أمام الريال.. الهلال يحلم بالضربة الأولى    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    كامل إدريس يؤكد عمق ومتانة العلاقات الثنائية بين السودان والكويت    إلى متى يرقص البرهان على رؤوس هذه الأفاعي كلها؟!    "الدعم السريع" تبسط سيطرتها الكاملة على قاعدة الشفرليت العسكرية    الجيش الشعبي يحرر (الدشول) الاستراتيجية بجنوب كردفان    ترامب: "نعرف بالتحديد" أين يختبئ خامنئي لكن لن "نقضي عليه" في الوقت الحالي    كامل إدريس ابن المنظمات الدولية لايريد أن تتلطخ أطراف بدلته الأنيقة بطين قواعد الإسلاميين    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    عودة الحياة لاستاد عطبرة    عَوض (طَارَة) قَبل أن يَصبح الاسم واقِعا    إنشاء حساب واتساب بدون فيسبوك أو انستجرام.. خطوات    السهم الدامر والهلال كريمة حبايب في إفتتاح المرحلة الأخيرة من الدوري العام    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تظهر بدون "مكياج" وتغمز بعينها في مقطع طريف مع عازفها "كريستوفر" داخل أستوديو بالقاهرة    شاهد بالصورة والفيديو.. تيكتوكر سودانية تثير ضجة غير مسبوقة: (بحب الأولاد الطاعمين "الحلوات" وخوتهم أفضل من خوة النسوان)    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    شاهد.. عروس الموسم الحسناء "حنين" محمود عبد العزيز تعود لخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات مبهرة إحداها مع والدها أسطورة الفن السوداني    شاهد.. عروس الموسم الحسناء "حنين" محمود عبد العزيز تعود لخطف الأضواء على مواقع التواصل بلقطات مبهرة إحداها مع والدها أسطورة الفن السوداني    شاهد بالفيديو.. (يووووه ايه ده) فنان سوداني ينفعل غضباً بسبب تصرف إدارة صالة أفراح بقطر ويوقف الحفل    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناوات سودانيات يشعلن حفل "جرتق" بلوغر معروف بعد ظهورهن بأزياء مثيرة للجدل    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    ايران تطاطىء الرأس بصورة مهينة وتتلقى الضربات من اسرائيل بلا رد    غوغل تطلب من ملياري مستخدم تغيير كلمة مرور جيميل الآن    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    خطأ شائع أثناء الاستحمام قد يهدد حياتك    خدعة بسيطة للنوم السريع… والسر في القدم    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة أكتوبر 1964 في ماديسون ويسكونسون ... بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 01 - 11 - 2010


1-أكتوبر: سهد ليلة في سبتمبر 1963
احتفظت بالذِكر عن ثورة أكتوبر 1964 التي تركها لقائي في سبتمبر الماضي بالطلاب الذين يدرسون تاريخها بجامعة ويسكونسون إلى حين يأزف عيدها السنوي. ويقوم على الفصل الدكتور كليف تومسون الذي درّس بقانون جامعة الخرطوم أيام قيام الثورة وكتب يومياتها في مجلدين هما مقرره للفصل. وغرضه من الفصل، الذي انعقد لدورات ثلاث حتى تاريخه، أن يقف طلابه على ما بوسع مهنة القانون أن تقوم به من إحقاق الحق كما فعل ذلك جيل من القانونيين السودانيين في ثورة أكتوبر.
حضر اللقاء 8 طلاب من كلية القانون وتاسع شيخ من الطلاب الناضجين وتغيب اثنان أو نحوهما. وأقرب تجارب الطلاب من السودان طالبة سمحة اسمها جل رعت صبيين سودانيين من "الأطفال الضائعين" حتى اجتازا إجراءات اللجوء. أما الطالب الشيخ فهو موسوعة أسفار. فقد قرر بعد عودته من الحرب الكورية في 1954 أن يرى العشرة بلدان الأغزر سكاناً في العالم واستوفاها ما عدا البرازيل التي استعاض عنها بمكسيكو. وداعبه كليف قائلا:
-حدثتني زوجتى أن إدارة الجامعة قالت للطلاب العجائز أن يقتصدوا في الحديث في الفصل ليتيحوا الفرصة للطلاب الصغار ليعبروا عن أنفسهم.
وكان نقاش ثلاثة أو اربعة منهم حفياً مشغولاً وأسئلتهم ذكية.
