إبراهيم جابر يطمئن على موقف الإمداد الدوائى بالبلاد    قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    النصر الشعديناب يعيد قيد أبرز نجومه ويدعم صفوفه استعداداً للموسم الجديد بالدامر    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    ريجي كامب وتهئية العوامل النفسية والمعنوية لمعركة الجاموس…    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    فاجعة في السودان    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة أكتوبر 1964 في ماديسون ويسكونسون ... بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 01 - 11 - 2010


1-أكتوبر: سهد ليلة في سبتمبر 1963
احتفظت بالذِكر عن ثورة أكتوبر 1964 التي تركها لقائي في سبتمبر الماضي بالطلاب الذين يدرسون تاريخها بجامعة ويسكونسون إلى حين يأزف عيدها السنوي. ويقوم على الفصل الدكتور كليف تومسون الذي درّس بقانون جامعة الخرطوم أيام قيام الثورة وكتب يومياتها في مجلدين هما مقرره للفصل. وغرضه من الفصل، الذي انعقد لدورات ثلاث حتى تاريخه، أن يقف طلابه على ما بوسع مهنة القانون أن تقوم به من إحقاق الحق كما فعل ذلك جيل من القانونيين السودانيين في ثورة أكتوبر.
حضر اللقاء 8 طلاب من كلية القانون وتاسع شيخ من الطلاب الناضجين وتغيب اثنان أو نحوهما. وأقرب تجارب الطلاب من السودان طالبة سمحة اسمها جل رعت صبيين سودانيين من "الأطفال الضائعين" حتى اجتازا إجراءات اللجوء. أما الطالب الشيخ فهو موسوعة أسفار. فقد قرر بعد عودته من الحرب الكورية في 1954 أن يرى العشرة بلدان الأغزر سكاناً في العالم واستوفاها ما عدا البرازيل التي استعاض عنها بمكسيكو. وداعبه كليف قائلا:
-حدثتني زوجتى أن إدارة الجامعة قالت للطلاب العجائز أن يقتصدوا في الحديث في الفصل ليتيحوا الفرصة للطلاب الصغار ليعبروا عن أنفسهم.
وكان نقاش ثلاثة أو اربعة منهم حفياً مشغولاً وأسئلتهم ذكية.
عرَّفهم كليف بي بقوله إنني ترشحت لرئاسة جمهورية السودان. وميزت قوله حين اتيحت لي الفرصة للحديث بقولي إنه لولا ثورة أكتوبر لما عرفت طريقي إلى هذا الترشيح. فقد كنا نريد أن نزيل ديكتاتورية عسكرية ككل طلاب الدنيا. ولو لم تسقط قبل تخرجي من جامعة الخرطوم لربما قلت "هذا نظام جابو الله ويشيلو الله" كما عبر زميل لنا في معرض اليأس من الإطاحة به. وكان يمكن لي أن اتخرج من غير أن أشهد الثورة لولا ملابسات سترد. ولو لم اشهد الثورة طالباً لربما تناقص اهتمامي بالسياسية. فقد كنت أحب أن أكون ضابطاً بالحكومة المحلية. ولربما أخذتني تلك الوظيفة الغراء قديماً عن الانشغال بالسياسة. ولكن أكتوبر لمن شهدها مصداق لأن التغيير يقع. وقد يكون أكثر عمقاً من مجرد استبدال نظام بنظام: تغيير في القاع.
قلت للطلاب كان من المفروض أن أتخرج في أبريل 1964. وستجدون ما أخرني على صفحة 7-8 من كتابكم المقرر. فقد ورد فيه أن طلاب الجامعة نظموا في منتصف سبتمبر 1963 مظاهرة داوية في حفل التخريج المقام بميدان النخيل الزائف العتيق انسحبوا على إثرها منه. وقلت إنني كنت سكرتيراً للجنة الاتحاد التي نظمت الاحتجاج ممثلاً للجبهة الديمقراطية. وكان احتجاجنا المخصوص في هذه المناسبة هو قرار نظام نوفمبر ضم الجامعة إلى وزارة التربية والتعليم. واخترنا مناسبة التخريج لأنها وافقت إنعقاد مؤتمر مديري الجامعات الأفريقية الأول وقلنا سننتهز حضورهم الحفل لتكون ضربتنا للنظام أوجع. (للشفافية: كنت من ضمن الطلاب الذين أعانوا دكتور محمد إبراهيم الشوش، أستاذي، في التحضير لمؤتمر مدراء الجامعات ذلك).
