شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    مقتل البلوغر العراقية الشهيرة أم فهد    محمد وداعة يكتب: المسيرات .. حرب دعائية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    إسقاط مسيرتين فوق سماء مدينة مروي    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    كهرباء السودان: اكتمال الأعمال الخاصة باستيعاب الطاقة الكهربائية من محطة الطاقة الشمسية بمصنع الشمال للأسمنت    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاح أحمد أبراهيم .. حكاوي حزن ... ومرايا وطن ... بقلم: خالد فتحي
نشر في سودانيل يوم 03 - 05 - 2010

في عينيه سكن حزن لم يستطع أحد فك طلاسمه.. والبعض يرى أن سيرته الذاتية تصلح أن تستحيل مرموزاً ل(اللاوفاء) في فضاء الشيوعية وحزبها, من لدن حسن سلامة وقاسم أمين وخضر نصر وشيبون, والأخير دفعته الوساوس التي سكنت جوانحه وحصار الرفاق إلى الانتحار وشنق نفسه بعمامته داخل حمام منزله مثلما حدث لخضر نصر الذي قضى جوعاً.
أبصر صلاح أحمد إبراهيم النور في المكان الذي أحب, في أم درمان في أواخر 1933م، وأغمض الجفن في يوم الاثنين 17 مايو 1993، في المستشفى الأميركي في باريس إثر علة طارئة عن عمر يناهز الستين عاماً, قبل أن يعود ليوارى الثرى في ذات المكان الذي أحب.. أمدرمان.
وتحيط بصلاح أحمد إبراهيم حسب صلاح البندر في مقالته عن الأديب الراحل نشرت بالشرق الأوسط اللندنية, في الذكرى العاشرة لرحيل صلاح في 24مايو2003م تحيط به أسرة ذات جذور تمتد إلى شرق السودان، وعرفت بانغماسها في الفعل السياسي منذ أربعينيات القرن العشرين. أسرة قدمت للسودان رجالاً ونساءً كانوا يحسبون دوماً، وما يزالون، كطلائع لحركة البلاد الديمقراطية والثورية.
تخرج في كلية الآداب بجامعة الخرطوم في أواخر العقد الخامس من القرن العشرين, وعمل إدارياً وبالتدريس في جامعة أكرا في غانا خلال فترة حكم الرئيس نكروما، وعمل دبلوماسياً حتى أصبح سفيراً، وكان في آخر عمره مستشاراً لدى سفارة قطر بفرنسا.
قدم صلاح خلال حياته للمكتبة السودانية والفضاء الإنساني «غابة الأبنوس»، و«غضبة الهبباي»، و «محاكمة الشاعر للسلطان الجائر»، وطبع نفر كريم بعد مماته ديوانه «نحن والردى» في عام 2000. كما نشر بالاشتراك مع رفيقه علي المك مجموعة «البرجوازية الصغيرة» القصصية، كما شاركه ترجمة كتاب «الأرض الآثمة» للمناضل الأفريقي باتريك فان رنزبيرج. وترك المئات من المقالات السجالية الأدبية والسياسية التي تزخر بها الصحف والمجلات العربية في المهاجر والمنافي الاختيارية.
(1)
كان صلاح واعياً للمرجعيات الاجتماعية والثقافية والسياسية لأعماله. وأصبح ذلك متضاعفاً وفائق الحساسية تجاهه بعد فصله من الحزب الشيوعي السوداني في عام 1958. الذي كان يتزعمه عبد الخالق محجوب (1927 – 1971.
ودارت مساجلات ساخنة بين صلاح أحمد إبراهيم وعمر مصطفى المكي كان طابعها العنف الشديد, الذي وصل حد وصف صلاح المكي (بأن انتهازيته تمكنت منه كما تمكنت منه شلوخه)
في مقابلة مترعة بالأوجاع على صفحات مجلة (الملتقى) قبل أشهر من رحيله سئل صلاح: لماذا انهارت الشيوعية؟ فاجاب: (انهارت الشيوعية عندما تحول الشعار الجميل النبيل إلى كذبة).