عرَّفهم كليف بي بقوله إنني ترشحت لرئاسة جمهورية السودان. وميزت قوله حين اتيحت لي الفرصة للحديث بقولي إنه لولا ثورة أكتوبر لما عرفت طريقي إلى هذا الترشيح. فقد كنا نريد أن نزيل ديكتاتورية عسكرية ككل طلاب الدنيا. ولو لم تسقط قبل تخرجي من جامعة الخرطوم لربما قلت "هذا نظام جابو الله ويشيلو الله" كما عبر زميل لنا في معرض اليأس من الإطاحة به. وكان يمكن لي أن اتخرج من غير أن أشهد الثورة لولا ملابسات سترد. ولو لم اشهد الثورة طالباً لربما تناقص اهتمامي بالسياسية. فقد كنت أحب أن أكون ضابطاً بالحكومة المحلية. ولربما أخذتني تلك الوظيفة الغراء قديماً عن الانشغال بالسياسة. ولكن أكتوبر لمن شهدها مصداق لأن التغيير يقع. وقد يكون أكثر عمقاً من مجرد استبدال نظام بنظام: تغيير في القاع.
قلت للطلاب كان من المفروض أن أتخرج في أبريل 1964. وستجدون ما أخرني على صفحة 7-8 من كتابكم المقرر. فقد ورد فيه أن طلاب الجامعة نظموا في منتصف سبتمبر 1963 مظاهرة داوية في حفل التخريج المقام بميدان النخيل الزائف العتيق انسحبوا على إثرها منه. وقلت إنني كنت سكرتيراً للجنة الاتحاد التي نظمت الاحتجاج ممثلاً للجبهة الديمقراطية. وكان احتجاجنا المخصوص في هذه المناسبة هو قرار نظام نوفمبر ضم الجامعة إلى وزارة التربية والتعليم. واخترنا مناسبة التخريج لأنها وافقت إنعقاد مؤتمر مديري الجامعات الأفريقية الأول وقلنا سننتهز حضورهم الحفل لتكون ضربتنا للنظام أوجع. (للشفافية: كنت من ضمن الطلاب الذين أعانوا دكتور محمد إبراهيم الشوش، أستاذي، في التحضير لمؤتمر مدراء الجامعات ذلك).
وكان الاتحاد مجنوناً وعاقلاً. فعمم قراره بأن ننسحب بصمت ونغادر. ولكن ما بدا الإنسحاب حتى تصاعدت الهتاف بسقوط "عصابة 17 نوفمبر وإلى الثكنات يا عساكر". ونظرت إلى بؤرة الهتاف ووجدت من لم أخطيء حماستهما: الرفيقين سراج اللبني وعبد المنعم عطية. وسارعت أذكرهم باتفاق الانسحاب الصامت ولكن لم يوجد في الأرض يومها من سيسكت صوت الحق من على لسانهما خاصة وقد اكتنفتهما حلقة كبيرة تكيل للعصابة كيلاً بالربع الكبير وتريهما الباب إلى الثكنات. وعلمت أن الخرق اتسع الخرق. وأخذت أفكر في يوم غد الذي ستتخطفنا "الأحزاب" لخروجنا الشيوعي عن الخط. ناهيك عن الحكومة. ونمت أفكر.

2-ثورة أكتوبر 1964: كوبا كوبانا
قلت لطلاب جامعة ويسكونسن الأمريكية الذين يدرسون ثورة أكتوبر 1964 في زيارتي لهم في سبتمبر الماضي إنه لو مظاهرة 1963 (على صفحة 8 من كتابهم المقرر) لما حضرت الثورة في جامعة الخرطوم. وربما ساقني ذلك إلى إنشغال آخر غير الذي ساقتني إليه تجربة شهود الثورة والتبلبل فيها. وقلت أمس أن تلك الوقفة السياسية نظمها الاتحاد، وكنت سكرتيره عن الجبهة الديمقراطية، للاحتجاج على ضم الجامعة لوزارة المعارف. واخترنا لها مناسبة التخريج التي حضرها مدراء الجامعات الأفريقية ممن انعقد اجتماعهم الأول بالخرطوم.
ولم نقرر أن تكون المناسبة مظاهرة بل انسحاباً صامتاً محرجاً للحكومة. ولكن شاء الرفيقان سراج اللبني وعبد المنعم عطية أن يصخبا خلال الانسحاب فهتفا بسقوط عصابة 17 نوفمبر فصارت مظاهرة.ومن كان قريباً من رفيقنا السر مكي فليسأله أن يصف له كاريكاكتورياً كيف تناوب جسد اللبني وعطية وصوتهما في توقيع الهتاف وترويح النفس الشيوعية الغبينة. وكان نتيجة هذه التظاهرة أن تم إيقاف لجنة الاتحاد لمدة عام. وكان رئيسها هو المرحوم مجذوب سالم البر ومعه من الأخوان المسلمين على الحاج، وحافظ الشيخ، ومنير سالم الحكيم. وكنا من الجبهة أنا وبابكر الحاج ومحمد الأمين محمد نور وعبد الله محمد الحسن. ومن المستقلين حسن عابدين ومن الجبهة المتحدة على الخضر. ولو لم توقفني الجامعة لعام لتخرجت في إبريل 1964 وفاتتني الثورة.