وكان الاتحاد مجنوناً وعاقلاً. فعمم قراره بأن ننسحب بصمت ونغادر. ولكن ما بدا الإنسحاب حتى تصاعدت الهتاف بسقوط "عصابة 17 نوفمبر وإلى الثكنات يا عساكر". ونظرت إلى بؤرة الهتاف ووجدت من لم أخطيء حماستهما: الرفيقين سراج اللبني وعبد المنعم عطية. وسارعت أذكرهم باتفاق الانسحاب الصامت ولكن لم يوجد في الأرض يومها من سيسكت صوت الحق من على لسانهما خاصة وقد اكتنفتهما حلقة كبيرة تكيل للعصابة كيلاً بالربع الكبير وتريهما الباب إلى الثكنات. وعلمت أن الخرق اتسع الخرق. وأخذت أفكر في يوم غد الذي ستتخطفنا "الأحزاب" لخروجنا الشيوعي عن الخط. ناهيك عن الحكومة. ونمت أفكر.

2-ثورة أكتوبر 1964: كوبا كوبانا
قلت لطلاب جامعة ويسكونسن الأمريكية الذين يدرسون ثورة أكتوبر 1964 في زيارتي لهم في سبتمبر الماضي إنه لو مظاهرة 1963 (على صفحة 8 من كتابهم المقرر) لما حضرت الثورة في جامعة الخرطوم. وربما ساقني ذلك إلى إنشغال آخر غير الذي ساقتني إليه تجربة شهود الثورة والتبلبل فيها. وقلت أمس أن تلك الوقفة السياسية نظمها الاتحاد، وكنت سكرتيره عن الجبهة الديمقراطية، للاحتجاج على ضم الجامعة لوزارة المعارف. واخترنا لها مناسبة التخريج التي حضرها مدراء الجامعات الأفريقية ممن انعقد اجتماعهم الأول بالخرطوم.
ولم نقرر أن تكون المناسبة مظاهرة بل انسحاباً صامتاً محرجاً للحكومة. ولكن شاء الرفيقان سراج اللبني وعبد المنعم عطية أن يصخبا خلال الانسحاب فهتفا بسقوط عصابة 17 نوفمبر فصارت مظاهرة.ومن كان قريباً من رفيقنا السر مكي فليسأله أن يصف له كاريكاكتورياً كيف تناوب جسد اللبني وعطية وصوتهما في توقيع الهتاف وترويح النفس الشيوعية الغبينة. وكان نتيجة هذه التظاهرة أن تم إيقاف لجنة الاتحاد لمدة عام. وكان رئيسها هو المرحوم مجذوب سالم البر ومعه من الأخوان المسلمين على الحاج، وحافظ الشيخ، ومنير سالم الحكيم. وكنا من الجبهة أنا وبابكر الحاج ومحمد الأمين محمد نور وعبد الله محمد الحسن. ومن المستقلين حسن عابدين ومن الجبهة المتحدة على الخضر. ولو لم توقفني الجامعة لعام لتخرجت في إبريل 1964 وفاتتني الثورة.
قلت أمس إنني بت مسهداً ليلة المظاهرة. فقد خرق رفاق لنا بالاسم قرار الاتحاد وعلت عقيرتهم بالهتاف. وسنصحو وقد أصبحنا مضغة الأفواه السياسية تلوك إنتهازيتنا التي هي حرسنا من لينين او غيره. وكنت أعرف أنني الذي سأكتب بيان الجبهة لتوضيح موقفنا كما درجت. وكانت البلاغة وحدها هي حليفي للخروج من هذا المأزق الصعب. وقلبت العبارات في رأسي طوال الليل اتخير تلك التي تغطي على عيبنا وتستعطف الطلاب على مخطيء أواب. ولا اذكر بالطبع تحديداً ما كتبته. ولكنه بدأ بمثل: "إنه مما نأسف له في الجبهة الديمقراطية أن تحول انسحاب الأمس إلى مظاهرة على غير ما تواثق عليه اتحاد الطلاب. وإنه لمما يؤسفنا أكثر أن يقع هذا الخرق للميثاق بواسطة أفراد منا". وشفعت هذا الإعتذار ربما بوعد للطلاب أن نقوم من جانبنا بالتحقيق مع زملائنا لمعرفة أسبابهم للخروج على قرار الاتحاد.
