دور بريطانيا في قيام وتطور المجتمع المدني في السودان بقلم: د. صفوت صبحي فانوس ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذا المقال هو ترجمة لبعض ما جاء في مقال باللغة الإنجليزية عن دور بريطانيا في قيام وتطور المجتمع المدني في السودان، وبالمقال الأصلي جزء أول يتحدث عن دور بريطانيا في قيام وتطور الأحزاب السياسية في السودان، سنقوم بترجمة أجزاء مختارة منه في مقال تالي إن شاء الله. تم نشر المقال الأصلي في كتاب صدر باللغة الإنجليزية من دار النشر بجامعة الخرطوم والمجلس البريطاني عام 2002م عن "العلاقات السودانية البريطانية"، حرره البروفسيران يوسف فضل وعوض السيد الكرسني. ____________________________________________________________ نعرف المجتمع المدني في هذا المقال بأنه مجموعة المنظمات أو الهيئات أو الجمعيات الموجودة خارج نطاق الدولة (ويشمل ذلك الأحزاب السياسية) والسوق. يشمل المجتمع المدني نقابات العمال والجمعيات المهنية، وروابط واتحادات رجال الأعمال والجمعيات العرقية والدينية، والجمعيات الثقافية والدراسية والأدبية والأندية الرياضية واتحادات المرأة والطلاب. ينتظم الناس بمختلف طوائفهم وأجناسهم وأعراقهم طواعية ليكونوا مثل هذه المنظمات للعمل معا لتحقيق أهداف مشتركة. إن الشرط الهام لقيام مجتمع مدني هو ظهور تفاضل بين طبقات المجتمع يأتي نتيجة للتطور الاقتصادي الرأسمالي، ووجود نظام ديمقراطي ليبرالي يوفر الإطار الدستوري العام لتطور منظمات المجتمع المدني. ولقد قامت بريطانيا بالفعل بإدخال تطور اقتصادي رأسمالي في السودان، وكان ذلك مع بداية التحول للحكم الذاتي بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت أولى منظمات المجتمع المدني التي ظهرت في السودان هي جمعيات محو الأمية والتي بدأت في التكوين في أخريات عشرينات وبداية ثلاثينات القرن الماضي في كثير من مدن السودان الكبيرة. كانت أشهر الجمعيات الأدبية التي قامت في تلك الفترة هما جمعيتي "أبروف" و"الفجر" في أمدرمان. وكانت عضوية تلك الجمعيات في الغالب هي من المتعلمين الذين كانوا يرغبون في النأي بأنفسهم عن القادة الدينين التقليديين، ولم يكن بمقدورهم في ذات الوقت ممارسة نشاطات سياسية بسبب الحظر الذي كانت تفرضه الحكومة السودانية على النشاط السياسي عقب فشل ثورة 1924م. مثلت الجمعيات الأدبية النواة التي انبثق منها "مؤتمر الخريجين" والتنظيمات السياسية التي بدأت في التكوين عقب تخفيف الحظر على ممارسة العمل السياسي في عام 1936م حين وقعت الاتفاقية بين مصر وبريطانيا. كان لتلك الاتفاقية عظيم الأثر في إحداث تغيير كبير في السياسة البريطانية في السودان، إذ فتحت تلك الاتفاقية السودان لسيل كبير من الموظفين والجنود المصريين. خشي البريطانيون من أن تؤدي زيادة الوجود المصري في السودان إلي تحالف بين السودانيين والحركات القومية /الوطنية المصرية يضر بمصالحهم في السودان، ولذا فقد مضت حكومة السودان في إتباع سياسة أكثر انفتاحا وتشجيعا لمنظمات المجتمع المدني. شهدت بدايات أربعينات القرن العشرين نموا سريعا في مجال المنظمات المدنية إذ تكونت نقابات للعمال والمزارعين والطلاب وكذلك تكون إتحاد للمرأة. ولم يكن مستغربا إن كانت عطبرة (وهي مقر رئاسة هيئة السكة حديد) معقلا للحركة العمالية، ومصدر لنفوذها. كذلك تكون إتحاد للمزارعين في مشروع الجزيرة، واتحادات طلابية في كلية غوردون التذكارية والمدارس الثانوية. كان من الواضح أن تكوين وتطور منظمات المجتمع المدني كان بالقطع مسايرا للقطاع الرأسمالي الحديث من الاقتصاد، وتم كل ذلك بإطار قانوني وتفويض من حكومة السودان. ومن الأمثلة الدالة على ذلك هو موافقة مدير المعارف في عام 1941م على قيام اتحاد لطلاب كلية غوردون التذكارية، والذي غدا فيما بعد اتحادا لطلاب جامعة الخرطوم. وفي عام 1947م تكونت لجنة لممثلي المزارعين كان بها 40 مزارعا منتخبا. ومن قبل ذلك كانت حكومة السودان قد قررت في عام 1946م أن تنشئ لجانا للعمال تتكون من ممثلين منتخبين لتجتمع مع مبعوثين من الإداريين بغرض مناقشة مشاكل العمال وشكاويهم ومطالبهم بغرض إيجاد الحلول المناسبة لها وذلك قبل أن تتفاقم. بيد أن تلك اللجان لم تكن مقبولة لدى جماهير العمال، وقرر عمال السكة حديد في عطبرة تكوين "رابطة شئون العمال" في يوليو من عام 1946م. رفضت هيئة السكة حديد (مسنودة من حكومة السودان) الاعتراف بتلك الرابطة العمالية، الأمر الذي دعا عمال السكة حديد للدخول في إضراب عن العمل لإجبار السلطات