عشرون عاما أو تزيد مضت منذ أن بدأت علاقتي المتينة بالأستاذ الدكتور (مصطفى سعيد) بطل رواية (موسم الهجرة للشمال) رواية أديبنا الخالد العملاق (الطيب صالح) وكان مبتدرها علاقة مراهق بالمهجر إلتقى بأستاذ يعلمه فن إصطياد النساء وتاليها كان علاقة شاب يدرس على يدي أستاذه أصول فلسفة النفس المهاجرة المتنازعة بين أشواق نزوحها ورحيلها وأوبتها وإستقرارها تنازعا لا يعرف الهدوء وحال ما وصلت العلاقة إلى منتهاها إستقرت إلى علاقة ناضج يستقي من أستاذه الأثير علوم الإجتماع والحب القائمين على إستلهام الماضي وتأمل المستقبل للبحث في المزيد عن السعادة والحب وتطوير أدواتهما بدأ من أنانية الفرد ووصولا إلى سعادة المجتمع التي تكمن فيها سعادة الفرد. كلما سلك المتلقي في رواية موسم الهجرة يجد جملة أو مقطعا لا أدري هل تعمد فيهما أديبنا الطيب صالح أن يدخل المتلقي إلى مدارات الفكر والتأمل أم أنه كان يصف لحظة عابرة تمر بأبطال روايته؟ وعلى كل فقد إستطاع روائينا وبشكل مباشر ومذهل أن ينصف عقلية الحب والحوار في دوائر الترقب وشوارع الرحيل. فبطله يستنين مرة كعقل جبار يهضم العلوم الإنسانية ويكتب عن إقتصاد يقوم على الحب وتارة يبدو لنا كثائر يناهض المستعمر في عقر داره وطورا يبدو كقلب ينبض بالحب لدرجة الجنون والإنحلال. هي مقامات في الرواية تعطي المتلقي ضوءا أخضر ليشكلها كيف ما يشاء وهو إستئذان يستصحبه المتلقي لإفتراض المدار الذي تستقيم به حوارات الحب في الرواية. إن كان عبقري الرواية العربية قد أدار حواراته في رواياته بشيئ من التفصيل وبكثير من الذكاء والدهاء إلا أنه ما كان يسرف في الحديث عن نفسه في الحوارات الإعلامية بالقدر الذي كان يسرف فيه عندما يتحدث-مثلا- عن أثيريه أبي الطيب المتنبي وأبي نواس أو عن أحبائه وأصدقائه من أهل اللغة والأدب ما يكشف عن نفس نائية عن الأنانية والنرجسية وحب الذات وهذه الشفافية وذلك الصدق ما جعلا هذا الكاتب أن ينقل إلينا حواراته الروائية بشأن الحب كما أحسها وتخيلها بفشلها ونجاحها وأيقونة الحوار الفاشل في الحب هو ماكان بين مصطفى سعيد ووالدته وهذا الفشل قاد الروائي إلى فشل آخر هو حوار الحب بين بطله مصطفى وجين مورس حيث إنتهى الحوار إلى أمر بشع ماتت به جين مورس قتلا بخنجر الحب الذي غرزه مصطفى سعيد في صدرها بين النهدين وهي راضية تكاد أن تأخذها نشوة الفعل، وعندما عاد من مهاجره لم يقو مصطفى سعيد على حوار الحب الهادئ -الذي يديره في الأصل الكاتب- مع زوجته (حسنة بت محمود) أو أن يحافظ عليه حينما تخلق واستمر في بيئة قروية محافظة تقبع على منحى النيل فاختفى أو غرق أو رحل أو إنتحر فأفسح المجال لغريمه الراوي ليدير حوار حب معقد أخذه بعنف مع شحنة العطر المسائي الخفيف الذي إنساب من ذيول حسنة وضرب أنفه وقلبه وهو في زيارة هذه الأرملة فاكتشف شيئا رهيبا كان أمامه العمر كله لم ينتبه إليه إلا بعد أن فقده. في رواياته الأخرى نجح الطيب صالح هذا الروائي العبقري في خلق حوار الحب