عملت خلال هذا التبطل المفروض مدرساً للغة الإنجليزية بمدرسة الجمهورية الوسطى لصاحبها الشاعر عبد الحفيظ هاشم. وكانت تقع عند مقابر حمد النيل بعد فريق الصقور بأعلى حي بانت. وكانت عيادة عابدين شرف على شارع الأربعين هي معلمي الشهير فأنزل عنده وأتجه شرقاً نحو المدرسة. وكان المرتب (30 جنيهاً) وفيه فضل إلا من تأخر صرفه. وكنا ننتظر عربة عبد الحفيظ الموسكوفتش الخضراء طوال نهاية أيام الأسبوع الأول من الشهر حتى تعود من الخرطوم. فلربما وقع على مرتباتنا أو استلفها. وكان المرتب يأتي في قسطين غالباً. وكان من طقوسي بعد صرف أولها أن أغشى مطعم كوبا كوبانا بعمارة أبو العلا الجديدة بالخرطوم. فأطلب لحماً ثريداً والذي منه. وكان يغشى المطعم والبار موظفو السفارة الأمريكية في مكانها القديم على شارع الجمهورية. ويجلسون على الكراسي التي تحف بالبار. وكنت أنظر إليهم بيض بيض كمن ينظر إلى فيلم سينمائي.
وكانت تلك الفترة التي ثوثقت معرفتي ومحبتي بصديق العمر المرحوم عبد الله محمد الحسن. وكان اشتغل مديراً لإعمال علي دنقلا (لرابطة الحصاحيصا بينهما) المكول لها بناء بعض قرى حلفا الجديدة. وكان في بحبوحة من العيش: سيارة وكله. وانعقدت بينا محبة في أستاذنا عبد الخالق والماركسية (وكتاب الثامن عشر من برومير لماركس خاصة) عاجلها موته الفاجع عام 1975.
3- أكتوبر 1964: عذاب الحريق
حضرت في سبتمبر الماضي بمدينة ماديسون فصلاً لطلاب جامعة ويسكونسون يقوم عليه الدكتور كليف تومسون ويدرس فيه ثورتنا في أكتوبر 1964. وهيي ثورة شهدها تومسون وهو محاضر بقانون جامعة الخرطوم. وكتب عنها مخطوطة هي كتاب الفصل الدراسي. ولتقديم نفسي للطلاب قلت لهم سأختار من الشوط القليل الذي قطعتموه من كتابكم مشاهداً لعبت فيها دوراً ما كطالب بالجامعة وعضو في قيادة اتحادها آنذاك.
أشرت لهم على صفحة 13. قال تومسون فيها إن الجنوبيين رحبوا بفتح حكومة عبود باب النقاش العام في 1964 حول مسألة الجنوب. وكانت تريد بذلك تغطية إخفاقات جنوبية مشهودة لها آنذاك. وقال تومسون إن طالباً بجامعة الخرطوم كتب على الصفحة الأولى من جريدة "المورننق نيوز" يحتج لرفض الشماليين آراء الجنوبيين بشبهة أنها مما علمهم المبشرون المسيحيون. وقال الطالب إن أكثر قادة التحرر الوطني في أفريقيا من خريجي مدارس التبشير ولم يفت ذلك من عضدهم الوطني. وقال إن نسبة آرائهم إلى الكنيسة لا يعدو أن يكون ضيقاً منهم ذرعاً بتلك الآراء. وزاد تومسون بأن لكلمة ذلك الطالب الجنوبي خلفيات في الجامعة. فمنذ فبراير 1963 تدابر الطلاب الجنوبيون والشماليون. فأنسحبت جبهة الأوائل المسماة "جبهة رفاه الطلاب الجنوبيين" من الاتحاد برغم أنها لم يكن لها وجود في مجلسه أو لجنته التنفيذية.
