مراقد الشهداء    وجمعة ود فور    ليفربول يعبر إيفرتون ويتصدر الدوري الإنجليزي بالعلامة الكاملة    كامل إدريس يدشن أعمال اللجنة الوطنية لفك حصار الفاشر    وزير رياضة الجزيرة يهنئ بفوز الأهلي مدني    مخاوف من فقدان آلاف الأطفال السودانيين في ليبيا فرض التعليم بسبب الإقامة    سيد الأتيام يحقق انتصارًا تاريخيًا على النجم الساحلي التونسي في افتتاح مشاركته بالبطولة الكونفدرالية    وزير الداخلية .. التشديد على منع إستخدام الدراجات النارية داخل ولاية الخرطوم    شاهد بالفيديو.. استعرضت في الرقص بطريقة مثيرة.. حسناء الفن السوداني تغني باللهجة المصرية وتشعل حفل غنائي داخل "كافيه" بالقاهرة والجمهور المصري يتفاعل معها بالرقص    شاهد بالصور.. المودل السودانية الحسناء هديل إسماعيل تعود لإثارة الجدل وتستعرض جمالها بإطلالة مثيرة وملفتة وساخرون: (عاوزة تورينا الشعر ولا حاجة تانية)    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    ريجيكامب بين معركة العناد والثقة    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حريق سوق كورتي: خفايا وأسرار 2-2 ... بقلم: د. أحمد إبراهيم أبوشوك
نشر في سودانيل يوم 27 - 07 - 2010

وجدت الحلقة الأولى من هذا المقال صدًى واسعاً في أوساط الطلبة الذين شهدوا حريق سوق كورتي في الحادي عشر من يناير 1982م، واستجابةً حُسنةً للاعتذار الذي دونه رهطٌ منهم في حينه، وكان ليَّ شرف نشره على صفحات صحيفة الأحداث التي تصدر في الخرطوم بأثر رجعي، وبعد ثمانية وعشرين عاماً على مرور الحدث. وكانت تلك الاستجابة رفيعةً في مستواها، ونبيلةً في عفوها، الذي بذله ضحايا ذلك الحريق الشؤم، ولسان حالهم يقول: "الاشترك عفونا عنه، والاعتذر قبلنا اعتذاره". وفي هذه الحلقة الثانية أحاول أن أوثق لشهادات بعض شهود العيان التي نُشرت منجمةً في فضاءات اسفيرية مختلفة، ثم أرسم صورةً ذهنيةً حيَّةً لرد فعل أبناء كورتي بالعاصمة القومية، عندما بلغهم نبأ حريق سوق مدينتهم التي ينسبون إليها فخراً وإعزازاً (الكوارته)، والكيفية التي نُقل بها اعتذار طلبة مدرسة كورتي الثانوية، الذين ندموا "ندامة الكُسعي" على ذنبهم، إلى أهالي كورتي الفضلاء الذين تلاشت مرارات الحريق من مفكِّراتهم التاريخية بفضل نفوسهم السمحة، وقلوبهم العامرة بالعفو، واختفت معالم سواد الحريق الداكنة من سطوح متاجرهم، وعروشها ومداخلها التي جددوها من أموالهم الطهورة، ومكرمات ذوي أرحامهم من أهل الحضر.
