كلما مر علينا الحادى عشر من سبتمبر ، وجدنا أنفسنا فى خضم تفاعلات عالميه تكتنف ذكرى ذلك اليوم وذكرى تلك الكارثه التى هزت أركان العالم ، وقلبت الكثير من الموازين فى علاقة العالم الإسلامى بالولاياتالمتحده، وكل البلدان الغربيه ، بالنظر إلى أجواء الصدام والمواجهه التى خلقتها ظروف ذلك العدوان غير المسبوق على مدينتى نيويورك وواشنطن. فى عصر الحادى عشر من سبتمبر 2001 ، بتوقيت العاصمه الزامبيه، لوساكا، كنت فى مكتبى التابع للأمم المتحده أؤدى بعض الأعمال الروتينيه ، وفجأة دخلت إلى مكتبى السكرتيره ، السيده كاثرين قوندوى، وعلى وجهها سمات الفزع والإنزعاج الشديد ، وهى تقول لى أن هناك " نوعآ من الحرب نشبت فى الولاياتالمتحده.. وبالتحديد فى مدينة نيويورك" . ولم تزد على ذلك وعادت مسرعة مفزوعة إلى مكتبها المجاور لمكتبى . وحتى أقف على ما ابلغتنى به ، لم يكن أمامى سوى الإسراع إلى مقر سكنى المجاور للمكتب لمشاهدة التلفزيون . وهالنى ذلك المنظر الرهيب الذى رآه مئات الملايين حول العالم فى تلك اللحظه... بانهيار برجى مركز التجاره العالميه فى نيويورك. فى واقع الأمر، لم يكن بوسعى وقتها إستيعاب الحدث لغرابته وجسامته وما أدى إليه من ضحايا كانوا فى ذينك البرجين يؤدون أعمالهم ، ويتطلعون إلى إنجاز أعمالهم اليوميه من تلك البقعه الهامه والإستراتيجة فى الإقتصاد الأمريكى والعالمى . غير أننى فى تلك اللحظات شعرت بأنى أشهد زلزالآ يهز كيان العالم ، وحدثآ مفصليآ لن يعود العالم بعده كما كان...! كما خالجنى الإحساس القوى ، بأن رد الفعل الأمريكى على الذين دبروا ذلك الهجوم الفظيع ، سيكون ساحقآ وماحقآ وقويآ ، مما سيخلق تداعيات غير مسبوقه فى مفاهيم إستخدام القوة على الساحة الدوليه. وساورنى الحس الغامر بأن الأعمال التخريبيه والإرهابيه على الساحة الدوليه ، لم تعد تصرفات محدودة المكان والأثر، بل أنها صارت حروبآ مفتوحة الأفعال وردود الأفعال، ولن يسلم من شظاياها الأبرياء الذين لا ناقة لهم و لا جمل فى تلك الإحداث الجهنميه. وحتى نرى المضاعفات المهوله لذلك الهجوم الرهيب ، الذى وقع فى الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، علينا ان نستجمع معآ بعض الخواطر المرتبطه بذلك أولآ:عندما أعلنت القاعده بقيادة أسامه بن لادن مسئوليتها عن ذلك الهجوم، تم تصنيف مدبرى الهجوم ومنفذيه فى خانة " الغزاة المسلمين"...الذين يدفعون الكل على طريق الصدام والمواجهه، ليس من منطلقات المواجهه العسكريه التقليديه، ولكن من خلال عمليات الأراضى والسماوات المفتوحه. وهكذا أصبح ميدان المعركه بين هؤلاء وبين الولاياتالمتحده وحلفائها، ميدانآ مفتوحآ لا تحده حدود، ما دام الذين أعلنوا مسئوليتهم عن الهجوم يدعون أنهم " مقاتلون بلا حدود"!! وفى ذات الوقت سارع أهل العقل والحكمه من مفكرى وساسة المسلمين وإعلامييهم ، لفرز أفكار وممارسات المهاجمين عن الفكر والممارسات الإسلامية التى تعبر عن روح الدين الحقيّقيه التى ترفض العنف والعدوان. غير أن الجو كان ملبدآ بالغيوم الكثيفه والتى حالت دون سماع ذلك الصوت. وبالطبع فقد إتضح أن العناصر صاحبة التطرف ، كانت تحاول دائمآ التشويش على