وبعد فراغ الطلاب من قراءة النص من كتابهم قلت لهم: "أنا الذي اقف أمامكم هنا من تسبب في هذه القطيعة بصورة رئيسية". فقد كنت سكرتيراً للاتحاد في فبراير 1963. واتصلت بي قيادة جبهة الجنوبيين تحتج على لوحة بمعرض مقام بدار الاتحاد الحالية وطلبت نزعها. ووجدت في كتاب تومبسون وصفاً أفضل لما أزعج الجنوبيين من اللوحة. قال إن اللوحة "المسئية" صورت باخرة على النيل الأبيض. وفصَّلت في رسم من على الشاطيء وكان بينهم إمرأة جنوبية واضحة الحمل وعارية. وبدا كمن تلتقط طعاماً مما يلقيه نحوها ركاب الباخرة. ولما لم يقبل الطلاب الشماليون نزع اللوحة تجمع الجنوبيون ونزعوها من صالة العرض وخرجوا إلى الباحة الغربية من نادي الاتحاد وحرقوها في جمهرة كبيرة. ونسب تومسون الواقعة إلى الكبرياء الجريح لكل من الشماليين والجنوبيين. فالشماليون عدوا الحريق استفزازاًً وفوق مطلوب مثل ذلك الموقف. وكان من رأي الجنوبيين أن الشماليين، لو فكروا أصلاً في المسألة، ظنوهم احتجوا على حقيقة عرى أهلهم. ولكن ما أغضبهم حقاً ليس العري بل رسم إمرأة حامل بغير الخرقة التي عادت ما تستر بطنها. كما أنهم سقموا رسم الفنان لجنوبية تتكفف ركاب الباخرة وعدوها من الذوق الفاسد خاصة وكانت منطقة بور، التي رست عندها المركب، تعاني من مجاعة قارصة.
حقائق نزاع اللوحة حق. وتترآى لي تلك اللوحة اليوم كما رأيتها معلقة بالمعرض منذ 47 عاماً. ولا زلت أذكر بلوغي دار الاتحاد وقد بدأ تفرق الجمهرة الجنوبية وقد أنجزت حرق اللوحة بقيادة الشاب الشلكاوي الماكن أوثوان داك. وكان جاري بداخلية الدندر (أو الهند الصينية كما قال طالب زائر من ملاوي لكبرها فكثرة قاطنيها). وكانت في داك روح زعامة تسربت إليه من إرث "الرث" الذي هو في أسرتهم. وربما كان معه أمبروز بني، الذي صار استاذاً للغة الإنجليزية بجامعتي الخرطوم وجوبا، وبيتر جاتكوث الذي برز على دولة نميري وفترة التصالح مع القوميين الجنوبيين. وتوفي داك وبني اللذين امتدت صلتي بهما بعد الحريق وعرفت فيهما عزة وإنسانية مطاوعة وحباً باسلاً للسودان.
حقائق نزاع اللوحة حق. ولكن تأويلات تومسون له تحتاج إلى الاستماع إلىّ كشاهد على ما حدث.
3-ثورة أكتوبر 1964: the so-called الكانت السبب
قلت لطلاب بجامعة ونسكونسون يدرسون منهجاً عن ثورتنا في أكتوبر 1964 لدي زيارتي لهم إنني من "تسبب" في جفوة الجنوبيين للاتحاد في 1963 كما جاء في كتابهم المقرر. احتج الجنوبيون على لوحة بمعرض الاتحاد رأوا فيها تنقيصاً لهم كما ورد. ولما لم يلقوا من الاتحاد رداً شافياً نزعوا اللوحة عنوة وحرقوها. ورد كليف تومسون، كاتب المقرر ومدرسه، الواقعة إلى حساسيات شمالية جنوبية تاريخية. ولكني الذي شهدت الواقعة أعتقد أنها انطوت أيضاً على معان أخرى ليست "عربوإسلامية" بالضرورة.
