ونحن نتفيأ الظلال الوارفة لهذا الشهر الكريم ، شهر رمضان المبارك ، الذي هو شهر القرآن بامتياز ، خطر لي أن أكتب هذه الكلمة عن رجل من الرجال الذين خدموا درس الكتاب العزيز ، وذلك من باب التنويه به بوصفه عالماً مبرزاً في مجاله من علماء المسلمين بصفة عامة ، ثم خصوصاً لكون أن لهذا الرجل صلة ما بالسودان لم نستطع الوقوف بالكامل على كنهها بعد ، ولكون أن لتراثه العلمي – على الأقل – صلة بمناهج تدريس القرآن الكريم في بقعة بعينها في السودان كما سوف نرى لاحقاً ، وفي حقبة محددة من تاريخ تلك البقعة المشهورة بتدريس القرآن والعلوم الشرعية داخل السودان. هذا الشيخ الذي نحن بصدد الحديث عنه في هذه العجالة اشتهر بين المهتمين والمشتغلين والباحثين في علوم القرآن في السودان بلقبه " الدَنْفاسي " بدال مفتوحة ونون ساكنة. وقد وردت بشأنه إشارة وحيدة وفريدة في كتاب " الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان " لمؤلفه الشيخ محمد النور بن ضيف الله 1727 – 1810 م ، وذلك في معرض ترجمة ود ضيف الله للشيخ " عبد الله الأغبش " ، حيث أورد المصنف نصاً يفيد بكل وضوح بأنّ الدنفاسي هذا كان من ضمن تلاميذ الشيخ عبد الله الأغبش في مسجده ببلدة " الغبش " الواقعة غرب مدينة " بربر " بشمال السودان. ونص كلام ود ضيف الله في هذه النقطة كما يلي: " وأوقد نار القرآن في بربر ، ودرّس خلقاً كثيراً منهم الدنفاسي صاحب المنظومة الفي ( يعني التي في ) ضبط شكل القرآن ، ودفن ببربر وقبره ظاهر يزار " أ.ه ( انظر كتاب الطبقات لمحمد ود ضيف الله ، تحقيق البروفيسور يوسف فضل حسن ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، الطبعة الثانية ، 1974 م ، صفحة 280 ). ولما كانت بعض المصادر السودانية تؤرخ للشيخ عبد الله الأغبش بأنه عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين ، حيث يعتقد أنه قد ولد في سنة 940 هجرية الموافقة لحوالي عام 1544 ميلادي ، وتوفي في سنة 1077 هجرية الموافقة لحوالي سنة 1670 ميلادية ، فبذلك يكون الدنفاسي قد عاش في ذات الحيز الزمني تقريبا ، مع مراعاة أن التلميذ يكون عادةً أصغر سناً من أستاذه أو شيخه بطبيعة الحال. وكنت قد قرأتُ إشارة ود ضيف الله في طبقاته للشيخ الدنفاسي هذا ، وخبر تتلمذه على الشيخ عبد الله الأغبش ووعيتها تماماً منذ عدة سنوات. وقبل أعوام قليلة قرأت أيضاً مقالاً في إحدى الصحف السودانية لأحد أبناء الغُبش المثقفين من حفدة الشيخ عبد الله الأغبش المذكور ، تعرض فيه على ما أذكر لسيرة الشيخ الدنفاسي بما يرجح هويته السودانية. ثُمّ إني نسيت هذا الأمر زماناً ، أو بالحري انشغلت عنه بأمور أخرى. حتى إذا ما جاءت بي ظروف العمل إلى السنغال ، جمعتني صدفة سعيدة بشيخ سنغالي حافظ مجود لكتاب الله ، بل كثيراً ما يُدعى لكي يكون أحد المحكّمين في مسابقات حفظ وتجويد القرآن الكريم في السعودية والإمارات وليبيا والمغرب وغيرها من بلدان العالم الإسلامي. هذا الشيخ السنغالي الجنسية الذي قابلته لأول مرة بداكار قبل نحو عام من الآن يسمى الشيخ " محمد بوسو ". وفي أثناء تجاذبي أطراف الحديث معه في تلك المناسبة التي قابلته فيها ، ذكرت له طرفاً مما أعرف عن إسهامات العلماء السودانيين في مجال الدراسات القرآنية ، وجئت عرضاً بخبر الدنفاسي على نحو ما كنت قد قرأت عن هذه الشخصية في كتاب الطبقات ، على الرغم من أن الإشارة إليه في ذلك المرجع كانت مقتضبة للغاية ، فضلاً عن أنّ المحقق نفسه ، بروفيسور يوسف فضل ، قد علق على اسم " الدنفاسي " على الهامش في أسفل ذات الصفحة بقوله: " لم أعثر على خبر له ". وللمفاجأة السعيدة قال لي الشيخ بوسو إن بحوزته منظومة الدنفاسي في متشابه الآيات ، فطلبت منه على الفور أن يصور لي نسخة منها ، وهو ما قد فعله مشكورا. وبالفعل وافاني الشيخ الفاضل محمد بوسو بنسخة مصورة من كتاب جمع جملة من النصوص في علوم القرآن ، من منشورات " مكتبة النجاح " بطرابلس بليبيا في عام 1992 م. و كانت النسخة الأصلية من هذا الكتاب نفسه عبارة عن هدية أُهديت للشيخ محمد بوسو في عام 2005 م ، من قبل زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر الفيتوري بمدينة زليطن بليبيا. وقد جاء عنوان