شهادات شهود العيان
يروي الأخ محمد علي المكي (السريع)، المقيم حالياً بالمملكة العربية السعودية بعض حيثيات ذلك الحريق، ويقول: "سُبْحَانَ الْلَّهِ! وَالْلَّهُ أَذْكُرُهَا وأتَذَكَّرُهَا وَكَأَنَّهَا حدثْتَ الْيَوْمَ، كَانَ يَوْمَاً مِنَ أَيَّامٍ جَهَنَّمَ الْحَمْرَاءِ، وَكَانَ خَطَّأً فَادِحَاً اقَتَّرِفَهُ بَعْضُ الْطَّلَبَةِ، الَّذِيْنَ لَمْ يُحْسِنُوْا الْتَّصَرُّفِ. وَكَنْتُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ عَارَضَ الْحَرِيْقِ، وَأَيِّدْ الْتَّظَاهُرِ السلَمِيِّ، وَالَتعْبِيرِ بِالْهُتَافَاتْ المناهض لحكم العسكر. وَلَقَدْ ظُلَمَ تُجَّارُ كُوّرْتِيْ بِذَنْبٍ لَمْ يقتَرفُوهُ، وَبِسَبَبِ شَرِذِمّةً مِنْ الْطُّلابِ الَّذِيْنَ لَمْ يَحْسبُوْا الْعَوَاقِبِ، وَبَعْدَ الْحَادِثِ بَدَاُوْا يَنْدَمُونَ وَيَتحَسرُونَ، بِحُجةٍ أنَّهُمْ لَمْ يَكُوُنُوُا يَتَوَقَّعُونَ مَا حَدَثَ." ثم يصف الأخ محمد علي وقع الحريق المؤلم على مدير مدرسة كورتي الثانوية بنين آنذاك، بقوله: "وبَكِى الْأُسْتَاذُ الْفَاضِلُ مُحَمد الحَسَنُ أحْمَدُونُ، وَأَعْتَبرهَا وَصْمَة عَارِ لَّهُ مِنْ طَلَابِهِ، الَّذِيْنَ خَانُوُهُ وَطَعُنَوهُ مِنْ الْخَلَفِ، وَهُوَ لَا يَدْرِيَ، وَلَوْ كَانَ يَدْرِيَ لَتَغَيرَ الْحَالِ، وَلَكِنّ قِدَرِ الَلّهَ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ." ثم ينتقل الأخ محمد علي إلى رد فعل أهالي كورتي المظلومين، مدوناً شهادته العادلة، بقوله: "وَلَوْلَا عِنَايَةٌ الْلَّهِ، وَتُدْخلُ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لَحَدَثَتْ كَارِثَةٌ؛ لِأَنَّ أهْلِ كُوّرْتِيْ كَانُوْا يُنَونُ إبَادَة الْطُّلاب عَنْ بِكْرَةِ أَبِيْهِمْ، وَلَكِنْ عِنَايَة الْلَّهْ لَطَفْتَ بِنَا، وَلَوْلَا تَدْخُلُ الْعُقَلَاءِ لكنا فِيْ عِدَادِ الْمَوْتَى. ولم يكن رد الفعل الذي وصفه الأخ محمد علي قاصراً على أهالي كورتي الفضلاء، بل تعداهم إلى سائر أعيان المنطقة، فيذكر منهم موقف والده المرحوم علي المكي الشيخ، الذي كان لا يهاب في قول الحق لومة لائم، وذلك عندما رد على ابنه محمد بقوله: "لِمَاذَا لَمْ يُقَتِلُوْكُمْ أهَالِيْ وَتُجَّارِ كُوّرْتِيْ؟"، فهذه العبارة البليغة والممعنة في اليقظ المكتوم كانت تشكل مزاج كل الآباء الذين استشاطوا غضباً لفعلة أبنائهم الشنيعة على امتداد المنطقة دون استثناء.
ويؤكد الأستاذ حمزة يوسف إبراهيم (السعودية/فقيرنكتي) ما جاء في رواية صديقه الأخ محمد علي المكي، وذلك بقوله: "فإن حريق سوق كورتي لا يخرج عن دائرة طيش الشباب إلى سواه، وللأسف أن معظم الطلبة في تلك الفترة-وأنا منهم-لم تكن لهم النظرة العقلانية الفاحصة ... ومن هنا أضم صوتي لصوت الدكتور أبي شوك، ونكرر أسفنا، واعتذارنا لأهلنا في كورتي." وعلى شاكلة الاعتذار ذاته جاءت رسالة الأخ علي فضل المولي (السعودية/أوسلي)، والتي تقرأ: "إلى كل أهالي كورتى شيباً، وشباباً، ونساءً، وأطفالاً، أقدم اعتذاري نيابة عن كل المعتقلين، وإن كان الأمر كله لا يخرج من طيش الشباب. ومن هنا أقف أمامكم بكامل قواي العقلية راجياً منكم جميعاً السماح، واعتذر لكل مَنْ مسهم منى أذى، أو ضرر، وأريد أن افتح معكم صفحة بيضاء لا تشوبها شائبة".