تسلمت كسكرتير للاتحاد مذكرة بالإنجليزية موقعة باسم "جبهة رفاه الطلاب الجنوبيين" تحتج على وجود اللوحة في المعرض. وهذا التوقيع هو مربط الفرس كما سنرى. عرضت الأمر على لجنة الاتحاد. فأعترضت على الخطاب لأنه ليس من تقاليد الاتحاد أن تخاطبه المنظمات الطلابية "السياسية" باسمها عارياً. ولا أعرف للتقليد دلالة و لا بد أنه من أعراف التمثيل النسبي التي تطَّبع بها الاتحاد. وسيكون مثيراُ معرفة مغزى هذه السنة في أدب الخطاب في اتحادنا آنذاك.
كلفتني اللجنة بعد تداول قصير حول المذكرة بالرد على مقدميها بلفت نظرهم لسنة الحديث للاتحاد. وفعلت بقدر ما وسعتني إنجليزيتي. وأذكر أنني وصفت جبهة الجنوبيين ب"المزعومة" أو "so-called" وحسبت أنني بلغت الغاية في تبليغهم أن تنظيمهم كلاشيء في نظر الاتحاد مثله مثل أي تنظيم آخر. وأرجو ألا يتبرع أحد هنا ليرمينا ب"الاستعلاء" العروبي حيال أهل الجنوب. فقد كان من قادة الاتحاد غير عرب كثيرين. وتذكروا أن هذا الاتحاد نفسه الذي جعل قضية الجنوب قطب نشاطه حين رأى إسراف حكومة عبود في البطش بالجنوبيين. بل كان بينهم 4 من الأخوان المسلمين ما أدخروا وسعاً في حرب الديكتاتورية التي كانت تفرض التعريب والأسلمة في الجنوب في ما أتفق لي تسميته ب"البلدوية" بالنظر إلى بلدو مدير الإستوائية الذي أراد عكس همة الإنجليز فينشر العربية والإسلام حيث نشروا الإنجليزية والمسيحية. فلم "يزغلل" حتى التعريب والأسلمة البلدوية نظر الإخوان المسلمين عن النضال من أجل الديمقراطية.
مؤكد أنه كانت هناك خطط أخرى لمعالجة حكيمة للأمر. والقول بذلك تحصيل حاصل. لربما لو كانت إنجليزيتي أسلس لوقعت على عبارات ألطف. ولكني كنت من الجهة الأخرى من ضمن المطاليق، كتاب الجامعة وفنانيها، ولا استمزج أي دعوة لمصادرة أي عمل فني كان. وكنت شيوعياً طمت بطنه من أشكال التضييق السوفيتي على الكتاب والفنانين حتى صار يقعقع للاشتراكية بتلبيس جائزة نوبل على الكتاب الخوارج عليها. وكان ذلك يحزننا و"يشمت" فينا كل من هب ودب. ولا اعتقد أن زملاءنا الجنوبيين وفقوا بحرق اللوحة في طقس سياسي لافح. ومن سوغ لهم ذلك سوغ لمسلميّ بدفورد في بريطانيا حريقهم لكتاب "آيات شيطانية" لسلمان رشدي قبل أي جماعة مسلمة أخرى.
واستعدت يوم الحريق حين صرت في 1994 ضمن لجنة مكلفة بتصور محتوى أفضل لقاعة أفريقيا في معهد الأسميثونيان الفخيم بواشنطون. فقد تكاثرت شكوى الأمريكيين الأفارقة من صورة أفريقيا في تلك القاعة التي حملت وقت نشأتها في 1960 كل حزازات الغرب عن القارة. وكتبت لهم مرة عن تجربتي يوم الحريق. وقلت إنني تعلمت منها أن الفن يراوح بين قطبين: حرية تعبيره من جهة وحق الجماعات في صون هويتها. وهذا توتر معلق كالسيف فوق الفن في الغرب مع تبجحهم بأن حرية الفن هي عقيدتهم الخالصة لا تشوبها شائبة. فقال كاتب حاذق أن مسألة رشدي لم تكن عن لاهوت الإسلام بل عن ناسوته: ويعني هوية المسلمين في الغرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.