أى جهد يجنح نحو توضيح الإسلام الصحيح الذى يحتكم إلى الوسطية والتعايش مع الأديان الأخرى ولا يعتدى على الأبرياء من الناس. ثانيآ: تبين للغالبية العظمى من المسلمين ، كما عبر عن ذلك جمهور المفكرين المستنيرين، أن الذين اختطفوا تلك الطائرات واستخدموها فى ذلك الهجوم، كانوا - فى نفس الوقت - قد اختطفوا معهم الصوره الحقيقيه للإسلام، وبدلوها بأخرى تنفر الناس فى العالم عن ذلك الدين، وتخدم غلاة المتطرفين فى الأديان الأخرى الذين هم أيضآ يعانون من آفة التطرف ، ويتحدثون عن صدام حتمى بين الحضارات. وكل هذا ، كما يرى الناس الآن، أدى إلى تفاقم ما يعرف إصطلاحآ بظاهرة " الإسلاموفوبيا" فى الولاياتالمتحده والمجتمعات الغربيه، وفحواها خوف شعوب تلك البلدان من خطر وهمى قادم من جهة المسلمين. ولا يخفى على أحد تلك التطورات المتعلقه بالتشدد الكبير فى إجراءات الدخول والإقامه والسفر بالنسبه للمسلمين والعرب فى الولاياتالمتحده والبلدان الغربيه . الأمر الذى صاحبته المزيد من إجراءات التحقق والتحوط، وتكثيف النشاط الأمنى فى مواجهة المسلمين الذاهبين إلى تلك الدول، وما يصاحب ذلك من تعطيل المصالح. وكل هذه الإجراءات لم تأت من فراغ، لأن الأجهزه التشريعيه والتنفيذيه والإعلاميه طالبت بها . ومن المؤسف حقآ أن تلك الإجراءات ستظل قائمة لمدى طويل قادم، وفيها يكون الإنسان مصنفآ فى دائرة الخطر المحتمل ، لمجرد إنتمائه لدين معين! ومما زاد الطين بله، أن أحداثآ مؤسفة أخرى وقعت فى لندن فى يوليو عام 2005، وأدت إلى تعزيز مشاعر " الإسلاموفوبيا " فى أوربا ، ودفعت بالعناصر الأروبية اليمينية المتطرفه للتحذير من " المسلمين " بشكل عام ، وليس من " الغلاة والمتطرفين" بشكل خاص. ثالثآ: لقد أصبح حصاد "الحرب على الإرهاب" مكلفآ للغايه بالنسبة للمجتمعات الغربيه والمجتمعات الإسلامية على حد سواء. وانتقل الضرر إلى إهدار موارد بشرية ومادية هائله ، أنفقتها البلدان الغربيه والبلدان الإسلاميه، لدرء أخطار الأعمال الإرهابيه الموجهه ضد المدنيين الأبرياء ، سواء كان الضحايا فى بلدان غربية أو بلدان إسلاميه. وكان الأولى، فى ظروف عادية غير تلك، أن تذهب هذه الموارد لخدمة الناس ومحاربة الفقر والتخلف والأمراض. لكن العالم الذى نعيشه اليوم ، لم يعد عالمآ يتسم ببساطة المعادلات والإختيارات ، كما يأمل أو يحلم الكثيرون من الدارسين للعلاقات الدولية المعاصره. رابعآ : إندلع جدال طويل ، فى بعض المحافل والمواقع الغربيه ، ومازال مستمرآ ، حول "علاقة للإسلام بالعنف". وبرغم أن هذا الجدل منطلق من فرضيات لا أساس لها ، إلا أنه نجح فى جر العديد من المفكرين والساسه فى البلدان الإسلاميه ، إلى الوقوف فى موقع المدافع وانشغل هؤلاء عن البحث عن أى دور إيجابى متفاعل، يتخطى تلك الذهنية ، ويصنع لنفسه تيارات إيجابية تبتعد بالدين عن مثل تلك الإتهامات الباطله. ومما يلفت الأنظار هنا، أن الكثير من المواقف الإنفعالية ، ظهرت على السطح ، وقللت من الفرصه أمام المعالجات الموضوعيه والمدروسه لمثل هذه الظواهر الممعنه فى التطرف والتى لا يكاد يخلو منها مجتمع للبشر على وجه البسيطه. وفى خضم الضغوط السياسية المتصاعده