هكذا تواترت الشهادات، وتعاظم الاعتذار وبلغ مداه في قول الدكتور يس محمد يس (ولاية كاليفورنيا/الأراك): "نعم كنتُ من شهود العيان على ذاك اليوم الذي لا أجد له تفسيراً حتى هذه اللحظة سوى طيش الشباب، وربما رغبة طلاب الصفين الأول والثاني في تعطيل الدراسة، ولكن لا أجد مبرراً للمشاركين من طلاب الصف الثالث. حقيقة لم أحظ بحضور الاجتماع الذي عُقد عشية الحريق، ولم أشهد التحرك من بدايته، ولكن الذي شهدته هو التحول المفاجئ للشعارات عند دخول سوق كورتي، وبداية التكسير، والتخريب، وفجأة إشعال النيران في المحلات التجارية. وأذكر جيداً دهشة أهل المحال التجارية وأياديهم المغلولة، وهم يرون جيل المستقبل يلحق الدمار بممتلكات أهل كورتي، الذين كانوا عوناً للطلاب في كل شيء، بل لم يكن لهم حول ولا قوة لتغير ما يجري، ولا دخل لهم فيما كان سبباً للمظاهرة من أصلها، لقد كنتُ من المتفرجين السلبيين، وربما الخائفين من العقاب النفسي، دعك من العقاب القانوني، وأذكر، بل لازلت أرى ألسنه لهب النيران في دكان خضر مُحَرَّق وغيره، وكم حزنتُ في ذاك اليوم، وعدت أدراجي مشياً على الأقدام من كورتي إلى الأراك، وأخيراً عرفتُ أن بعضاً من الطلاب قد أُلقي القبض عليهم... وعندما عدنا للمدرسة كنا نتوجس خوفاً من رد فعل أهل كورتي، ولكنهم قالوا لنا أذهبوا فأنتم الطلقاء! وكم كنت أنكس رأسي خجلاً أمام زملاء الدراسة من أبناء مدينة كورتي عندما أدخل الصف... وكم كنتُ أحتقر نفسي عندما يقابلني أهل كورتي بالود، وعلى الأقل بالحياد العقلاني، وأنا من بين الذين لم يغيروا المنكر لا بيدهم، ولا بلسانهم، بل اكتفوا بأضعف الإيمان."
وفد المؤازرة وبكاء جابر ومساعي حاكم الإقليم
من زاوية أخرى كتب الأخ الصديق الأستاذ عبد الحميد أحمد عمر (العمدة) عن موقف أهالي كورتي بالعاصمة القومية ومدينتهم المنكوبة، قائلاً: "لم أكن يومها موجوداً بموقع الحدث؛ لأني كنتُ ضمن آخر دفعة تخرجت من المدرسة قبل الحريق، لذا فقد كنتُ حينها في مرحلة بين الثانوية والجامعة، مقيماً مع عمي المهندس عبد الله عمر كمبال (خليفة)، بمنزله الحكومي بحي الملازمين بأم درمان، حيث لم يكن ممكناً في ذلك الزمان أن يصل ذلك الخبر إلى أم درمان في يومه، وأذكر أنه في ظهيرة اليوم الثاني، أو الثالث للحدث (تقريباً)، أتى عمي إلى حيث كنتُ أجلس لينقل إليَّ ذلك الخبر المحزن، الذي كان مفاده أن الطلبة قد أحرقوا السوق بأكمله. لم أكد أصدق أن الأمر يمكن أن يكون كما وُصف، وتصورت أنه لن يعدو أن يكون تخريباً محدوداً، قام به أولئك الأخوة من الطلاب..."
ويمضى الأخ عبد الحميد، ويقول: "وإثر ذلك الخبر المفجع تداعى سائر أهل كورتي بالعاصمة والأقاليم، وقرروا السفر إلى كورتي، ليشدوا من أزر ذويهم، ويواسوهم في ما أصابهم. وفي اليوم المحدد تحرك بنا مبكراً أحد بصات ترحيلات السلام، يقوده السائق المعروف عوض عبد الحي من أمام جامع عمر عبد السلام بحي المظاهر بأم درمان، وقد امتلأ باطنه، ولم نجد نحن الشباب حينها بداً من الركوب على سطح البص. وعلى قدر الحدث كان الوفد كبيراً، قاده كبار رجالات الكوارته، ومثلت فيه كل بيوتاتهم بشيبها وشبابها. ووصلنا عصراً إلى مسرح الحدث، ودخل البص مباشرة إلى ساحة السوق المنكوب، وطاف جمعنا على ركام المحال المحروقة، فرأينا من الخراب ما لم يخطر على بال بشر، وتكشف لنا حجم الكارثة، وعندها عرفنا لماذا بكى المرحوم جابر محمد نصر، السائق المعروف، عندما قابلنا في الطريق يقود بصاً آخر متجها إلى أم درمان، وإذ لم يستطع حبس دموعه التي بللت خديه، وهو يحاول أن يصف لنا ذلك