في تلك الأجواء سطر المحبوب عبد السلام مقالته الموسومة ب(العبرة والاعتبار في الحزب الذي كان) بصحيفة (الإنقاذ الوطني), ذكرفيها: (إن صدق صلاح أحمد ابراهيم في سودانيته هو الذي عمق إحساسه بالخطر على السودان، وجعله يبحث عما يجمع الصادقين في صف واحد، كان لا يرضى لأبناء السودان أن ينتشروا في دول الجوار باسم المعارضة في حين الخطر على السودان, وإنه يرى ببصره الحاذق د. منصور خالد في معسكر الأعداء).
لقد استغل الإسلاميون وقتها عاطفة صلاح وانفعاله بقضايا وطنه وشعبه بانتهازية وخلطوا الأوراق ببراعة على غرار ما فعلوا لاحقاً بالشريف زين العابدين الهندي عندما صيروه كأنه صوت العقل الوحيد بالمعارضة.
ومع عنفه البائن مع خصومه كان وفياً لأصدقائه ولازالت ذاكرة السودانيين تحفظ له مرثيته في صفيه علي المك الذي لف بكفنه قبل صلاح بعام تقريباً, لقد كانت مرثية شديدة التأثير أطلق عليها صلاح (علي ومدينته) ولا يعنى هنا إلا أمدرمان.
حين غاب
جرت وهي حافية، في المصاب
تهيل الرماد على رأسها باليدين
تنادي على الناس: واحسرتا ويب ويب
فقدنا الأديب،
فقدنا النجيب،
فقدنا اللبيب،
فقدنا (علي)
(2)
و المؤكد أن يسارية صلاح كانت إحدى المعالم الظاهرة في طريق التعريف به مع أن بعض أساتذته بكلية الآداب بجامعة الخرطوم بينهم المصري محمد النويهي تنبه إلى موهبته.
ويقيناً أن أشعاره العامية شكلت قيمة إضافية لزيادة شهرته هذا بجانب الأناشيد والأغنيات التي تغنى بها كبارالفنانين, مثل الطير المهاجر التي تغنى بها الموسيقار محمد وردي ونشيد (يا ثوار أفريقيا) الذي ذاع صيته وعده البعض من أجمل الأناشيد وقتها التي عرفت في ما بعد ب(الأكتوبريات) نسبة إلى ثورة أكتوبر.
وبالرغم من ذيوع أغنياته لكن الثابت أن صلاح لم يسعَ للمغنيين بشعره, فمحمد وردي طالع (الطير المهاجر) على صفحات مجلة (هنا أمدرمان) فأعجب بها وقام بتلحينها.
وحمد الريح اختار (مرية) خلال إبحاره بين دفتي مجموعة صلاح الموسومة ب(غابة الأبنوس)
وتغنت له مجموعة عقد الجلاد القصيدة الغنائية (شين ودشن) التي تقول بعض مقاطعها:
شين ودشن
حر سيافي شين
شين ودشن كلمة مافي شين
وهظاره خشن
بسموم وسوافي
تسأل شن الحبه الفيهو
الحب في ذاتو مبرر كافي
ماشين ودشن حار سيافي شين
عشان بقعة خراب
ما فيها شجر
راويها سراب واطاطا حجر
حصحاصا يولع في الرمضاء
الحب سلطان مسلط نافي
لغيره مرض لكن شافي
الشعب الحر الفعله بسر
أب لحماً مر
(3)
الدبلوماسي والكاتب الصحفي عبد المحمود نور الدائم الكرنكي يعطي تفسيراً آخر للحزن الذي استوطن في عيني صلاح بأن صلاحاً شخص ذو مواصفات خاصة, وكان يفترض أن يتبوأ مقعداً في قيادة بلده بطريقة أفضل مما وجد.
وللتأكيد على ماذهب إليه روى لي قصة لنوري الجراح وهو صحفي فلسطيني من المعجبين بصلاح, يقول الكرنكي: إن نوري شد رحاله إلى الخرطوم ليزور قبر صلاح, ولما وصل إلى منزل أسرته جعل يطرق بالباب ولا أحد يجيب, حتى خرج عليه أحد الجيران وأبلغه أن المنزل خالي وجميع أهله مغتربون بالخارج. فنفض إليه نوري خبره بأن وجهته قبر صلاح, فذهب به الرجل إلى مقابرالبكري حيث يرقد صلاح بجانب الراحلين من أسرته كعادة أهل السودان, وحرصهم على أن يتجاور الأهل عند عبور البرزخ كما تجاوروا في الحياة الدنيا.