بأشكال مختلفة بل أحال ما كان يرى منه مستحيلا إلى واقع كما حدث في روايته عرس الزين وحوار الحب الذي دار فيها بين الزين ونعمة بت حاج إبراهيم وكما حدث في رواية (مريود) عندما هددت أم الطاهر بالإنتحار إن لم يتزوجها بلال ود الرواسي فتزوجها لليلة واحدة نزولا عند رغبة الشيخ نصر الله ود جيب فأنجبت الطاهر ولم تتزوج بعد ذلك وربته على الحب حتآ قال إنه سيقف يوم القيامة بين يدي ربه خاليا من كل شيئ إلا المحبة. ولعلي وأنا أقف بين يدي هذه القامة الأدبية الشامخة تتراءى لي رسالة من الكاتب للعالم بشكل عام ولوطنه بشكل خاص أن يطوع صراع الحضارات لصالح حوار الحب ففي ذلك إطلاق لمجتمع جديد يحمل القدرة للإستمتاع بهبة الحياة التي تكمن في طاقة الحب التي تمهد الأرض لثمرات حالية المذاق شهية الطعم، وسيدرك الإنسان الذي نتج عن حوار الحب قيمته الحقيقية التي تنمو بها الأمم و تنهض بها المجتمعات. فالحب يصنع المعجزات وهو أمر يؤمن به أشد الناس قسوة وما آخر فصل في قصة (أورليك ماينهوف) زعيمة التشكيل الإرهابي (بادر ماينهوف) بعيدة عن أذهاننا فعندما كانوا يقتادونها نحو ساحة الإعدام تذكرت من أحبته بعمق ومن طرف واحد فأبدت رغبتها الأخيرة قبل إعدامها في أن تقبل من أحبته فحققوا لها رغبتها فقالت وهي تهم بتقبيله لطالما إشتهت روحي هذه القبلة فوضعت شفتيها على شفتيه وجذبت لسانه ووضعته بين أسنانها وعضته حتى قطعته ووضعته في يدها وصرخت وهي تلوح به أمام وجهه وهو يصيح بالألم ودماءه تملأ المكان وتقول له في حدة وحسرة: أيها الوغد لو كان هذا اللسان نطق بكلمات الحب التي كنت أنتظرها منه دوما لما سرت في هذا الطريق الوعر ولما قادتني خطاي قسرا نحو ساحة الإعدام. ولنترك الآن (أوريك ماينهوف) مع مأساتها الناجمة من إنعدام حوار الحب لنعود إلى محاور إستنباط حوار الحب الذي يربي من حوله مقامات الترقي والإزدهار فالطفل الذي ينشأ في بيئة معافاة وبيت يملأ أركانه دفء العاطفة والمحبة يكون قادرا على منح هذه المحبة وتلك العاطفة للآخرين من حوله وتنفك روحه من غلالات العنف والشر غير أننا في مجتمعاتنا العربية وخضوعا لأنماط التربية الذكورية-التي يستهدف سلبياتها كاتبنا الطيب صالح- نخشى كلمة الحب قولا ونخاف الحب فعلا لما استقر في أذهاننا من أن الحب ضعف ورقة ما لا يستقيم للرجل وإن إستقامت للنساء ففي مدارج الأمومة والتربية ليس إلا بل على المرأة أن تربي أبناءها الذكور على الشدة والحزم لا على الرقة والعطف ونعيد إلى هنا للأذهان أن أشهر أبطال قصص الحب العربية هو مجنون ليلى الذي ينتمي إلى قبيلة أشتهرت بين قبائل العرب بالضعف واللين. نرد على القائلين بأن روايات الطيب صالح و ماصاحبها من زخم تسببت في عدم وصول غيرها من الروايات السودانية للقارئ العربي أو العالمي أو بلوغها درجة مناسبة من الحضور الإعلامي بالقول إن ذلك لعمري قدر الرجل ونصيبه الذي أصابته به حسنات حوارات الحب التي أدارها في كفاءة وإقتدار وما أحوجنا اليوم إلى حوار الحب يا سادتي.