على الساسة والمفكرين فى كل مكان، إنكمش مجال الحوار بين أهل الرأى والحكمة فى كل المواقع التى يمكن أن تعمق من فكر التعايش السلمى بين الشعوب ، وتساعد فى توضيح مفهوم التكامل بين الأديان فى الفضيلة واحترام حقوق الإنسان. أدى ذلك الإنكماش إثر أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001، إلى جو تاهت فيه روح الحوار ،وصار الأمر وكأننا نشهد مساجلات تسير فى خطوط متوازية . غير أن تطورات لاحقه على الساحة الدوليه ، ساعدت على الخروج شيئآ ما ، من ضباب كثيف إلى نوع من الوضوح فى الرؤيا . وتجلت أوضح هذه الصور فى جهود ظل يبذلها الرئيس باراك أوباما لتصحيح المفاهيم التى تساعد على التعايش السلمى بين الأديان. ويحضرنى هنا ما ورد فى خطابه بتاريخ 11 سبتمير الجارى بوزارة الدفاع الأمريكيه حيث قال بأن الإسلام لم يعتد على الولاياتالمتحده، وأنه ليس العدو، وأن بلاده لن تكون أبدآ فى حرب ضده. وفى ذات الوقت ، حث الرئيس أوباما الأمريكيين على التمسك بقيمهم فى التسامح. وأضاف " إنها ليست ديانه تلك التى هاجمتنا فى الحادى عشر من سبتمبر 2001 ، ولكن تنظيم القاعده هو الذى فعل ذلك". والمهم عندى أن يستمر الساسه وأهل الرأى والفكر فى توضيح هذه المسائل، حتى يشارك الجميع فى إزالة اللبس والخلط فيما بين الوقائع والمفاهيم. ويبدو لى أن هذا الأمر يحتاج إلى خطوات مدروسة من كل الأطراف، حتى لا تنقطع حبال التفاعل الموضوعى والمفيد ، فيما بين كل الأديان والحضارات، بما يثرى التجارب الإنسانيه ، ويعزز أجواء السلام والإحترام المتبادل فيما بين الثقافات المتعدده . ذلك ما كان لدى من بعض الخواطر الموجزه ، التى عنت لى فى ذكرى أحداث الحادى عشر من سبتمبر. ويمكن القول بأن العالم لم يشهد فى تاريخه المعاصر، بعد الحرب العالمية الثانيه، حدثآ بهذه الجسامه والتأثير فيما يخص التعايش والسلام الدوليين. والسبب وراء ذلك أن الأمر تجاوز صفة الحدث السياسى ، وتجاوز صفة الحدث الدينى، وتجاوز صفة الحدث الإجتماعى والنفسى ، وتجاوز صفة الحدث الأمنى والعسكرى ، ليكون حدثآ مركبآ وفيه شئ من كل ذلك. علاوة على أنه حدث ليس فيه مكسب لأحد، وهو الحدث الذى سبب - ومازال يسبب - الخسران للكثيرين، سواء كانوا فى العالم الإسلامى ، أو كانوا فى العالم الغربى، أو كانوا فيما بينهما بحساب العقيدة والموقف السياسى. وسيمضى وقت طويل قبل أن يتجاوز العالم مضاعفات هذا الحدث ، لأن ما ترتب عليه من نتائج شهدها العالم ، مازالت مظاهرها ماثلة للعيان وحية فى القلوب والأذهان. والمهم أن يفهم طلائع المفكرين وأن يدرك المؤثرون على تشكيل الرأى العام ، والساسة من أهل الإستنارة فى المواقع الإستراتيجية الأكثر نفوذآ فى العالم، أن العبور من سلبيات الحادى عشر من سبتمبر وتجاوز مراراته ، يستدعى إعمال الإرادة الفكرية والسياسيه ذات المضمون الحضارى والإنسانى الواسع . والحرص على التعلم من ذلك الحدث المهول دروسآ تفتح الباب أمام تفاعلات إيجابية وعاقله ، بين المعتقدات والسياسة ، فى عالم يتطلع إلى المزيد من التعايش ، برغم ما فيه من تنوع وتباين وتعارض فى كثير من المصالح والمواقع. Ahmed Gubartalla [[email protected]]