عند وصول الفلسطيني إلى قبر صلاح هاله ما رأى.
شاهد النوري قبراً مهملاً نبتت على أطرافه أشجار الشوك و(العشر) لم يكن شيئاً يدل أن هذا القبر لصلاح القيمة والقامة, بل كان ثاوياً على الأرض باعتيادية لو لم يدله عليه جاره لما استدل عليه.
العبرة خنقت الرجل فقد أحس أن صلاحاً مات مرتين, الأولى عندما أغمض الجفن وأسلم الروح لبارئها والأخرى وهي الأقسى من الأولى عندما جهله قومه أو تجاهلوه. أما الشاعر العراقي بلند الحيدري فجاءت شهادته بأن صلاحاً مات ب(داء الغربة)
وربما كان صلاح مثل (أودسيوس) أحد أبطال الميثولوجيا الأغريق عندما عاد إلى بيته من أحضان الجنيات لم يتذكره أحد سوى كلبه.
(4)
وصلاح كان نسيجاً لوحده تماماً كما يقولون (الرجل الشجاع أغلبية), وكان يتمتع بقدر شاهق العلو ومن الالتزام بما يؤمن به, غير أن بعض مواقفه قد تقف معها مشدوداً في إيجاد تفسير وتبرير منطقي لها, فصلاح مثلا اختلف مع نميري وفارق سفارة السودان بالجزائر في 1976م, وأرسل على نميري شواظ شعره التي ضمنها في مجموعة شعرية أطلق عليها (محاكمة الشاعر للسلطان الجائر) وشبه نميري في احدى ابياته ب(السامري)..لكن صلاح لم يجرد سيفه على نميري إلا بعد مرور أربع سنوات على يوليو 1971م والتي اتكأ فيها الرئيس القائد وذبح رجال الصف الأول بأعرق حزب شيوعي في أفريقيا.
ولم يكتف نميري بسفك دماء رجال الصف الأول بالحزب الشيوعي وطليعة العسكريين من الرجال الذين نظموا حركة 21 يوليو التصحيحية, من لدن بابكر النور وهاشم العطا وفاروق حمدالله وعبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق وغيرهم, بل لم يعد (سيف الفدا المسلول) إلى غمده حتى اعمل في وجوه كل من اشتم فيه رائحة الشيوعية تقتيلاً وتشريداً وتعذيباً, في نزيف دم غير مسبوق حينها إلا عندما استل الشيوعيون ذات (سيف الفدا المسلول) وكانوا سدنته وقتها وشقوا به أنصار المهدي بالعرض والطول بود نوباوي والجزيرة أبا.
ومبعث الغرابة أن من بين الرؤوس التي قطفها (سيف الفدا المسلول) كان رأس السكرتير العام لاتحاد عمال السودان الشفيع أحمد الشيخ الحائز على وسام لينين , ثم من بعد فالشفيع (صهر) صلاح وزوج أخته فاطمة, وبالرغم أن الشفيع تفرد عن الجميع بالتعذيب المهول الذي تعرض له قبل إعدامه حيث أوسع ضرباً وركلاً من قبل (36) جندياً كانوا يتبادلونه فيما بينهم كالكرة بتحريض مباشرمن ابوالقاسم محمد ابراهيم.
ووفقاً لمصادر موثوقة فإن الشفيع علق على أعواد المشنقة وهو ميت أو شبه ميت حيث لفظ أنفاسه الأخيرة حتى قبل أن يكتمل التفاف الحبل على رقبته.
ومنذ أربعة أعوام تقريباً ضجت نهارات الخرطوم بحادثة شهيرة عندما حاولت فاطمة أرملة الشفيع ضرب أبو القاسم تحت قبة البرلمان, بعد أن هيجتها ذكرى زوجها الراحل عندما رأت غريمها وجهاً لوجه
وللمصاهرة شأن يعلو على كل شأن فما الذي حمل صلاحاً على انتظار السنوات الأربع ليمتطي حصانه ويمتشق سيفه بارزاً ليقاتل نميري.