المشهد المأساوي، الذي رآه عند مروره بكورتي. ثم توجه الجمع إلى دارنا (أي منزل المرحوم العمدة أحمد عمر كمبال)، حيث تجمع الأهل لاستقبال الوفد القادم. وبعد الانتهاء من مراسم الاستقبال، وواجبات الضيافة، التأم الجميع في اجتماع صاخب، تعالت فيه الأصوات تنديداً بما حدث، وانصب التركيز على عدم السماح بفتح المدرسة مرة أخرى، وأكد أحد المجتمعين بأنهم لن يطيقوا سماع رنة جرس واحدة بعد الذي حدث. وفي ذلك الاجتماع الغاضب لم يكن هناك بداً من أن ينحاز المجتمعون إلى قرار إغلاق المدرسة نهائياً. ولا ريب أن هذا الموقف الرافض لإعادة فتح المدرسة قد أقلق حاكم الإقليم الشمالي في ذلك الوقت، البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، الذي بدأ التحرك لمعالجة الموقف بلقاء مع ممثلين لأهل كورتي بأم درمان، ثم أردف ذلك اللقاء بزيارة لمدنية كورتي لمواساة أهلها، وحثهم على فتح المدرسة مراعاة لمستقبل الطلاب. وقد وفق في ذلك المسعى، لأنه وجد نخبة خيرة من أهالي كانت تؤمن بصون تاريخ كورتي الممتد والزاخر بالعطاء في مجال التعليم، وتقدر مستقبل الطلاب، وتود أن تجبر خاطر الحاكم الذي رفض تناول وجبة الضيافة التي أُعدت له قبل الموافقة بإعادة فتح المدرسة. وبذلك هدأت النفوس ولانت العرائك، وساد صوت العقل، وانفرجت الأزمة بموافقة الجميع على إعادة فتح المدرسة. وبعد أن فتحت المدرسة أبوابها، وأدى الطلاب امتحاناتهم التي كانت على الأبواب، حلت الإجازة الصيفية فكانت عاملاً آخر ساعد على تهدئة النفوس، وإزالة الكثير مما علق بالدواخل. وفي تلك الأثناء جرت عملية إعادة البناء، والترميم للسوق، والتي اكتملت في فترة وجيزة. وما أن بدأ السوق يستعيد نشاطه حتى بدأت فظاعة الحدث في التلاشي من الأذهان شيئاً فشيئاً، ولم يبق منها إلا تذاكر نحته المرحوم محمد الحسن الخضر كمبال (أبو جزمة) على عتبة متجرة قبل أن تجف عجينتها الأسمنتية: "حريق السوق 11/1/1982م".
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
بالرغم من فظاعة الحدث إلا أن قامات أهل كورتي كانت أكبر من الانتقام والتشفي، فما أجمل عفوهم عندما كان عفواً عند المقدرة، وما أعظم صفحهم عندما كان صفحاً متجاوزاً لمرارات الذنب المغتفر، هكذا جاءت كلمات الخليفة أحمد عثمان النقيب، لتغسل أدران حريق كورتي، بقوله: "الاشترك عفونا عنه والاعتذر قبلنا اعتذاره". فمبادرة الأخ الصديق عبد الحميد أحمد عمر كمبال، الذي حمل خطاب اعتذارنا إلى الخليفة النقيب وإمام مسجد كورتي العتيق في يوم الجمعة الموافق 28 مايو 2010م، أكسبت ذلك الصفح قيمة إنسانية عالية الجودة؛ لأن الأخ عبد الحميد لم يكن وسيطاً محايداً، بل هو ابن أكثر التجار الذين تتضرروا من ذلك الحادث المشئوم. فله الشكر أجزله والثناء أوفاه؛ لأنه ناب عنا بعرضه لذلك الخطاب على أعيان كورتي بأثر رجعي، فضمن لنا صفح الخليفة النقيب وبطانته، وقبل ذلك حصلنا على عفو شامل من الأخ الأستاذ جعفر محمد الحسن أبو جزمة المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية. وبين عفو أهل الدار وابنهم المغترب في بلاد العم سام يقف شامخاً عفو الوالد العمدة أحمد عمر كمبال، رحمه الله رحمة واسعة، ووسع مرقده في الدار الآخرة، لأنه تحمَّل تداعيات الحريق في صبر وجلد متلازمين، ودافع عن حقوق الطلاب الذين اشتركوا، والذين لم يشتركوا في الحريق، مستنداً على قلة خبرتهم وجهالة فطنتهم، وملتمساً العذر لهم فيما اقترفوه من ذنب، وفي الوقت ذاته مثمناً صبر أهالي كورتي الطيبين الأخيار، وكياسة كبارهم في تجاوز المحنة والعفو عند المقدرة.
