قابلني شخص لا أعرفه، في شارع من شوارع إحدى المدن العربية، ناداني دون سابق معرفة.. "- يا أسود..!" صدمتني التسمية أول الأمر.حينما أفقت من الصدمة بادرته بعيون تقدح شررا.. "- قلت أيه.؟!" إبتسم بطريقة بلهاء فيها شيئ من اللا مبالاة والتعالي وكأن الأمر لا يعنيه كثيرا ... - " معليش بس .." - " بس أيه..؟!" - " بس إنت سوداني..!!..أسود يعني..!!" لأول مرة أشعر بوقع الكلمة وهي مقروءة بالألوان الطبيعية.عندها نكصت على عقبي قلت في سري وأنا لا أزال احتفظ بالجدية العبوسة على وجهي... "والله معاك حق..!!" يبدو أننا شعب مصاب بعمى الألوان السمعي...!! في المدينة العربية نفسها ...سألت شابا ، في سن المراهقة، يعمل في احد محال الاتصالات، إن كان لديهم خط دولي..رد علىَّ محاكيا عباراتي بعربية "مكسرة" وبصورة تهكمية تختلط فيها السخرية بالجد. رددت عليه أني لا أقبل هكذا مزاح. فاحترم نفسه ولم يرد علي..حين هدأت وراجعت نفسي تذكرت أن كثيرا من أهلنا في الشمال والغرب والشرق والجنوب هكذا ينطقون العربية.لا يتبقى إلا وسط نيلي هو الذي يستعمل الدارجة العربية "الفصيحة" التي هي في حد ذاتها مدعاة للسخرية والتندر لدى الكثير من العربان وهذا شأن آخر.. فلما الغضب إذن..؟؟ عندما كثرت علي المراجعات بدأت أحس بوطأتها الثقيلة على نفسي وروحي. شعرت بأني كالمُنْبَتْ لا أعرف من أكون. فالثقافة والسياسة التي تربينا في كنفها كانت كلها تصب في مجرى أني سليل نبع صاف من العربية والعربان. ولكنني حينما صرت في وسطهم شعرت بأني مختلف تماما عنهم:لون بشرتهم ، طبائعهم ، موسيقاهم، طريقة مزاحهم...ونستهم..أشياء كلها لا تشبهني لا أستسيغها..فهي غريبة عني .. والمؤسف حقا هو أن الأمر لم يقتصر على بلاد العربان بل هو مطبق بين ظهرانينا...الوضع الذي يعلى من ثقافة العربان وبالتالي يملي علينا التعامل بالنقيض مع الثقافات المحلية "الأخرى". تربينا على اعتبار أن اللغات السودانية (غير العربية) ما هي إلا "رطانات" متخلفة تدعو الى السخرية..لا بل أن الإستعلاء بلغ شاؤا بعيدا من الازدراء بتلك اللغات إذ جعل بعض متحدثيها من الأجيال المتقدمة والمختلطين بالأوساط المدينية يفقدون الصلة بها تماما مما يهدد بانقراضها إن سار الجهل والتجاهل بهذه الوتيرة.لا أذكر ذلك على سبيل المغالاة بل الشواهد كثيرة هنا وهناك. فأنا أعرف مثلا قرى في جنوب شندي معظم قاطنيها من الأصول الدنقلاوية لكن لا تجد اليوم فردا واحدا يتحدث بلغة الدناقلة ، فقد اندثرت منذ جيل الآباء وربما الأجداد. ميلاد لغة من اللغات يعد إنجازا بشريا عبقريا أرسى دعائم الحضارة الإنسانية والتقدم. يندر أن يضاهيه فعل في التاريخ.إستطاع الإنسان المعاصر أن يصل الى دقائق التشريح والتركيب في العلوم الطبية والفيزيائية وخلافه لكنه لا زال عاجزا عن فهم كنه تكوين اللغات. دعنا نقول أن هذا الاستلاب متجذر فينا حتى النخاع الى الدرجة التي يفقد فيها الفرد الشعور بانتمائه الحقيقي ،النابع من تاريخه الحقيقي، والتحول الى وضع مصطنع لا يصمد أمام أي اختبار حقيقي كحالي تماما في مجتمع العربان. والمؤسف أن الأمر ،كما أظن، قد غطى شتى مناحي الحياة الإجتماعية والثقافية والسياسية. مشهد آخر...