في تلك الأيام التي سبقت إجراء الانتخابات العامة في السودان كنا نسعد كثيراً بإطلالة الوجوه السمراء والعمامات البيضاء وهي تغطي شاشات الفضائيات. لاتدير (الريموت كونترول) يمينا أو شمالاً وحتى تجد أحد الوجوه البهية تطل عليك وأحيانا تكون أول مرة تراه على الشاشة ويبدو ذلك جلياً من طريقة حديثه. أتاحت لنا تلك الأيام فرصة للحوار والنقاش نستجلي الأحداث وإلى أين تقودنا هذه المرحلة.. وكانت سانحة تأتينا بعد سنوات عجاف من البيات السياسي ونحن الذين عاصرنا عدة انتخابات عامة سابقة. في تلك الأيام جاء لزيارتي بعض من زملائنا الصحفيين المخضرمين الأخ منير حسن منير وبصحبته ابنه حسن والأخ كمال الدين مصطفى ( 30 عاما في دهاليز الغربة الصحفية ) في زيارة عائلية وإعلامية حيث يحلو الحديث وتتشعب التحليلات مع الانتخابات السودانية ، وكل واحد منا يدلو بدلوه مسترجعا تجربته الطويلة في العمل الصحفي ومستشرفاً مقبل الأيام من وحي الصورة البانورامية التي نشاهدها على المسرح السياسي. شاشات التلفاز كانت فاتحة على طول الخط ، وكانت تلك الأيام هي بداية البرامج الحوارية التي سمح للمعارضة أن تقتحم الإعلام الحكومي والرسمي. بدأ الحوار ساخناً والآراء تتضارب من هنا وهناك. جلس حسن الابن الأكبر للأخ منير مع ابني ( مرثد ) وهما الاثنان على أعتاب الجامعة أو في الطريق إليها. لاحظت تململهم من أجواء المناقشات السياسية الساخنة التي تدور بيننا فإذا بهما ينتحيان جانباً .. وفي لحظات وجدتهما يتحلقان حول جهاز (البلي استيشن ) وفي لحظات ارتفعت أصواتهما بصورة أعلى منا وفي تنافس شديد حول تلك اللعبة. أخلص من هذا القول أن الحديث في السياسة أصبح لا يهم كثيراً هذا الجيل وأن الاهتمام بما يجري في الساحة السياسية هو أمر لا يمثل أي أولوية في سلم اهتمامات هذا الجيل. لقد انتقلت اهتماماتهم إلى مساحات أخرى. أعادني هذا الموقف إلى مراجعة ما يجري حولنا وما يجري في وطننا العزيز من تغيرات ، وأعادني إلى قراءة متأنية لهذه المرحلة .. لينطرح في ذهني سؤال ملح : لمن نكتب نحن الإعلاميون والصحفيون والكتاب ؟ ونظرت إلى تلك ( النوافذ ) المضيئة والتي ظهرت مؤخراً في السنوات القليلة السابقة وتلك المواقع الاليكترونية التي أعادت لنا مساحة من الهواء الطلق النقي حتى نعبر عن ما يجيش في دواخلنا بكل حرية. وبمطالعة سريعة لتلك المواقع الأكثر انتشاراً الآن من ( سودانايل ) و( سودانيز اونلاين ) و(الراكوبة ) وغيرها من المواقع وجدت أن الشريحة الكبرى التي تكتب وتحلل وتقدم رؤيتها للأحداث هم من جيل السبعينات. شيوخ وفطاحلة يروون ظمأ القراء بتلك الكتابات الرائعة. نخبة في الخارج وأخرى في الداخل يواصلون هذا الضخ اليومي في مختلف قضايا وشجون الوطن ، والقراء يستمتعون بهذه الكتابات العميقة التحليل الكثيرة الجرأة! وأصبح المثقفون مدمنين لتلك المواقع. فعندما تقرأ لفتحي الضو يعيدك إلى روعة الماضي وإبداعات الصحفيين في السبعينات الميلادية ، كلمات جزلة ورؤية واضحة وأعمال صحفية عميقة ، وهو أحد عصارة الصحفيين الذين أبدعوا في تلك الأيام وكان نتاجهم واضحاً حيث قامت على أكتافهم الصحافة الخليجية منذ أكثر من 30 عاما وحتى اليوم ولازالوا هم أعمدتها بلا منازع. وعندما تطالع كلمات مصطفى البطل فان أمام كاتب وصحفي لا يشق له غبار .. أين كان كل هذا الزمن ؟ وعندما تأتيك الرؤية والتحليل السياسي لسالم أحمد سالم فإنه يذكرك بتلك الأيام الجميلة في منتصف السبعينات الميلادية عندما تزاملنا في القسم الخارجي بجريدة الأيام. كلماته باريسية يفوح منها عطر باريس الجميل ، عمق في التحليل ورصانة في التعبير ، تجعلك تسترجع من ذاكرتك مدرسة د. منصور خالد في الكتابة والتحليل السياسي العميق. أما صديقنا محمد موسى جبارة القانوني الضليع رغم أنه لم يمارس الصحافة مهنة إلا أن في أعماقه يسكن مشروع صحفي متمكن يطرح من خلاله مشروعاً تنويريا وسياسياً كبيرا يبشر به منذ 4 عقود وتجد ذلك في الصورة المتكاملة لما يقدمه من موضوعات وكلمات معبرة. وأخونا إمام محمد إمام يمكن أن نقول عنه أنه كاتب الوسطية والرؤية البعيدة.. وتلمس في ثنايا سطوره قلقاٌ على الوطن وخوفاً من حسابات خاطئة لأي طرف تؤدي إلى مآلات لا يحمد عقباها. وعندما نقرأ ل د. محمد وقيع الله فتجده كاتباً سلس العبارة – قد تختلف معه في أفكاره وآرائه ولكن تحترم ذلك الأسلوب وقدراته في الكتابة والتعبير. أما الدكتور عبد الوهاب الأفندي فيقدم لنا الرؤية الأكاديمية الدسمة التي يسهل هضمها. ويأتي شيخ النقاد والمحللين د. الطيب زين العابدين على رأس القائمة فيعجبك وقار الكلمة الفاحصة التي تنطلق من ثنايا الحروف والكلمات التي يرسمها في كافة مقالاته تحليلاً واقعياً لمجريات الأحداث. أما القامة الصحفي محمد على صالح فقد سعدت بمزاملته في جريدة المدينة عام 1979 – 1980م قبل أن ينتقل نهائيا إلى واشنطن مراسلا لجريدة المدينة حيث استمر التواصل هاتفيا وبموضوعاته الشيقة التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر حتى تزين صحيفة المدينة السعودية في تلك الأيام ورئيس التحرير الأستاذ احمد محمود كان الأكثر شوقاً لتلك الموضوعات واستعجالاً لها وهو لا يحتاج مني إلى تقريظ ولكني لا أفوت له مقالا أو تحقيقا يكتبه منذ مقالات كتبها حول قوات (الانانيا) في أوائل السبعينات والتي سببت له بعض الإشكالات على ما اذكر في وقتها. لم أكن أريد أن احلل أو أقيم زملاء المهنة وكتاب الرأي فهم لا يحتاجون لذلك ولكنها انطباعات عفوية جاءت في سياق الحديث عن هذه المرحلة وهؤلاء نماذج قليلة فهناك كتاب رائعون لم يسعفني المجال لذكرهم مثل الصحفي المخضرم طلحة جبريل والسر سيداحمد ود. حسن بشير و د علي حمد وكمال الجزولي وآخرين. والآن يأتي السؤال .. لمن نكتب نحن جيل السبعينات ؟ وهل فعلا ما نكتبه سيكون له دور في المساهمة في مرحلة التغيير؟ وهل ستكون هناك آذانا صاغية لهذه الآراء والأفكار؟ وليسأل كل واحد منا نفسه - قبل أن نكتب للآخرين - هل يستمع أبناءه للآراء التي يطرحها ؟ هل يناقشونه سياسياً ويستوعبون رسالته ؟ هل هناك مسافة تواصل بين الأجيال ؟ أكاد أجزم أن النتيجة ( صفر ) !! فما هي المحصلة إذا كنا فشلنا في إيصال الرسالة إلى داخل بيوتنا ؟ وما هي فائدة هذا التنظير الذي تمارسه النخبة ؟ هل أصبحت المسألة تحريك ( الماوس ) والانتقال من موقع لآخر والاطلاع على الصحف والتعليقات والكتابة برد الفعل وليس إنتاج الفعل وأنت لم تغادر مكانك؟ هل الوطن الحالي هو وطن الجدود ووطن العزة والكرامة و( سودان) نعرفه وعشنا حلوه ومره ويعرفه الآن شبابنا ؟ وهل يمكن لأبنائنا أن يعايشوا في أعماقهم هذا الوطن الذي يتخندق في أعماقنا؟ إنني أشك كثيراً ..