وفاطمة أخته بالأخص كان صلاح يكن لها من الوداد صفوه واشتهر عنه قوله (أنا أخو فاطنة), ولعل سر إعجابه بشقيقته لم يكن مبعث شجاعته فحسب بل تكوينه الأسري وفضائه الفكري وفلسفته الآيدولوجية. فصلاح سليل أسرة أمدرمانية عريقة والده كان مدرساً للغة العربية بكلية غردون وأمه عائشة بنت الناظر كانت تجيد القراءة والكتابة, وهو أمر شديد الندرة في زمانها وجده كان ناظراً لمدرسة أولية بالعهد التركي. أما خالته زينب الناظر فكانت أول أستاذة لغة إنجليزية بمدرسة الاتحاد (اليونتي), التي تأسست في 1902م والكائنة حتى يومنا هذا بشارع القصر.
فالمستوى التعليمي العالي والعريق للأسرة شكل رافداً إيجابياً في رفع وعي صلاح في ما يعرف حالياً ب(الجندر), بالإضافة إلى رافد اليسارية التي اختارها صلاح فكراً ونهجاً لنفسه, وهؤلاء كما يقول الكرنكي الأمر أفضل عندهم من غيرهم على الأقل شفاهة أو أشعاراً.
وفاطمة نفسها كانت تستحق الإعجاب فزيادة على شجاعتها وصمودها فقد حازت لقب أول برلمانية في تاريخ السودان الحديث, حيث شغلت مقعداً برلمانياً في الانتخابات التي جرت في أعقاب ثورة أكتوبر الشعبية في 1964م.
ويبرر الدكتور عبد الله علي إبراهيم موقف صلاح بأن لم يكن على وفاق مع الشيوعييون مذ خرج منهم وفارق خطهم وامتلأ قلبه بمرارة شديدة تجاههم, وربما كان يعتقد أنه ليس مقيداً بالمسيرة الشيوعية وما يحدث لها.وقد راح يرمي اللوم على عبد الخالق محجوب ويحمله وزر الانقلاب الذي راح ضحيته أشخاص مهمين بالنسبة له أمثال صهره الشفيع وصديقه جوزيف قرنق.
ومن هذا الجانب ربما يكون قد استنكر ما فعله نميري لكن ليس بالدرجة التي تجعله يمضي بالشوط إلى نهايته.
(5)
أما رثاؤه للشفيع فحدسي يشير والحديث لا زال لعبد الله علي إبراهيم – إلى أنه كتبه في وقته وليس بعد اختلافه مع جعفر نميري, فصلاح ليس من الأشخاص الذين يؤجلون انفعالاتهم. والتي جاء فيها:
قَدَل أبو رِسْوَة للَمُوتْ الْكلَحْ بِتْضَرَّعْ
خَاتِى العَيْبَه، مَاخَاتي العُيُونْ في مَطْمَعْ
أبْ أحْمَد تَقِيِلْ وَقَتْ التَقِيِلْ بِتْسَرَّعْ
أبْ أحْمَدْ وَرَاكْ الحَقْ بَشُوفو مَشَلَّعْ
سموك الشفيع، بيك الحقوق تتشفع
ناصر الكادحين، كنت بتشيلنا وترفع
حقوقنا حاشاك لا بتبيع لا بتدفع
أتيتمنا بعدك ولعبوا بينا الشفع
فَارِسْ السَّاحه جَيَّابْ الحِقُوقْ للْنَاس
سَنَّادَ الضَّعِيْف وقْتَ الضَّعِيْف بِنْدَاس
يَاجَبَلَ الدَّهَبْ إنْتَ الوَضَعْتَ السَّاس
وما اتْزَعْزَعْتَ يُوم دَرَعوا الحَبِل فى الرَّاس
مَرَقْ بِى ثَبَاتْ قَاصَد اتْحَاد عُمْالو
أعْزَل دُونْ حَرَسْ غَيْر هَيْبَتو وأفْعَالو
عَارِفْ نَفْسو مَا مُجْرِم ومُرْتَاح بَالو
وَجَدْ المُجْرمِين السَّفَله فى اسْتَقْبَالو
كَضبَ القَالْ في يُومْ رَفَعْلو سِلاحْ
سِلاحوا المَبْدأ والإيْمَانْ ودْربو كِفَاح
وَاضِح زىْ جَبِيْنو الضَّاوي فى البَيَّاح
وكَضابْ الْبِقُول كتَلوُ وخَلاصْ ارْتَاح
جابو معاوية يشهد شوف معاوية وغدرو
طلع خنجرو وطعن الشفيع في ضهرو
جازاهو الإله سحب الوزارة ووزرو
قاعد للأبد والمولى رافض عذرو
قال ليهم سلام ماردو ليهو سلامو
قال ليهم كلام سدو الأضان لي كلامو
واحد قال سجن فك النميرى حزامو
قال سجن إيه كمان لابدَّ من إعدامو
راح للشجرة تحت الضل لقى الحكام
سانين السلاح في وشوشهم الإجرام
عربدو بالشفيع ناسين حساب قدام
أدوهو العطش واستعجلو الإعدام
لكن فاطمة هذه وفقاً لأوثق الروايات وقفت حائلاً أمام اقتران صلاح بكريمة إحدى الأسر الأمدرمانية العريقة, حيث رفضت الأمرعندما عرضه صلاح عليها وجرت الأيام سريعاً ورحل صلاح دون أن يتزوج.