حاولت مرة مداعبة أوتار آلة طمبور وجدتها بالقرب من مقعدي في حضور بعض الأصدقاء من أبناء الأقليم الشمالي .ولكن لعدم إلمامي بتقنية العزف على الطمبور بطريقة المحترفين من "الطمبارة" الشماليين صرت أستخلص منه بعض الألحان السودانية المعروفة بالعزف عليه وترا بعد وتر مما دعى بعض أصدقائي من الحضور للسخرية مني " إحنا في ركن الجنوب ولا شنو..؟".والمقصود هنا الفترة الإذاعية التي كانت موجهة للإقليم الجنوبي في ستينات القرن الماضي..والتي كانت تذاع من خلالها إبداعات الفنانين الجنوبيين. إذن نحن هنا أيضا إزاء الطريقة الفجة لأصحابنا العربان نستعملهاهنا.في بلادنا وبين مواطنينا . السخرية من موروثنا الثقافي بشكل عام والموسيقي بشكل خاص.الكثيرون هنا في الوطن يسخرون من الموروث الموسيقي الجنوبي بالرغم من ثراءه وتنوعه ولولا حدب بعض الجهات النابهه والمهتمة بروح الموسيقى السودانية، بالمعنى الشامل والحقيقي للكلمة، (كفرقة عقد الجلاد بقيادة الموسيقي الفذ عثمان النو) لآل أمر الموسيقى تماما الى ما صار اليه الأمر مع اللغة....نعم فقد لاحظت أن الكثير من الفنانين الجنوبيين عندما يحضرون للغناء في العاصمة يغيرون في الحانهم حتى تصبح قريبة من الألحان العاصمية فتأتي الألحان مسخا مشوها بين أصالة الموروث الجنوبي والهجين العاصمي. ولا أقول هجينا أيضا من باب المغالاة.فالعادة كانت ، ولا زالت ، لدى معظم الموسيقيين السودانيين تأليف أغانيهم على آلة العود (العربية). بينما لا تتوفر إلا قلة قليلة لا تتعدى أصابع اليدين تدرك العزف على السلالم والمقامات العربية.أضف الى ذلك بأن العود من الآلآت التي يصعب إجادة التعامل معها (بالشكل الصحيح).من هنا تأتي المفارقة: تأليف موسيقي لحني (خماسي) ،أبعد ما يكون عن الألحان العربية ،على آلة صنعت وطورت خصيصا لإنتاج المقامات العربية..لذلك يأتي النتاج هجينا ورتيبا.والرتابة تأتي بشكل أساسي من ضعف مقدرة الملحنين على تجويد التعامل مع العود.وكما لاحظ بعض الموسيقيين حقا فقد بدأ هذا الهجين في اجترار نفسه بعد أن استخلصت سنوات الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي جل عصارته ولم يتبق منه شيء للفنانين الجدد إلا التباكي بالألحان القديمة على الماضي التليد..!! يصعب هنا الحديث عن تطوير ذاتي باستحداث المركبات الهارمونية الغربية وتوطينها في اللحن المديني وإن كان لهذا الجهد تقديرا كبيرا وسط جمهرة الموسيقيين لأن التراكيب الهارمونية تزيد من عمق التعبير اللحني فهي تجعل اللحن الحزين يبدو أكثر حزنا وتزيد اللحن الفرح فرحا..وهي لا غنى عنها لمن أراد مثلا تأليف موسيقى تصويرية لمشهد سينمائي أو مسرحي.ولكن هذا ليس كافيا أو فلنقل ليست البداية الحقة من هنا. إن التركيز على التطوير بإعتماد المركبات الهارمونية الغربية يشكل خطرا في المنظور البعيد . ومكمن الخطورة يأتي في الابتعاد رويدا رويدا عن الأشياء الأصيلة في موروثنا الموسيقي. يجب ان لا ننسى ان هنالك شعوبا فقدت هويتها الموسيقية تماما أمام الزحف القوي للميديا الغربية كالشعب الفلبيني مثلاَ.