تفكيك الواجهات والحفر خلف الأسطح يقدم كتاب(مهارب المبدعين _قراءة في السير والنصوص), الصادر عن مدارك 2010 ,لمؤلفه د.النور حمد,محاولة باصرة لتلخيص أسباب ونتائج الهرب الذي وسم خيارات وأقدار النخب المتعلمة والمبدعة في السودان لعقود من الزمان.ويلخص الكتاب أسباب الهرب في عدة محاور أهمها:نوع التعليم الحديث الذي أعقب أنهيار الدولة المهدية.وسيطرة المؤسسة الفقهية وأنفرادها بالأمر,والقبضة الطهرانية الكابتة,وتحولاتهما اللاحقة إلى فقه مدرسي رسمي مجلوب وتصوف مزيف متزلف.وبالتالي ضيق ماعون الحواضر السودانية وحنبلية الثقافة وما لازمها من خفض فادح لمساحات الحريات الشخصية.وما ترتب عليه مجمل الأمر من خنق ثقافي ووجداني تعددت أشكاله فطغت وأبهظت. ووفقاً لذلك فقد تعددت أنواع الهرب وجيوبه,بين هرب نفسي وجداني تمثل في خلق مساحات وهمية للتيه والخدر والتغافل وأنماط الحيوات التحتية,وحالات الفصام بين السر والعلن.وهرب مادي تحول لاحقاً من هروب فردي إلى خروج جماعي ملحمي,بحثاً عن ملاذات وبراحات تستوعب طاقات المبدعين العقلية والوجدانية الحبيسة.وهكذا فقد تحول الهرب من نتيجة إلى سبب منتجاً بدوره سلسلة من الأزمات المتناسلة,كان من أفدحها الإنسحاب وعدم منازلة السائد والسالب المستمكن في بنية المجتمع, الذي ظل سادراً في غلوائه المزمن(يؤله صنم القطيع ويعبد الموروث ويجتث المنمازين عن القطيع).وهو متحالفاً ما أدى بنا إلى النكال العظيم الذي ظللنا نعيشه حتى يومنا هذا,أو بكلمات المؤلف (ما أوردنا جميعاً موارد الهلاك...وأدى إلى تبعثر تجربتنا الفكرية والسياسية). وعلى الرغم من ذلك فأن الكتاب لا يجنح إلى الأدانة والتجريم وعقد المحاكمات,بقدر ما يحاول الغوص عميقاً وراء الأسطح في تنقيب شاق عن الأسباب التي أقعدت النخب المبدعة والمتعلمة,وغلت أيديها عن إحداث تغيرات إيجابية نهضوية أصيلة ومعاصرة.عارضاً كمثال على ذلك أحد الأسباب الهامة التي لازالت تسهم في إجهاض وتبعثر الجهود المضطردة لتحقيق حالة سودانية متناغمة ,وهو إنفصال السودان عن مرتكزه الحضاري النوبي والأفريقي,وتنكبه بالتالي لطريق (التناقض الآريكلوجي وتناطح الأرث الحضاري), المربك للوجدانات والمهلك الطاقات.كما جاء في التقديم المضيء الذي أعده الأستاذ عبدالله الفكي البشير للكتاب. ونجد ان الكتاب يقف طويلاً ليعيد التدبر في قضيتين مركزيتين هما نوعية التعليم ,والنخب المتعلمة من أهل الفكر والأبداع التي يتم تفريخها بانتظام عبر خطوط إنتاج تمثلها مناهج ذلك التعليم وأهدافه.وأجتماع تلك النخب بشكل أو بآخر على (الهرولة إلى الطائفية ليضعوا طاقاتهم تحت تصرفها).