قلت أمس إنني بت مسهداً ليلة المظاهرة. فقد خرق رفاق لنا بالاسم قرار الاتحاد وعلت عقيرتهم بالهتاف. وسنصحو وقد أصبحنا مضغة الأفواه السياسية تلوك إنتهازيتنا التي هي حرسنا من لينين او غيره. وكنت أعرف أنني الذي سأكتب بيان الجبهة لتوضيح موقفنا كما درجت. وكانت البلاغة وحدها هي حليفي للخروج من هذا المأزق الصعب. وقلبت العبارات في رأسي طوال الليل اتخير تلك التي تغطي على عيبنا وتستعطف الطلاب على مخطيء أواب. ولا اذكر بالطبع تحديداً ما كتبته. ولكنه بدأ بمثل: "إنه مما نأسف له في الجبهة الديمقراطية أن تحول انسحاب الأمس إلى مظاهرة على غير ما تواثق عليه اتحاد الطلاب. وإنه لمما يؤسفنا أكثر أن يقع هذا الخرق للميثاق بواسطة أفراد منا". وشفعت هذا الإعتذار ربما بوعد للطلاب أن نقوم من جانبنا بالتحقيق مع زملائنا لمعرفة أسبابهم للخروج على قرار الاتحاد.
عملت خلال هذا التبطل المفروض مدرساً للغة الإنجليزية بمدرسة الجمهورية الوسطى لصاحبها الشاعر عبد الحفيظ هاشم. وكانت تقع عند مقابر حمد النيل بعد فريق الصقور بأعلى حي بانت. وكانت عيادة عابدين شرف على شارع الأربعين هي معلمي الشهير فأنزل عنده وأتجه شرقاً نحو المدرسة. وكان المرتب (30 جنيهاً) وفيه فضل إلا من تأخر صرفه. وكنا ننتظر عربة عبد الحفيظ الموسكوفتش الخضراء طوال نهاية أيام الأسبوع الأول من الشهر حتى تعود من الخرطوم. فلربما وقع على مرتباتنا أو استلفها. وكان المرتب يأتي في قسطين غالباً. وكان من طقوسي بعد صرف أولها أن أغشى مطعم كوبا كوبانا بعمارة أبو العلا الجديدة بالخرطوم. فأطلب لحماً ثريداً والذي منه. وكان يغشى المطعم والبار موظفو السفارة الأمريكية في مكانها القديم على شارع الجمهورية. ويجلسون على الكراسي التي تحف بالبار. وكنت أنظر إليهم بيض بيض كمن ينظر إلى فيلم سينمائي.
وكانت تلك الفترة التي ثوثقت معرفتي ومحبتي بصديق العمر المرحوم عبد الله محمد الحسن. وكان اشتغل مديراً لإعمال علي دنقلا (لرابطة الحصاحيصا بينهما) المكول لها بناء بعض قرى حلفا الجديدة. وكان في بحبوحة من العيش: سيارة وكله. وانعقدت بينا محبة في أستاذنا عبد الخالق والماركسية (وكتاب الثامن عشر من برومير لماركس خاصة) عاجلها موته الفاجع عام 1975.
3- أكتوبر 1964: عذاب الحريق
حضرت في سبتمبر الماضي بمدينة ماديسون فصلاً لطلاب جامعة ويسكونسون يقوم عليه الدكتور كليف تومسون ويدرس فيه ثورتنا في أكتوبر 1964. وهيي ثورة شهدها تومسون وهو محاضر بقانون جامعة الخرطوم. وكتب عنها مخطوطة هي كتاب الفصل الدراسي. ولتقديم نفسي للطلاب قلت لهم سأختار من الشوط القليل الذي قطعتموه من كتابكم مشاهداً لعبت فيها دوراً ما كطالب بالجامعة وعضو في قيادة اتحادها آنذاك.