فالفرد هناك يحفظ الأغاني الغربية عن ظهر قلب بينما يندر أن تجد فلبيني يترنم بأغنية وطنية مائة في المائة. البداية الحقة تأتي من وجهة نظري في الغوص العميق الى مكنونات موروثنا الموسيقي الثر الرحب الذي أشك في أن يحاكيه موروث آخر بهذا القدر من الحيوية في العالم أجمع. حتى الدور الإعلامي الذي لا غنى للموسيقى عنه ،إن أردنا لها إنتشارا، كان ضعيفا والسبب أيضا يرجع الى عوامل كثيرة أبرزها على الإطلاق لهاثنا الفاشل الى شواطئ العربان حيث يجب أن لا يكون.فعلى العكس من ذلك تماما فموسيقانا،على علاتها ، تملك حضورا طيبا في في عدد مقدر من الدول الأفريقية...كتشاد وأثيوبيا والصومال والكاميرون ونيجيريا،...الخ.وبقليل من التوسع في المضامين اللحنية لوسط السودان بإضافة عناصر موسيقية من جنوب السودان يمكن أن نوفر لها حظا طيبا في الإنتشار في وسط وشرق أفريقيا.كما أننا نملك كذلك فرصا حقيقية للتواجد الموسيقي بقوة في معظم بلدان آسيا والكاريبي وأمريكا وأيرلندا وحتى سكوتلندا. لكننا لم نحسن التعامل مع هذا الرافد إعلاميا نسبة لأننا شماليي الهوى. فإخوتنا الأفارقة لم يكونوا بحاجة لفهم معاني الكلمات العربية حتى يطربوا لألحاننا بينما أجهدنا أنفسنا في إسماع ألحاننا إلى قوم يزدرون طريقة نطقنا للكلمات ويسخرون منها متى ما اجتمعوا في حلقات أنسهم ( طاش ما طاش وغيرها من الأعمال الدرامية العربية ).أضف إلى ذلك بعد السلالم العربية عن سلمنا الموسيقي الذي يميل الى الخماسية. كأني هنا بالمثل الشعبي الذي يقول:"رضينا بالهم والهم ما راضي بينا". أفضت هنا في شرح الإستلاب الذي نعيشه في دنيا الموسيقى والقيود التي تكبلنا من جراء الإنسياق الأعمى خلف العربان لأن الأمور هنا أكثر وضوحا من غيرها لكنني على يقين بأن الأمر قد القى بظلاله الكئيبة على كافة المناحي الثقافية وبنفس الوتيرة.. لا شك أننا بهذا اللهاث وراء السراب أيضا نكبل ونهدر قدراتنا وطاقاتنا وإمكانياتنا بقيود من صنع أنفسنا..فلماذا.؟ ولمصلحة من..؟؟ لكن يبقى السؤال الأكثر أهمية :إلي متى نظل نتباكى على "المعاملة الغير طيبة لنا " من قبل العربان وكأننا في نهاية الأمر نضع ذواتنا وتطلعاتنا وتطورنا رهنا برضائهم..؟؟. من هنا يأتي الخسران المبين.. ما لم نجد طريقا للفكاك من هذه القيود. كان الدكتور جون قرنق ذو بصيرة قوية ونافذة حينما كان يصر على هذا الإنعتاق.إذ كان يعتبره الشرط الهام لتحرير ذواتنا من القيود التي كانت تجرها جرا مرضيا إلى حظائر العربان.لكن مرضى النفوس كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه فيفسرون دعوته بأنها دعوة إلى التخلي عن الإسلام وكأن الإسلام ما جاء إلا لتكريس عبوديتنا لدى العربان. صحيح أننا لا يمكن أن نمحو التاريخ بجرة من أقلامنا ومما يزيد الطين بله سوء الأحوال الاقتصادية التي دفعت بالآلاف إن لم يكن بالملايين منا إلى بلدان العرب بحثا عن وضع معيشي أفضل يسد رمقنا ورمق أهلينا.وهنا علينا أن لا نبخس حقهم وإحسانهم علينا. لكننا أيضا كغيرنا من الشعوب نأخذ ونعطي حسب ما تقتضيه سوق العمالة الدولية كل بحسب مؤهلاته وحتى بحسب تصنيفه العرقي كما هو الحال في سوق العربان.لكن رب ضارة نافعة فلولا احتكاكنا العملي بهم في عقر دارهم لظللنا حبيسي النظرة الخاطئة عنهم وعن أنفسنا. ولكن هكذا يختبر التاريخ معادن الشعوب فإما صمود وقوة عزيمة تتحدى الصعاب وتنتصرأو سقوط في وهدة اليأس والقنوط وبئس المصير.