وتلك تحديداً هي النقاط التي وددنا لو ان المؤلف كان قد مد يد فكره الطولى واستدلاله واستقصائه البحثي الصبور,ليفتح عبرها آفاق الملاقحة الفكرية,والتي كانت حتماً ستتحول إلى اضافة معرفية متنورة,وحوار منتج ومؤنس وفارع الوسامة والدسامة مع كتاب آخر صادر عن مدارك 2008 للأستاذ كمال الجزولي بعنوان (إنتلجنسيا نبات الظل _باب في نقد الذات الجمعي).علماً بأن د.النور حمد كان قد استعان بأقتباس من الكتاب المذكور في سلسلة مقالاته(لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل:8).غاية الأمر أن استدعاء كتاب الجزولي للتحاور والأسترفاد المتبادل كان من شأنه أن يقدم ,مع جهد د.النور الرصين وفحصه المتمهل للحالة السودانية, صورة أكثر تفصيلاً واكتمالاً ووضوحاً عن جذور ما ظللنا نعايشه حتى الآن من شقوة مستفحلة ولعنة كاسرة,ترسخت عميقاً في تربة الماضي,لتستمر في إنتاج مواسم قحط سودانية متناسلة.اضافة لتزويد القاريء بكل مفاتيح الفهم اللازمة,ليرى عبر مدد من الأفكار المرتبة المسنودة بالمراجع والشواهد,كيف أن السوس قد أُضرم باكراً في سنابل ممكناتنا القادمة. فالكتابان يقدمان أفكاراً قيمة تولدت من التحديق البكر وفضيلة الأرتياب واللاطمأنينة الخلاقة,التي لا تستنيم للخفة وابتلاع غبار المسلمات,والتسلي بالفرجة على أسوار المفاهيم المسيجة.ولكنهما ينخرطا بعزم في إشتغال فكري أصيل,للنفاذ عميقاً وراء الواجهات الصلدة الصقيلة,ولنزع الأغطية عن المضمر المصمت المتجذر في بنيتنا القومية بأبعادها الثقافية والأجتماعية والسياسية.ولبذل قراءة فاحصة متدبرة تكشف الوعي الحاد بالواقع بكل أشكالاته المبهظة.حيث تتقاطع في كلا الكتابين روافد معرفية متعددة,من الفكر السياسي والفلسفة وعلم النفس والأجتماع والأناسة والتربية وفلسفة التعليم. ففي كتاب (إنتلجنسيا نبات الظل)يجزل الكاتب في تقديم أمثلة مبينة على ما انتهى اليه حال التعليم,المنتج للهاربين عبر الحقب,حسب د.النور حمد,فيشير أستاذ كمال الجزولي إلى استشراء الأستلاب النظري,ليصبح(الأستقواء بالعلم معولاً لتحطيم واقصاء المعرفة الحقيقية).حيث (يجري تصوير العلم نفسه كمصدر استولاد للمعرفة اليقينية,لا التجربة أو الخبرة الوجودية الأنطلوجية التي تأخذ في أعتبارها مجموع الشروط المكونة للفعل المعرفي المقبول إجتماعياً).ليورد بعض النتائج السالبة لذلك الوضع المقلوب حيث (أصبح المفهوم هو الذي يتحكم بالواقع و يخضعه,بدل ان يخضع هو للواقع ويتطور في ضوئه). كما يتفحص الكتاب بانتباه سديد وعناية جمة ما أسماه د.النور بالهرولة إلى الطائفية,وهو بعض ما أطلق عليه الأستاذ كمال الجزولي سيكلوجية نبات الظل.والتي هي نتاج ل(تكون الخصائص الإيدلوجية والقدرات القيادية السياسية للطبقة الوسطى السودانية تحت ثقل السلطة المعنوية لمنظومة القيم الإجتماعية التقليدية,الرعوية بالأساس,فدمغتها ,وبخاصة طلائعها,بالضعف الذاتي الذي ظل يتمظهر دائماً في احتياج تعبيرها الفكري والسياسي للتحرك تحت مظلة).