أشرت لهم على صفحة 13. قال تومسون فيها إن الجنوبيين رحبوا بفتح حكومة عبود باب النقاش العام في 1964 حول مسألة الجنوب. وكانت تريد بذلك تغطية إخفاقات جنوبية مشهودة لها آنذاك. وقال تومسون إن طالباً بجامعة الخرطوم كتب على الصفحة الأولى من جريدة "المورننق نيوز" يحتج لرفض الشماليين آراء الجنوبيين بشبهة أنها مما علمهم المبشرون المسيحيون. وقال الطالب إن أكثر قادة التحرر الوطني في أفريقيا من خريجي مدارس التبشير ولم يفت ذلك من عضدهم الوطني. وقال إن نسبة آرائهم إلى الكنيسة لا يعدو أن يكون ضيقاً منهم ذرعاً بتلك الآراء. وزاد تومسون بأن لكلمة ذلك الطالب الجنوبي خلفيات في الجامعة. فمنذ فبراير 1963 تدابر الطلاب الجنوبيون والشماليون. فأنسحبت جبهة الأوائل المسماة "جبهة رفاه الطلاب الجنوبيين" من الاتحاد برغم أنها لم يكن لها وجود في مجلسه أو لجنته التنفيذية.
وبعد فراغ الطلاب من قراءة النص من كتابهم قلت لهم: "أنا الذي اقف أمامكم هنا من تسبب في هذه القطيعة بصورة رئيسية". فقد كنت سكرتيراً للاتحاد في فبراير 1963. واتصلت بي قيادة جبهة الجنوبيين تحتج على لوحة بمعرض مقام بدار الاتحاد الحالية وطلبت نزعها. ووجدت في كتاب تومبسون وصفاً أفضل لما أزعج الجنوبيين من اللوحة. قال إن اللوحة "المسئية" صورت باخرة على النيل الأبيض. وفصَّلت في رسم من على الشاطيء وكان بينهم إمرأة جنوبية واضحة الحمل وعارية. وبدا كمن تلتقط طعاماً مما يلقيه نحوها ركاب الباخرة. ولما لم يقبل الطلاب الشماليون نزع اللوحة تجمع الجنوبيون ونزعوها من صالة العرض وخرجوا إلى الباحة الغربية من نادي الاتحاد وحرقوها في جمهرة كبيرة. ونسب تومسون الواقعة إلى الكبرياء الجريح لكل من الشماليين والجنوبيين. فالشماليون عدوا الحريق استفزازاًً وفوق مطلوب مثل ذلك الموقف. وكان من رأي الجنوبيين أن الشماليين، لو فكروا أصلاً في المسألة، ظنوهم احتجوا على حقيقة عرى أهلهم. ولكن ما أغضبهم حقاً ليس العري بل رسم إمرأة حامل بغير الخرقة التي عادت ما تستر بطنها. كما أنهم سقموا رسم الفنان لجنوبية تتكفف ركاب الباخرة وعدوها من الذوق الفاسد خاصة وكانت منطقة بور، التي رست عندها المركب، تعاني من مجاعة قارصة.
حقائق نزاع اللوحة حق. وتترآى لي تلك اللوحة اليوم كما رأيتها معلقة بالمعرض منذ 47 عاماً. ولا زلت أذكر بلوغي دار الاتحاد وقد بدأ تفرق الجمهرة الجنوبية وقد أنجزت حرق اللوحة بقيادة الشاب الشلكاوي الماكن أوثوان داك. وكان جاري بداخلية الدندر (أو الهند الصينية كما قال طالب زائر من ملاوي لكبرها فكثرة قاطنيها). وكانت في داك روح زعامة تسربت إليه من إرث "الرث" الذي هو في أسرتهم. وربما كان معه أمبروز بني، الذي صار استاذاً للغة الإنجليزية بجامعتي الخرطوم وجوبا، وبيتر جاتكوث الذي برز على دولة نميري وفترة التصالح مع القوميين الجنوبيين. وتوفي داك وبني اللذين امتدت صلتي بهما بعد الحريق وعرفت فيهما عزة وإنسانية مطاوعة وحباً باسلاً للسودان.
حقائق نزاع اللوحة حق. ولكن تأويلات تومسون له تحتاج إلى الاستماع إلىّ كشاهد على ما حدث.
3-ثورة أكتوبر 1964: the so-called الكانت السبب
قلت لطلاب بجامعة ونسكونسون يدرسون منهجاً عن ثورتنا في أكتوبر 1964 لدي زيارتي لهم إنني من "تسبب" في جفوة الجنوبيين للاتحاد في 1963 كما جاء في كتابهم المقرر. احتج الجنوبيون على لوحة بمعرض الاتحاد رأوا فيها تنقيصاً لهم كما ورد. ولما لم يلقوا من الاتحاد رداً شافياً نزعوا اللوحة عنوة وحرقوها. ورد كليف تومسون، كاتب المقرر ومدرسه، الواقعة إلى حساسيات شمالية جنوبية تاريخية. ولكني الذي شهدت الواقعة أعتقد أنها انطوت أيضاً على معان أخرى ليست "عربوإسلامية" بالضرورة.