للاعتراف برابطتهم. نجح ذلك الإضراب (والذي امتد لعشرة أيام) في إيقاف حركة القطارات بالكامل، واضطرت إدارة هيئة السكة حديد من بعد ذلك للإذعان لرغبة العمال في الاعتراف القانوني برابطتهم. انتزعت الحركة العمالية السودانية حقوقها عبر نضال العمال منذ بدايات القرن العشرين. وما أن حل منتصف عام 1947م حتى شرعت حكومة السودان في إصدار القوانين المنظمة للعمل النقابي. كان من العوامل التي أدت للإسراع بهذا التطور اللافت هو وصول حزب العمال لسدة الحكم في بريطانيا. كانت معظم القوانين المنظمة للعمل النقابي التي شرعتها حكومة السودان مستمدة من قوانين العمل البريطانية. من هنا بدأ العمل النقابي في السودان تحت مظلة من الشرعية القانونية، وتسارعت وتيرة تكوين النقابات، فزادت من خمس نقابات في 1949م إلى 123 في عام 1954م، وبنهاية عام 1956م كانت هنالك 135 نقابة يبلغ عدد أعضائها ما مجموعه 87355 عضوا. تجمع في عام 1947م عدد من النقابات لتكون ما عرف ب "إتحاد العمال"، والذي تغير اسمه في عام 1950م إلى "إتحاد نقابات عمال السودان". بدأ ذلك الإتحاد مع مطلع عام 1952م في بناء علاقات وثيقة مع حركة المزارعين، خاصة إتحاد المزارعين بمشروع الجزيرة، الأمر الذي أثمر تحالفا قويا بين الحركة العمالية والمزارعين، وكان للحزب الشيوعي السوداني دورا هاما في قيام ذلك التحالف، وكان له تأثير كبير أيضا في كثير من اتحادات الطلاب والمتعلمات من النساء. ارتبط قيام حركات للطلاب والنساء في السودان بقيام وتوسع التعليم العلماني الذي أسسته الإدارة الاستعمارية. كان الحكم الثنائي خلال الأربعة عقود الأولي من فترة حكمه يوفر قدرا ضئيلا من التعليم الأساسي لمقابلة احتياجات الحكومة لعدد محدود من صغار الموظفين السودانيين. بيد أنه حدث تغير في بداية الأربعينات في السياسة التعليمية للحكومة، قامت على أثره بفتح عدد من المدارس الثانوية ومعاهد التعليم فوق الثانوي. وفي عام 1940م تحصل طلاب كلية غوردون التذكارية على موافقة مدير المعارف على إنشاء إتحاد للطلاب شريطة أن يقتصر نشاط ذلك الإتحاد على الرياضة والثقافة فقط. لكن بعيد تكوين إتحاد الطلاب، بدأ إتحاد طلاب كلية غوردون التذكارية في ممارسة نشاط سياسي كبير، بل وشجع طلاب المدارس الأخرى على تكوين اتحادات خاصة بهم. ردت الحكومة على ذلك النشاط بحل إتحاد طلاب كلية غوردون التذكارية في عام 1947م. لم يد ذلك الحل طويلا إذ سرعان ما أسفرت مواجهة بين الطلاب والشرطة عن إعادة ذلك الإتحاد. تم في 1949م تكوين إتحاد لكافة طلاب السودان مكون من عدد من اتحادات الطلاب في المدارس السودانية و اتحاد طلاب كلية غوردون التذكارية. لم تكن الإدارة البريطانية حريصة على البدء في تعليم البنات في السودان لعدم وجود حوجة اقتصادية لذلك التعليم. ولم تفتح مدرسة حكومية للبنات إلا في عام 1949م وذلك في مدينة أمدرمان. نتيجة لذلك بدأت حركة المرأة السودانية في التكوين (وذلك في بداية الخمسينات) عندما انضم عدد من خريجات مدرسة أمدرمان للبنات إلي بعض الخريجات القدامى اللواتي تخرجن من المدارس الثانوية الخاصة وكون الإتحاد النسائي السوداني. الخلاصة: من الواضح أن منظمات المجتمع المدني في السودان لم تكن لتقم لولا عملية التطور الاقتصادي الرأسمالي الذي أدخلته بريطانيا في السودان. لم تمارس الإدارة البريطانية سياسية بالغة التعسف تجاه منظمات المجتمع المدني، وفي بعض الأحايين كانت سياسة الحكومة معها تتسم بالتعاون، مقارنة مع معاملتها للقادة الدينيين والقبليين. تم التحول نحو الاستقلال بسلام ودون إراقة دماء. وعندما نال السودان استقلاله في 1956م كانت البلاد تتمتع بمؤسسات متعددة لمنظمات مجتمع مدني تتميز بالديناميكية ولديها ميول سياسية واضحة. تخلص هذه الورقة إلى أن التنوع الثري في المجتمع المدني السوداني، وتباين قومياته وأعراقه ودياناته وأقاليمه وثرواته وفقدان التوازن في تطوره الاقتصادي قد أفضى إلى آثار مدمرة على الاستقرار السياسي في البلاد. لم تنجح المنظمات المدنية (بما فيها الأحزاب السياسية) في تكوين ايدولوجية وسياسة مهيمنة تؤهلها لتولي مقاليد حكم البلاد. إضافة لذلك، فقد كانت الدولة السودانية التي أعقبت نيل الاستقلال ضعيفة مقارنة بالمجتمع المدني، ولذا كانت تفتقد الاستقلالية النسبية(من القوي المهيمنة في المجتمع المدني) الأمر الذي يعد ضروريا للغاية لأي دولة رأسمالية من أجل الحد من الانقسامات الحادثة بين مختلف القوى الاجتماعية المتصارعة. نقلا عن "الأحداث" badreldin ali [[email protected]]