في واحدة من محاضراته المشهودة في مادة الإدارة الهندسية بالسنة الرابعة بجامعة الخرطوم حاضرنا الدكتور المهندس المستشار مدثر سليمان محمد علي، ونشهد للرجل بأنه ذو علم غزير، و اطلاع واسع، ولئن حاضر في موضوع واحد في ثلاث ليال مختلفة لكانت كل ليلة موضوعاً بذاته.. في واحدة من محاضراته عن عقود التشييد انتقد عقد تشييد كبري النيل الأبيض حينها والذي كان يعاني تأخيراً ومشاكل بين المقاول الصيني وحكومة السودان.. انتقده قائلاً إن ذلك العقد لا يصلح أن يكون عقداً لتنفيذ فيلا سكنية دعك من أن يكون عقداً عالمياً لتشييد كبري. حسناً.. ربما لا يتذكر الدكتور تلك الحادثة، لكنها وقعت على كل حال.. وكنت قد فاوضت وأبرمت وبصمت ونفذت العشرات من عقود التشييد التي يكون طرفها الأول الحكومة بمسمياتها ووزاراتها المختلفة ممثلة في إدارتها القانونية، والحق يقال.. كانت كلها تتسم ببنود الإذعان في فقراتها الأساسية من طريقة الدفعيات والضمانات وحق الحكومة في إنهاء العقد، ويشوبها الضعف وكثرة الثغرات في فقراتها القانونية والهندسية مثل حق المقاول في التعويض والمطالبة بالزمن الإضافي وتغيّر الأسعار والأعمال الإضافية.. وكان كل عقد من تلك العقود ينتهي نقاشه مع المستشار أو المستشارة القانونية بعبارتهم الشهيرة.. هذا عقد ثابت فإما أن توقع وإما أن تترك المشروع.. (بس على ايه.. كنت ببصم كمان). وكانت قد طالعتنا أسرار الأربعاء بالصفحة الأخيرة لصحيفة آخرلحظة بخلاف هندسي بين شركة سكر النيل الأبيض وأحد المقاولين حول تشييد محطة الكهرباء، ومن غريب الأمور أن يكون خلاف كهذا يتم تداوله تحت خانة الأسرار.. ولم أسمع به من قبل إلا في تلك الصحيفة رغم متابعاتي لهكذا مواضيع وتخصصي في هذا المجال.. ومن الأغرب أن تكون لجنته التحكيمية برئاسة قانوني هو عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم وممثل أحد أطرافه محامي شهير وممثل المالك نقيب المحاميين ولا يأتي ذكر للمهندسين في مشروع هندسي من الدرجة الأولى إلا باسم واحد وقد تم كتابته خطأ وهو المهندس الأخصائي صلاح عجباني . ويأتي استغرابي من وجود هذه الشخصيات في لجنة تحكيم منطقياً ومدعوماً بحيثيات معقولة، إذ أن العقد محل النزاع عقد تشييد منشأة، وهو عقد هندسي بالدرجة الأولى، ويفهم مدلول كلماته ومنتهى عباراته المهندسون المحترفون أكثر من القانونيين، ويصلح أن يكون فيه حكماً وقاضياً لمشارطة تحكيمه مهندس متخصص في الإدارة الهندسية وعقود التشييد والتحكيم لا قانونياً يحتاج لأيام وليال ليتم شرح بعض فقرات وإشارات عقود الفيديك له (FIDIC)، ومهمّاً أن يكون ممثل كل طرف فيه مهندساً ضليعاً حاذقاً بخبايا الأوامر التغيرية Variation Orders والشكاوي التعويضية Claimsولجان فض النزاعات DAPS لا محامون أو قانونيون يحتاج كل واحد منهم لما يسمونه (فتوى خبير) حتى يستطيع أن يوازن بين البيّنات . ومجمل النقاش الذي سيدور في جلسات التحكيم فيه ذو طابع هندسي فني متخصص يتم من بعد إنزاله على القانون المتفق عليه للتحكيم سواء أكان ذلك القانون سودانياً أو غير ذلك، فكان من الأصلح أن تكون الأفرع الرئيسية للمحكمين من المهندسين الحاذقين ولا بأس أن يكون مساعديهم من القانونيين.. لكنه الضعف عموماً في عقود التشييد الذي تحدث عنه الدكتور مدثر سليمان، والإهمال واللامبالاة التي تدار بها عقود التشييد في البلاد. لجنة كهذه يتوقع أن يطغى فيها النقاش والجدال القانوني من شاكلة أطالب بأقصى عقوبة أو أطالب ببراءة المتهم.. يطغى فيها ذلك الجدال بدلاً من إعمال وإنزال الاتفاق والعقد على أرض الواقع ومحاولة رفع الضرر عن المتضرر واقناع المتسبب بالضرر (بعوجة رقبته). لجنة كهذه يتوقع أن يعاني فيها المهندس الأخصائي صلاح عجباني مر المعاناة إن كان هو الممثل الوحيد للمهنة فيها.. لجنة كهذه أتت بشكلها ذاك لأن المفاوضات الأساسية لتوقيع العقد يتوقع أنه كانت بين القانونيين والمقاول.. وليعلم الجميع أن ما يوقع عليه المقاول السوداني ويسكت عن حقوقه فيه جلباً لمصلحة أخرى، لا يوقع عليه أي مقاول في مشروع عالمي بعقد نموذجي إلا وهو يكون ضامناً لنقاط الضعف فيه التي تمكنه من الاعتراض والمطالبة بتلك الحقوق بعد بداية التنفيذ. أنا لا ألوم القانونيين ولا أقلل من قدر الشخصيات الواردة في اللجنة، فإنما هم يصيغون تلك العقود ببنودها الإذعانية تلك لأنهم يمثلون مؤسساتهم التي تدفع لهم الرواتب من أجل حماية حقوقها.. ولكني ألوم الإدارات الهندسية بالمؤسسات الحكومية والوزارات ذات الطابع الهندسي والكيانات الهندسية المختصة بذلك الأمر، ألومها لأنها تظل متفرجة وكأن الأمر لا يعنيها وهي تعلم أن كل عقد من تلك العقود عبارة عن قنبلة موقوتة صالحة للانفجار مع أول مقاول أجنبي (مركز أركويت الثقافي مثلاً) أو مع أي مقاول محلي (قنع من خيراً فيها). أدعو القانونيين لتقبل الأمر بصدر رحب والمهندسين ذوي الاختصاص للمبادرة بالطرق على الموضوع وتكوين ورش للعمل لبحثه وثقتي كبيرة بأن الأمر سيرجع إلى نصابه ومحصلته الأخيرة والنهائية ممارسة علميه لهذا الضرب المهم من ضروب المعرفة.. إدارة عقود التشييد والتحكيم الهندسي.. ولمن أراد أن يرى عقود التشييد على حقيقتها، والتحكم الهندسي على أصوله .. ولجان فض النزاعات (الما خمج) .. (وقومة الناس وقعدتها في حرف).. من أراد ذلك عليه أن يراجع تجربة الإدارة العامة للعقود بمشروع سد مروي.. أين أنت سيدي الدكتور أحمد الطيب؟! لماذا لا تتحدث! أين أنت سيدي الباشمهندس علي أحمد علي؟! لماذا لا تشارك؟ سيدي الوزير أسامة عبد الله.. أرجوك.. أطلق سراح بعضاً من هؤلاء ليتحدثوا فقط.. علّ الناس يعلمون بأني ناصح لهم .. وأنني لست من الكاذبين.