تسلمت كسكرتير للاتحاد مذكرة بالإنجليزية موقعة باسم "جبهة رفاه الطلاب الجنوبيين" تحتج على وجود اللوحة في المعرض. وهذا التوقيع هو مربط الفرس كما سنرى. عرضت الأمر على لجنة الاتحاد. فأعترضت على الخطاب لأنه ليس من تقاليد الاتحاد أن تخاطبه المنظمات الطلابية "السياسية" باسمها عارياً. ولا أعرف للتقليد دلالة و لا بد أنه من أعراف التمثيل النسبي التي تطَّبع بها الاتحاد. وسيكون مثيراُ معرفة مغزى هذه السنة في أدب الخطاب في اتحادنا آنذاك.
كلفتني اللجنة بعد تداول قصير حول المذكرة بالرد على مقدميها بلفت نظرهم لسنة الحديث للاتحاد. وفعلت بقدر ما وسعتني إنجليزيتي. وأذكر أنني وصفت جبهة الجنوبيين ب"المزعومة" أو "so-called" وحسبت أنني بلغت الغاية في تبليغهم أن تنظيمهم كلاشيء في نظر الاتحاد مثله مثل أي تنظيم آخر. وأرجو ألا يتبرع أحد هنا ليرمينا ب"الاستعلاء" العروبي حيال أهل الجنوب. فقد كان من قادة الاتحاد غير عرب كثيرين. وتذكروا أن هذا الاتحاد نفسه الذي جعل قضية الجنوب قطب نشاطه حين رأى إسراف حكومة عبود في البطش بالجنوبيين. بل كان بينهم 4 من الأخوان المسلمين ما أدخروا وسعاً في حرب الديكتاتورية التي كانت تفرض التعريب والأسلمة في الجنوب في ما أتفق لي تسميته ب"البلدوية" بالنظر إلى بلدو مدير الإستوائية الذي أراد عكس همة الإنجليز فينشر العربية والإسلام حيث نشروا الإنجليزية والمسيحية. فلم "يزغلل" حتى التعريب والأسلمة البلدوية نظر الإخوان المسلمين عن النضال من أجل الديمقراطية.
مؤكد أنه كانت هناك خطط أخرى لمعالجة حكيمة للأمر. والقول بذلك تحصيل حاصل. لربما لو كانت إنجليزيتي أسلس لوقعت على عبارات ألطف. ولكني كنت من الجهة الأخرى من ضمن المطاليق، كتاب الجامعة وفنانيها، ولا استمزج أي دعوة لمصادرة أي عمل فني كان. وكنت شيوعياً طمت بطنه من أشكال التضييق السوفيتي على الكتاب والفنانين حتى صار يقعقع للاشتراكية بتلبيس جائزة نوبل على الكتاب الخوارج عليها. وكان ذلك يحزننا و"يشمت" فينا كل من هب ودب. ولا اعتقد أن زملاءنا الجنوبيين وفقوا بحرق اللوحة في طقس سياسي لافح. ومن سوغ لهم ذلك سوغ لمسلميّ بدفورد في بريطانيا حريقهم لكتاب "آيات شيطانية" لسلمان رشدي قبل أي جماعة مسلمة أخرى.
واستعدت يوم الحريق حين صرت في 1994 ضمن لجنة مكلفة بتصور محتوى أفضل لقاعة أفريقيا في معهد الأسميثونيان الفخيم بواشنطون. فقد تكاثرت شكوى الأمريكيين الأفارقة من صورة أفريقيا في تلك القاعة التي حملت وقت نشأتها في 1960 كل حزازات الغرب عن القارة. وكتبت لهم مرة عن تجربتي يوم الحريق. وقلت إنني تعلمت منها أن الفن يراوح بين قطبين: حرية تعبيره من جهة وحق الجماعات في صون هويتها. وهذا توتر معلق كالسيف فوق الفن في الغرب مع تبجحهم بأن حرية الفن هي عقيدتهم الخالصة لا تشوبها شائبة. فقال كاتب حاذق أن مسألة رشدي لم تكن عن لاهوت الإسلام بل عن ناسوته: ويعني هوية المسلمين في الغرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.