حريق سوق كورتي: الدُروس والعِبًْرَ
تعبِّر المظاهرات الطلابية دائماً عن وعي سياسي باكر للطلاب، عندما تناهض نظم الحكم الشمولية بشأن إرساء قيم الديمقراطية الحقة، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في صناعة القرارات التي تهم شؤون البلاد والعباد؛ إلا أن مثل هذه المظاهرات إذا انحرفت عن هدفها الرئيس وصبت سخائم غضبها في تخريب مؤسسات القطاع العام الخدمية وممتلكات القطاع الخاص تفقد سندها الشعبي، ومصداقيتها في أوساط السواد الأعظم من الأهلين، الذين أعيتهم حيلة الجهر بصوتهم المعارض في وجه النظام الحاكم الذي لم يشتركوا في انتخابه ولم يتواضعوا على نصرته. كانت مظاهرات طلاب مدرسة كورتي الثانوية في الحادي عشر من يناير 1982م تمثل قيمة من قيم ذلك الوعي الطلابي السياسي الباكر؛ لأنها كانت تنادي بإسقاط نظام الحكم المايوي ومحاكمة زبانيته، وترفع شعار التضامن مع طلاب الجامعات والمدارس الثانوية الأخرى الذين تظاهروا من قبل، وواجهوا عنف أجهزة السلطة الحاكمة الأمنية التي تصدت لهم في صلف واستعلاء. وبهذا الأهداف السامية استطاعت المظاهرة أن تكسب تأييد المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية بمدينة كورتي، وتجد تعاطفاً ممشوقاً من أهل المدنية الذين استقبلوا الطلاب مهللين خارج أسوار منازلهم المضيافة، وبهذه الكيفية تمَّ التواصل بين الطلاب والمواطنين حول تحقيق الهدف المنشود. ولكن قبل أن يكون ذلك التواصل حديث المدينة الفاضلة الذي ينقله أهل الحضر والبادية، ويحتفون به درساً من الدروس الناجحة في المجاهرة بمعصية النظام الحاكم، انحرفت المظاهرة عن هدفها المرسوم، ومال نفرٌ من طلابها إلى حرق سوق كورتي عن بكرة أبيه دون أدني مبرر مشروع، ولذلك أفرغوا المظاهرة من غايتها المنشودة مضموناً ومعنًى، وهنا تتجسد العبرة عندما تكون المآلات والنتائج مناقضة للأهداف والمسوغات. وعند هذا المنعطف عمَّ شر المظاهرة، وانحسر خيرها؛ لأن بعض المتضررين من أهال كورتي مالوا إلى الانتقام من الطلاب، وقرروا حرق المدرسة بما فيها ومَنْ فيها، ولولا عناية الله سبحانه وتعالى، وموقف بعض الحكماء من أهالي كورتي، لأُغلقت المدرسة إلى الأبد، وأمسى مستقل الطلاب كدقيق فوق شوكٍ نثروه، ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه.
وهنا يكمن الدرس الثاني عندما أصبح صوت العقل يعلو على صوت العاطفة، وبرزت في الأفق أسماء شخصيات لامعة: العمدة أحمد عمر كمبال، والبروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، والأستاذ محمد الحسن أحمدون، ونفر من قائمة الآباء الذين ورد ذكرهم في شهادة الأستاذ محيي الدين مالك محيي الدين (السعودية/ الغُريبة)، وبذلك تنازل فضلاء كورتي عن حقهم المشروع، ووافقوا على إعادة فتح مدرسة كورتي الثانوية للبنين تقدراً لتاريخ مدينتهم العريقة في مجال التعليم وصون حقوق الطلاب، والتماساً العذر لأبنائهم الطلاب، باعتبارهم جهلاء لا يحسنون صُنعاً، ويجب أن لا يعاقب الأبرياء منهم بجريرة غيرهم.
ويتجلى الدرس الثالث في اعتذار طلاب مدرسة كورتي الثانوية إلى أهالي كورتي بأثر رجعي، فالاعتذار يمثل الاعتراف بالذنب والطمع في العفو، والعفو هو سيد الأحكام، والتزاوج بين الاثنين مبلغ الحكمة وبيت القصيد. أثاب الله أهالي كورتي الفضلاء بقدر قيمة الضيم الذي مسهم، ورحم الله من قضى نحبه منهم، وألبس مَنْ يَنتظر ثوب الصحة والعافية، لأنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدلوا تبدلاً.
نقلاً عن صحيفة الأحداث
Ahmed Abushouk [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.