح للتخلص منه، ولكن الذي لم يتنبه له الطرفان ان هناك توازنات دقيقة مصنوعة تفرض نفسها على الكل ولا يستطيعون الفكاك من قبضتها، لانها مصممة لتتغذى من الحبل السري للتناقضات والاستقطابات الداخلية بين عناصر تلك المكونات. وما فاقمها وزاد الطين بلة هو ان درجة العداء التاريخي المستحكم بين اقصى اليمين واقصى اليسار واستعجال الأخير لاستخدام سانحة الثورة لتصفية الأول، في تكتيكٍ مكشوفٍ عبر آليات مستمدة من زخم الثورة وعنفوانها، قد عمق من ميكانزمات الصراع بين كل المكونات رأسياً وافقياً والتي من الطبيعي ان تزداد حدةً وتعقيداً مع تقدم الوقت للدرجة التي تجعل من عملية التحكم فيها شبه مستحيلة، لانها ببساطة تخضع لتأثيرات عملية نشر وتكريس مفهوم الفوضى الخلاقة الذي يهدف في محصلته النهائية الى تحويل السودان الى دولة فاشلة تنضم الى نادي الدول الفاشلة متمدد العضوية ليسهل للدول المتقدمة نهب ثرواته والتحكم في انسانه. اصبح غالبية الشعب السوداني اليوم غير مهتم او مكترث بمعركة كسر العظام التي يمارسها انصار اليمين واليسار من الذين اختطفوا ثورة ديسمبر لتصفية الحسابات التاريخية بين الطرفين، وقد دفعه تطرف الاطراف في ممارسة تلك اللعبة اللااخلاقية الى الانسحاب المعنوي والمادي من مسرح الفعل الثوري والى الحنق والغضب من الاطراف المنخرطة في اللعبة، لانه ببساطة فقد تحت ضغظ الظروف المعيشية الخانقة وعجز المكونات عن تقديم الحلول ووقوعها فريسة للتدخلات الخارحية السافرة، الاهتمام بما يجري واصبح في خانة المتفرج، وبذلك يتحقق اهم اهداف نشر مفهوم الفوضى الخلاقة وهو عزل الشعوب عن قواها الحية ثم الانفراد بهذه القوى وتدجينها ارهاباً او اغراءً وتحويلها الى كمبرادورات او (وكلاء استعمار) بمفهوم عصري لتكريس فشل الدولة. وهناك مرحلة اخيرة من مراحل تطبيق مفهوم الفوضى الخلاقة تعقب مرحلتي تأجيج الصرعات السياسية بين النخب وعزل هذه النخب عن شعوبها، وهي ان العمالة و العجز وشدة التنافس والفجور في الخصومة بين اطراف الفعل السياسي ستدفعهم دفعاً للانتقال الى مرحلة العنف العشوائي المفرط واستخدام السلاح نتيجة لانهيار مؤسسات الدولة، مما يقود الى حالة انفراط امن شاملة بسبب نشوء كيانات قبلية وسياسية وجهوية وعسكرية عديدة متناحرة ومتقاتلة ليس فيهم منتصر، وكلما ازدادت حدة القتال وضراوته بين هذه الأطراف وانتشرت رقعته كلما ازدادت الوصاية والتدخلات الخارحية لتؤكد فشل الدولة وعجزها وانهيارها...وهذه مرحلة اصبحت على مرمى حجر منا اذا لم تتداركنا عناية الله ثم حكمة المخلصين اذا كان قد تبقى هنالك مخلصين... كل المؤشرات تدل على ان خطى السودان تتسارع نحو التحول الى دولة فاشلة وفق مخطط نشر مفهوم الفوضى الخلاقة، وانه قد تحول الى ساحة تنافس بين فاعلين اقليميين ودوليين لا يرغبون فينا (الاً ولا ذمة)، وان مراكز القوى التي تهيمن على صناعة القرار في المرحلة الانتقالية، تحت تأثير جشعها وهواجسها الداخلية وضغوط المحاور الخارجية، ليست لديها مصلحة في تحقيق اهداف الثورة طالما هي قادرة على الحفاظ على اهدافها الضيقة في البقاء والهيمنة، وان السيناريو الغالب هو بقاء الاوضاع المأزومة الحالية كما هي الى اطول فترة ممكنة وان ذلك في ذاته هو البديل المتراضى عليه في الداخل والخارج، يصدقه واقع محاولات الاطراف لتمديد الفترة الانتقالية الى ما لا نهاية، والفشل والتخبط في استكمال وبناء الموسسات والاجهزة الانتقالية في مواقيتها المتفق عليها، وكذلك العجز البائن في احداث اختراق لحل الازمات الإقتصادية والسياسية والاجتماعية المتناسلة والمتفاقمة. واختم هذا المقال بمناشدة ملحة لجميع السودانيين ان يحذروا الوقوع في شراك وافخاخ تطبيق مفهوم الفوضى الخلاقة عبر الاستجابة او الخنوع لمحاولات فرض وتكريس التطبيع والتعايش مع سيناريو الدولة الفاشلة، فالسودان لا يستحق ذلك المصير المظلم، والمسؤولية هنا تقع على عاتق الجميع لأن واجب المحافظة على الوطن مقدم على الايدلوجيا وعلى مصالح الافراد والكيانات والنخب وليكن في انفصال الجنوب عبرة للكل، واذا تفتت السودان، لا سمح الله، بسبب انانيتكم المفرطة وبؤس ادائكم في تحقيق اهداف الثورة المجيدة، فلن تجدوا وطناً تتصارعون عليه... محمد علي مسار الحاج الخرطوم 1 مايو 2021 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.