أما (مريا) ملهمة مقطوعته الباذخة التي سميت باسمها وشدا بها الفنان حمد الريح, فلا تعدو أن تكون سوى عشق شباب لا تصل إلى حد الاقتران أو المصاهرة بأي حال من الأحوال, رغم أنه بشعره قد حولها إلى أسطورة في أقاصيص العشاق.
وفي إحدى مقاطعها التي تنضح عشقاً يقول:
يا مرية
ما لعشرينين باتت في سعير تتقلب
ترتدي ثوب عزوف وهي في الخفية ترغب
وبصدرينا ((بروميثيوس)) في الصخرة مشدوداً يعذب
فبجسم ألف نار وبجسم ألف عقرب
أنتِ يا هيلينُ
يا من عبرت تلقاءها بحر عروقي ألفُ مركبْ
يا عيوناً كالينابيعِ صفاءْ.. ونداوة
وشفاهاً كالعناقيدِ امتلاءْ.. وحلاوة
وخُدوداً مثل أحلامي ضِياءْ.. وجمالا
وقواماً يتثنّى كبرياءْ.. واخْتيِالا
ودَماً ضجَّتْ به كلُّ الشرايينِ اشتهاءْ.. يا صبيّة
تَصْطلي منهُ صباحاً ومساءْ.. غجريَّة
(6)
وحادثة أخرى دارت فصولها بعد (21) عاماً من الحادثة الأولى وتتمثل في رسالته إلى الفريق عمرالبشير (يومها) في 1992م. وهي رسالة سارت بذكرها الركبان واحتفى بها الإعلام الرسمي حينها أيما احتفاء, وقرظ صلاح في مكتوبه الى البشير انتصارات الجيش والدفاع الشعبي على حركة تحرير شعوب السودان بقيادة جون قرنق.
ولم يقف صلاح عند حد القول مع تسليمنا أن قوله عظيم بل ودفع بتبرعه بخمسة آلاف فرنك دعماً لجحافل الجهاد في جنوب السودان, التي أطلق عليها كوديا (صيف العبور).
وشهدت تلك الأيام أوبته إلى الخرطوم ليهدي ليلها الذي اصطبغ بالملل أشعاراً في مدح الجهاديين, لقد اهتز صلاح لموت وداعة الله إبراهيم وهو ضابط صغير بالقوات المسلحة وقضى نحبه في حرب الجنوب, وتحول (استشهاده) إلى ذكرى ودافع لرفاقه من الحركة الإسلامية, الذين كانوا يكنون من يموت بأحراش الجنوب في قتال الجيش الشعبي ب(الشهيد), وقتها استعرت أتون الحرب الأهلية وأسبغ إسلاميو الخرطوم الذين انتزعوا الحكم من حكومة الصادق المهدي فجر الجمعة 30 يونيو 1989م على الحرب المطلبية صفة الدينية, فتأججت بفعل صب الزيت على النار فرمت بشرر كالقصر تطاير حتى عبر خارج الحدود ووصل الفاتيكان. وجعلت قرنق يومها يستبدل سريعاً بزة جيفارا التي ولى زمانها بمسوح الرهبان الذي حان يومه.