وقد قدم الكاتب أمثلة متعددة لتلك الحالة السيكلوجية المؤسية التي(لا تورث ,في العادة,سوى قصر النفس,وسطحية التصورات,وهشاشة البناء الفكري,وسرعة فقدان الثقة بالنفس).وهو ما ظل يدفع بالنخب الأكاديمية والتكنوقراط إلى الأستقواء بالطائفية,إلا من رحم ربك,ذلك أنها نخب عظيمة الشك في قواها الذاتية,عجولة للتهادن ووطء عتبات الجاه و(حرير النظام),والهبوط السريع الآمن على ذرى الطموحات الكبار, ,فلا تجد سوى أن(تهرع إلى مظلة النفوذ الطائفي..ليصبحوا وكلاء سياسين للزعامات الطائفية)ولإنقلابيي العسكريتاريا على حد سواء. وكما ان د.النور حمد كان قد عاد ليتقصى أسباب أنبهام الرؤية السودانية التي قذفت بنا لاحقاً وبلا هوادة إلى إعادة تدوير الإخفاقات والأزمات وتيه المونولوج وغيهب العزلة,وذلك بتفحص عدة عوامل منها نوعية التعليم الذي أعقب الدولة المهدية, فقد قدم أ/كمال الجزولي في كتابه كذلك رؤية مكتملة الأركان عن تلك المسألة المركزية.وهو يورد فيما عرض من حجج ومراجع وشواهد أقتباساً مهماً عن عبدالمجيد عابدين,دراسات سودانية1972 يصف فيه نوعية التعليم المتربولي الحديث (أضحى التعليم في السودان كشكولياً لا يعرف التعمق,ولا يتجه إلى تكوين الشخصية المجتهدة المتصرفة,وإلى الجوانب الحية المتصلة بالبيئة والمجتمع,وبهدف التوظيف قبل التثقيف).ليسوقنا الكاتب خطوة بخطوة حتى نرى بأم اعيننا كيف نشأت وعاشت الإنتلجنسيا السودانية منقسمة وموزعة بين ثنائيات متناحرة ,غردونيين ومعهديين كانت, أو أفندية ومولانات (غامت في تناقضاتها كلتا بصيرة التدين وأستنارة الحداثة واستحالتا إلى محض مثار لنقع الحزازة وتصفية الحسابات.فأضحت مرجعية الدين عند أحد القبيلتين تخلفا رجعياً بالمطلق,مثلما اضحت مرجعية الحداثة عند الأخرى فسوقاً علمانياً بالمطلق أيضاً,من يوم الناس ذاك إلى يوم الناس هذا).وهو ما يعبر عنه د.النور حمد بكلمات أخرى فيصفه ب( حبس البلاد والعباد في دوامة النكوص والتراجع). لتتكامل بذلك خلاصة الأفكار التي انتهي إليها أستاذ كمال الجزولي ود.النور وهما يصعدان باتئاد وبصيرة من الوقائع إلى الأفكار,ليتتما قراءتهما المتمكثة النافذة للواقع الملتبس والمأزوم.وليطلقا عبرها حزم أفكار وطاقات للتشكك واعادة التفكير والتنادي للسبر والبحث والتدارس.و(صدم انفسنا بالحقائق),والحض على الأشتباك الفكري والمعرفي الأصيل,لوجه الإلمام بثقوب الذات وبذل الوعي والتنوير من أجل رتقها.ولأجل الأسهام في تخليق مناخ لتغيير إيجابي, يرجو الكاتبان في منجزيهما ان نستطيع إليه سبيلا,بالأنفلات أولاً من قبضة (القيود القواتل) من أفكار محنطة ومقولات تبسيطية مهادنة وحمالة أوجه,ولمساءلة السائد ومصادمته,والحفر والتنقيب وراء الواجهات اللامعة المخاتلة,والأنبراء المتبصر لتحليل المشهد العبثي الفجائعي الراهن وإطفاء لعنته. Lemya Shammat [[email protected]]