فالسودان الواقعي غير موجود ولكن السودان ( الافتراضي ) هو واقع جيل اليوم. إننا فعلاً محتاجون لسودان افتراضي يلم شمل هؤلاء الشباب ويصهرهم في بوتقة وطن يواجه تحديات المستقبل والألفية القادمة ومتغيرات السياسة داخليا وخارجيا وإقليميا ودوليا. لا اعتقد أن أبنائي يستمتعون بتلك الكلمات الرائعة والتحليلات المعمقة التي يكتبها فتحي الضو وسالم أحمد سالم ومحمد موسى وغيرهم فهي بعيدة عن واقعهم. ولا يعتقدن أحداً أني (ابخس ) من هذا العطاء والذي أصابني بالإدمان (الممتع) إن صح التعبير لمتابعته يوميا وأصبحت من أكثر الذين يعايشون هذا العطاء الرائع .. ولكنني أرثي لحال جيل أبنائي إنهم بعيدون جدا عما نكتبه ونأمله لمستقبلهم. طلب مني ابني قبل فترة أن افتح صفحة في الفيس بوك لأشاركهم في هذا المجتمع التقني وهذه العلاقة الحميمة. وإذ بي اقتحم عالم آخر من أصدقاء أبنائي .. بدأت بشباب وشابات العائلة ومعظمهم في سن المراهقة وامتدت لأصدقائهم في الدراسة وغيرها. وجدت نفسي أشاركهم في التعليق على بعض ما يكتبونه ويطرحونه ثم وقفت متفرجا فالزخم واللهاث اليومي لهؤلاء الشباب لا تستطيع أن تجاريه ، ولكنها كانت تجربة ثرة ومذهلة في نفس الوقت . أفكار جريئة لأقصى الحدود. حتى ابني ابن الستة عشرة عاما وجدته يتحاور ويتخاطب مع أبناء العائلة وأصدقائه ( بنين وبنات ) بلغة تحسده عليه وكلها جرأة !! وهذا هو حالهم ، وهذه هي لغتهم ولن تستطيع أن تغير شيئاً فمعظمهم يملكون هذه الجرأة والشجاعة في الحديث في كل موضوع.. إنها تجربة عميقة أتمنى أن يخوضها كل واحد منا ليكتشف حجم البون الشاسع بين الأجيال ونحن نسابق الزمن مع هذه المتغيرات. الدكتور عبد المنعم سعيد تناول في مقال له بجريدة الشرق الأوسط قبل أيام ( 2/6/2010م ) موضوع غلاف مجلة التايم الأخير الذي يتحدث عن ( الفيس بوك ) قال : ( والحقيقة أنه لم يعد معلوماً كيف ستؤثر كل هذه الأدوات في حياة البشر وهوياتهم وخصوصياتهم ، وحتى معنى الحقوق والواجبات والانتماء إلى وطن أو جماعة ، وحتى في الدول الغربية فإن هناك اتجاهاً متخوفاً من فقدان شخصيات حقيقية لصالح عوالم أخرى وهمية. أما بالنسبة لنا فإن المسألة تبدو أكثر صعوبة ، حيث لا يمكن تخيل تأثير هذه الأدوات في مجتمعات تقليدية ، ولا الكيفية الجديدة التي تحول التقدم إلى اختراق ، والعلوم والتكنولوجيا إلى أسلحة جبارة باترة ، والخطورة كامنة في أن الأجيال القديمة لا تعرف الكثير عما يجري لأن التغيير هذه المرة يأتي من أسفل ، وبين الأجيال الجديدة والأصغر سناً ، أما من هم في السلطة أو في النخب الحاكمة فإنهم لا يدركون عمق ما يجري.) إذن فما هو الحل ؟ إننا يجب أن نسعى لسد هذه الفجوة والنظر في كيفية التواصل مع هذه الأجيال فهي التي ستقود التغيير بمفاهيمها وأسلوبها الذي يختلف جذريا عما نفكر به نحن الآن. علينا أن نستشرف آفاق المستقبل بآليات جديدة ومفاهيم جديدة. والإعلام هو أحد أسلحة المستقبل .. صحيح أن المال يلعب دوراً مؤثراً ولكن الحقيقة والانتشار الإعلامي وإيصال الكلمة هي أمضى سلاح ، ومع التطور التقني في الاتصالات ستتغير كل المعادلات ولن يستطيع احد أن يسيطر على الفضاء بعد الآن مهما أوتي من قوة أو نفوذ أو مال! ولن يستطيع أحد أن يمنع الكلمة أن تصل لمتلقيها في أي بقعة من الكرة الأرضية وبالتالي علينا استغلال هذه التواصل التقني والإنساني بين مكونات المجتمع للدفع باتجاه التغيير الايجابي والألف ميل تبدأ بخطوة. وعلينا أن نتيح الفرصة لهؤلاء الشباب ليأخذوا دورهم ، لا أن نفكر نيابة عنهم ونطرح الحلول ونرسم مستقبلهم دون أن يكونوا هم فاعلين في هذا التغيير ومشاركين فيه من الألف إلى الياء. المسألة في رأي تحتاج لنقاش هادئ. علي عثمان المبارك – صحفي جدة