(7)
وسألت الكرنكي عن الذي استهوى صلاح في حركة الشباب المجاهدين, وإن شئت فقل الاستشهاديين؟ يجيب بسرعة بأن صلاحاً لم يكن يتحدث عن شباب مجاهدين إنما شباب وطني دخل في حرب ضد من حاولوا استلاب هويته واستهداف وجوده.
ويمضي لبسط نظريته في تفسير رؤية صلاح بأن هذا الأمر لا زال بائناً, فالمصطلح الذي يتكرر على مسامعنا الآن ويردده البعض دون وعي بأن السودان بلد متعدد الأعراق, ينطوي على اضطهاد للأغلبية وسحب للبساط من الثقافة العربية والإسلامية.
وسلفاكير مثلاً يتحدث العربية عندما يخاطب أنصاره في جنوب كردفان أو النيل الأزرق أو الخرطوم, وقرنق نفسه كان يتحدث العربية بالجنوب والإقليم الجنوبي بأسره لا يوحده شيء كما توحده اللغة العربية.
وفي مسيرة صلاح محطات لا يمكنك تجاوزها مثل كراهيته الشديدة لمنصور خالد التي تبلغ حد المقت, وكثيراً ما كان يقول: إذا رأيت منصوراً في جانب فاختر الجانب الآخر لأنه - أي منصور- لا يناصر إلاّ الباطل, فهل رأى صلاح الباطل في الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد أن ظهر منصور فيها وعين مستشاراً لقائدها الدكتور جون قرنق؟.
الكرنكي يرى أن الدكتور منصور خالد الذي بدأ حياته سكرتيراً لرئيس الوزاراء الأسبق عبد الله بك خليل, كان في المعسكر المناوئ لمعسكر صلاح الاشتراكي فحزب الأمة كان يمثل ذيول البريطانيين والاستعمار.
ومنصور ذهب لتلقي علومه في بنلسفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية وارتبط بها وبثقافتها وحضارتها بطريقة لا تخطئها العين, ومنصور يشكل في نظر صلاح أحد الخيوط الأمريكية في السودان.
لكن اختلافه مع الحركة قد لا يتحمل منصور وزره وحده فالحركة تسليحاً وتمويلاً ودعماً سياسياً ودبلوماسياً ولوجستياً مشروع تقف خلفه الولايات المتحدة, ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول كتب مقالاً نشر بصحيفة لوس أنجلوس تايمز بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل ب(نيفاشا), يشير إلى أن الإدارة الأمريكية غذت شرايين الحركة الشعبية بمليار دولار, فالحركة كما يرى صلاح مشروع استثماري أمريكي جرى تجييره لصالح هدم النموذج العربي والإسلامي في السودان.
ويتفق معه الدكتورعبد الله بأن صلاحاً كان ينظر بريبة إلى الحركة الشعبية وبالأخص الطاقم الشمالي الذي اتبعها, أمثال منصور خالد, وكان يرى أنها حركة عنصرية, وأعتقد أن صلاحاً حالفه الكثير من الصواب في ما ذهب إليه فالحركة في بعض جوانبها ترتكز على تبخيس الثقافة العربية والإسلامية, وصلاح كان مدركاً لمشروعها الثقافي الذي عداؤه لا مراء فيه للعروبة والإسلام وبتلك النعرات تجمع الناس حولها.
(8)
ويشير صلاح البندر في مقالة الشرق الأوسط إلى أن صلاحاً (كان حريصاً على أن يكون مقدار الاهتمام بمساهماته موازياً لأجل فك طلاسم نصوصه واستكناه عتباتها المعرفية والاستمتاع بأبعادها الجمالية. ولم يتردد في أن تكون كتاباته مصدراً للخلاف كما هي مصدراً للاتفاق حول قضايا تشغل بال أهل السودان, وترتبط بعشقهم للديمقراطية والعدالة الاجتماعية. بل صارت منبراً يجتر فيه فواجعه السياسية.
كما كانت أعماله تتعامل مع رمزية المكان ليس كمجرد بعد جغرافي، ولكن كحالة في التاريخ وأرضية للتفاعل.