الكتاب ، نسبة لما احتواه من متون كثيرة طويلاً هكذا: " التسهيل في رسم وضبط كلمات التنزيل ، ويليه: تذكرة الولدان في حذف الإشارة لكلمات القرآن ، ويليه: الجوهر اللطيف في معرفة المحذوف من الأليف للشيخ علي الجكاني ، ويليه: متن العلاّمة سيدي محمد إبراهيم الدنفاسي ... ". شجعني حصولي على نسخة مصوَّرة من متن الدنفاسي وفتح شهيتي للبحث عن ترجمة وافية لهذا العالم الجليل ، فلجأت للشيخ: " غوغل بن الأثير العنكبوتي !! " ، الكائن بموقعه على شبكة الانترنت ، إلا أن هذا الأخير لم يخرج لي عما بصدره عن هذه الشخصية الغامضة إلا النذر القليل الذي لا يشبع نهماً ، ولا يروي غلة. وهكذا على سبيل المثال ، وقعتً في موقع " الملتقى المغربي للقرآن الكريم " www.maroc-quran.com ، وقعت على سؤال سأله أحد المتصفحين ، يطلب فيه من أهل ذلك الموقع ورواده أن يضعوا منظومة الدنفاسي في المتشابهات ، لأنه – كما قال – قد بحث عنها طويلاً ولم يظفر بها. فرد عليه قارئ من ليبيا، وتبرع بتصويرها وإرسالها له بالبريد. ومما جاء على سبيل التعريف بالشيخ الدنفاسي بقلم أحد القراء في ذات الموقع ما يلي: " أما بالنسبة للشيخ الدنفاسي ، فلا علم لي بترجمته ، ولكن حسب علمي فلقبه الداني ، أو سمي الداني لغزارة علمه وسعة اطلاعه على علوم القرآن والقراءات تشبيهاً له بالإمام الداني المعروف. ويسمى بداني المغرب ، ونسبته من فاس. فوقع الجمع في كنيته بين الداني والفاسي ، حتى قيل: الدانفاسي ، وقد عرف واشتهر بهذا الاسم " أ.ه . من الواضح أن هذه الرواية ترجح أن أصل الدنفاسي مغربي ، بل من مدينة فاس تحديدا. بمعنى أن لقبه مركب تركيباً مزجياً كما يقول أهل البلاغة من لقبي الداني والفاسي. وفي موقع الكتروني آخر يسمى: " شذرات شنقيطية " www.Chatharat.com وأحسب أنه موقع موريتاني ، يوجد متن الدنفاسي منشوراً ، ومصدّراً بالتعليق التالي: " هذا نظم للشيخ محمد بن إبراهيم الدنفاسي ، وهو في متشابه القرآن ( متشابه الرسم والنظم ) ، وهذا النظم يعتمد عليه الليبيون كثيراً في ضبط المتشابه .. الخ " أ. ه أما سر اهتمام الليبيين خاصةً بمنظومة الدنفاسي كما لاحظنا ، بدليل حرصهم على طباعتها ونشرها ، فلأنّ هذه المنظومة قد شملت متشابه الآيات ، وكذلك علم الرسم على رواية ورش. والمعلوم هو أنّ الرواية السائدة في ليبيا هي رواية قالون عن نافع المدني، فكلا الروايتين مصدرهما واحد، ومن هنا جاءت عنايتهم بها. وهل تكفي حقيقة تركيز منظومة الدنفاسي على الرسم بحسب رواية ورش وحدها دليلاً على استبعاد سودانية الدنفاسي هذا ، أو – على أقل تقدير – نفي أية صلة له على نحو ما كأن تكون تلمذة أو أخذاَ عن شيوخ سودانيين ؟. كلاّ بالطبع. ذلك بأنّ الشيخ عبد الله الأغبش ، أستاذ الدنفاسي بحسب الروايات السودانية ، هو تلميذ الشيخ محمد بن عيسى سوار الذهب ، والشيخ سوار الذهب وأحفاده وتلاميذه لهم تراث عريق وثابت تاريخياً ومستمر إلى يوم الناس هذا في تحفيظ القرآن برواية ورش عن نافع ، بخلاف سائر انحاء السودان التي كانت جميعها ، وما يزال بعضها يقرأ برواية أبي عمر الدوري عن أبي عمرو بن العلاء البصري. أما منطقة دنقلة حيث موطن الشيخ سوار الذهب الكبير ، علاوة على بعض مناطق دار فور فإنها تقرأ برواية ورش عن نافع. هذا ، ولفائدة القراء نود أن نجتزئ من منظومة الإمام الدنفاسي هذا المطلع على سبيل المثال فقط ، وللتبرك أيضا: الحمدُ للهِ الذي هدانا لدينهِ القيومِ واجتبانا ثم صلاةُ الملكِ الوهّابِ على النبي المرسل بالكتابِ وبعدَ حمدِ الطاهر الودودِ أذكر هذا النظمَ بالفرودِ فقلتُ في ابتدائي يا إلهي مصليّاً على النبي الأوّاهِ إنّ الحيواةَ أُفردتْ بالنصبِ إثنا عشر معدودةً في الكُتْبِ في البكر والنساء ثمّ النحلِ وهود وابراهيم فافهمْ قولي ( أثبتها الناسخ هكذا البكر فهل المقصود هو الحشر ؟، إذ ليس هناك سورة تسمى البكر ) وطه والقصص مع الأحزابِ والنجمِ والملكِ بلا ارتيابِ .. الخ. ومهما يكن من أمر في الختام ، فإنه ما يزال هنالك في تقديرنا ، الكثير من البحث والتنقيب الذي يتعين على الباحثين السودانيين خاصة القيام به ، من أجل تسليط المزيد من الأضواء على شخصية الشيخ الدنفاسي هذا ، واستجلاء طبيعة صلته بأرض السودان.