لذلك أصبحت مدينة أم درمان، عاصمة السودان الوطنية، وتجربته الشخصية فيها، رمزاً دلالياً عميقاً في صياغاته الشعرية ومساهماته السياسية. وفي محيط أعماله يبرز دور الفكر اليساري في تشكيل وعيه بالحياة ومواقفه منها ورؤيته للتغيير, وموقفه المتكامل اجتماعياً وسياسياً وثقافياً من القضايا التي شغلت جيله من مثقفي مرحلة ما بعد الاستقلال في دول العالم الثالث).
(9)
فالشيوعية بالرغم أن كارهيها كانوا يرون فيها أنها حجبت جوهر الحرية واعطت شكل المساواة لكن لا أحد ينكر أنها شكلت مهوى أفئدة الكادحين والمعذبين في الأرض والتائقين إلى الخلاص.
والتزامه الفكري جعله ملتزماً كما أشار البندر بقضايا شعبه, فقد انفعل بضحايا عنبر جودة وكتب قصيدته الشهيرة (عشرون دستة من البشر) التي وقعت أحداثها في فبراير 1956م
عشرون دستة
لو أنّهم ...
حزمةُ جرجير يُعدُّ كيْ يُباعْ
لخدم الإفرنج في المدينة الكبيرة
ما سلختْ بشرتهم أشعةُ الظَّهيرة
وبان فيها الاصفرارُ والذبول
بل وُضعِوا بحذرٍ في الظلِّ في حصيرة
وبلَّلتْ شفاههُمْ رشَّاشَةُ صغيرة
وقبّلتْ خدودهم رُطوبةُ الإنْداءْ
والبهجةُ النَّضيرة.
وجودة مشروع زراعي يقع على ضفاف النيل الأبيض بالقرب من مدينة كوستي، كان يعمل به مئات المزارعين قرروا إعلان الإضراب عن العمل, ورفضوا تسليم محصول القطن لصاحب المشروع، احتجاجاً على نمط العلاقة السائد بينهم وبين صاحب المشروع.. ولكن السلطات حينها رأت في حركة المزارعين خطراً على المصالح المشتركة ما بين اصحاب المشاريع الزراعية.. وتعامل البوليس بقسوة مع المزارعين مما أدى لمصرع عدد كبير منهم اختناقاً نتيجة تكدسهم في حراسات ضيقة سيئة التهوية. مع العلم أن العنبر كان مخصصاً أصلاً لتخزين (الجمكسين).
(10)
ويعتبر صلاح أحد مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء الأدبية ومن أساطينها محمد عبد الحي ومحمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر, والتي افترعت لاحقاً (أباد ماك) والتي جاءت تمثل إيغالاً في الأفريقانية فبينما, (الغابة والصحراء) تمثل نموذجاً لتكامل العروبة والأفريقانية في الشخصية السودانية, جاءت (أباد ماك) وهو إله الشمس والصحراء عند المرويين صرخة تضج شرايينها بأننا لسنا عرباً, وقد شهدت مساجلات ساخنة بين مناصري الدعوة للعروبة وخصومها لعل أشهرها ما جرى بين صلاح أحمد إبراهيم والنور عثمان أبكر.
والكرنكي يؤكد أن صلاحاً يذوب حباً في السودان وشعبه وأفرغ كل حياته لوطنه وآلامه وأحلامه وفيها تعبير حقيقي عن التيار العروبي الإسلامي.
في حين يؤكد الدكتور عبد الله أن صلاحاً كان مكروهاً و(مكفراً) من رواد مدرسة الغابة والصحراء خاصة بعد مقاله الذي رد فيه على النور عثمان أبكر.
وربما كان كالبروفسير عبد الله الطيب الذي رأى في تطابق الأسماء في بعض القرى بالجزيرة بالسودان وأخرى ضاربة في القدم بشرق الجزيرة العربية, فيجيب أن السودان وطن من أوطان العروبة بالأصالة وليس بالهجرة, فصلاح أصيل التعبير عن هذا التيار وإن استبطن دافع اليسارية التي كست فكره في بواكير صباه.
في رائعته (نحن والردى) يتضوع عطراً فتجده يقول كأنما يقصد نفسه ويلخص تجربته :
رب شمس غربت والبدر عنها يخبر
وزهور قد تلاشت وهي في العطر تعيش
نحن أكفاء لما حل بنا بل أكبر
وتاجنا الابقى وتندك العروش
ولمن ولى جميل يؤثر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.