[email protected] في مقالات سابقة تحدثت عن ثقافات مفقودة لدينا تناولت فيها ما حل بالوطن من تدهور في كل المجالات بدءاً بالسياسة ومعاني الإنتماء للوطن. شمل التدهور منذ خروج المستعمر الخدمة المدنية، التعليم، الصحة، الأمن، الضمان الإجتماعي، الغذاء، المسكن، العادات والثقافات، الحرية، العدل والتنمية وكل أشكال الجمال. وحديثاً فطنت الدولة عبر إداراتها الإعلامية إلى أن شعارات العقيدة لن تجدي نفعاً كثيراً وأصبحت المتاجرة بها ليست من الأهمية التي تحافظ بها على السلطة وتشد الجماهير وانتبهت بذكاء إلى أنه من أجل الإستئثار بالسلطة والثروة عليها جذب الجماهير المغيبة عن طريق الرياضة أولاً ثم الغناء فتم صرف البلايين من الأموال السائبة لإلهاء الأمة عن البناء والحقوق المدنية وذلك بشراء المحترفين بدولارات تكفي على الأقل لاستبدال الأدوية الفاسدة التي تقضي على أبناء شعبنا المغلوب على أمره. ثم بعد ذلك استشعرت السلطة أن مسألة الكرة هذه ليست عملية مؤسسية تصلح لأن تلهي 40 مليون نسمة في ضوء الفشل في تحقيق أي بطولة معترف بها دولياً مهما صغر حجمها وبعد أن استنفذت الشعارات الدينية أغراضها فاتجهت إلى الغناء كآخر مسمار في نعش الوطن. بدأت استراتيجيتها بالغزو الفضائي فجعلت مؤسساتها الفضائية الموجودة والتي انشأتها تركز على الغناء والطرب وعلى جذب الإنسان السوداني لساحة الغناء خطوة خطوة. كانت ضربة البداية فيها تجويع المواطن فنياً حيث تم تحريم الغناء العاطفي خاصة الذي به كأس وخمر وقبلة سكرى وزهرة ونجمة وعناق. فتبنت غناء الحروب وأناشيد الجهاد ثم غزت دنيا المديح على شاكلة (بقيع زي ده اصلو ما شفنا)، ثم تم اجترار ألحان أغنيات الحقيبة فصارت قاعدة اساسية لفن المديح ثم ظهرت المغنيات المادحات على الفضائيات وهن يتنقلن نشوة بين طاولات الحضور يبشرن بالخير والجميع يتراقص في طرب يسمونه عرضة وهي نوع من الرقص لا يختلف عن اللامبادة والسالسا والجيرك والسيلساو. وكما يرقص قادة الولاياتالمتحدة وأوروبا الفالس و التانقو يرقص قادتنا العرضة على إيقاعات السيرة وبإجادة واقتدار يؤكده أصبع واحد مرفوع إلى أعلى وعصاة تحلق في عنان السماء. وسرعان ما أدرك إعلامنا المبرمج الذكي أن مسألة المديح وحدها لا تكفي فجعل (الغُنا) هو سيد الموقف فتحولت الفضائيات في رمضان إلى ساحة غناء تلف وتدور في نفس الدائرة. وأصبح أي حديث أو ملتقى يتوسطه فنان لزوم الإستراحة المتعبة فيمكن أن تستضاف دبلوماسيات وتحشر بينهم مطربة أغاني بنات لا علاقة لها بحديث الدبلوماسية السلس لكن حيث أنها استراتيجية دولة فلا بد من حشر مثل هذه الفنانة بأي ثمن. وفي أحيان كثيرة أخرى يدّعون أنهم يوثقون لهذا المطرب وذاك المغني وجميعه توثيق من أجل الونسة (الساي) وبعيد كل البعد عن المنهجية والعلمية والتدقيق بل يعتمد على الحكايات المعلقة بأهداب الذاكرة الموبوءة بالنسيان ومصاحب بأغنيات المطرب وهو أصلاً سبب الإستضافة وليس تفنيد ابداعه وترسيخه في وجداننا وذاكرتنا، ثم يعيدون نفس التوثيق المرتجل لنفس الفنان والوطن بأجمعه يتأوه بتراويح الأغنيات الخالدة والدولة وعلى أعلى قممها تحتفي بهذا الغناء وتستضيفه وتكرمه تشجيعاً مبرمجاً له بعد أن قتلته ذات يوم، ثم تدور الحكاية من قناة لأخرى حتى صار المطربون والعازفون مقدمي برامج كذلك. وحديث الذكريات نفسه لا يدعونه يستمر ففي قمة الإنتباه للقصة يتدخل المقدم ليريحنا عنوة بأغنية ويهزم تسلسل انتباهنا للحكاية هذا غير التوقف لفاصل إعلاني أو تقني يقطع بسببه الحديث مهماً كان جذاباً ومهماً. الإهتمام بالفن أمر حميد دون شك فالفن هو لغة التواصل بين الشعوب (طبعاً كلمة التواصل وكلمة أكيد وكلمة بنحييه هي دمغات ثابتة لدى مقدمي البرامج) وهو احساس يلون الوجدان بلهيب الشوق لعافية الفصول حين تستنطق الأفئدة مواسم الفرح الجميل بالرغم من أن التوجه للغناء لم يكن من أجل تطوره ورفعته بل حقيقة من أجل اللهو لا أكثر كمنفذ من عتمة الفشل السياسي فكان هذا الغناء فاشلاً بالطبع كما فشلت الرياضة والدليل على فشل الغناء ما رأيناه في كل محافل البرامج الغنائية على جميع الفضائيات السودانية بلا استثناء. الشباب تائه بين القديم وبين جديد ينقل فن الغناء والطرب والموسيقى خطوة إلى الأمام ومن يحاول أن يجرب يتم عزله ومحاربته، أما قدامى المطربين فقد شاخت أصواتهم ويصرون على الغناء في نفس المربع بدلاً من الإتجاه لرعاية الشباب والإستفادة من تاريخهم الطويل في صنع الجديد والإقتداء بتجربة عظيمة قدمها الراحل مصطفى سيد أحمد وليس السباحة في بحر القديم من مشروع الأغنية السودانية فلم يكن هناك ما يبعث الأمل في النفس على أن الشيء الوحيد الذي تبقى لدينا سيعيد البسمة لوطن ضائع. الأسوأ من الغناء المظهر القبيح الذي يبدو على من يطل عبر شاشاتنا خاصة الجلسات على الكراسي فثقافة البنبر لا زالت سائدة (فيتفرشخ) بعض المطربين وبعض الضيوف في الجلسة ( والأرجل كل واحدة في بلد) ومعاها هزة كمان وبدلاً عن الجلوس والظهر مفروداً و الأرجل مضمومة تجدهم نائمون على الكراسي يتأرجحون ويتأوهون وليس من مخرج أو مساعد له ينبه لمثل هذه الجلسات. والأدهي حين يلبس الضيف أو المقدم الجاكيت فثقافة لبس البدل لا زالت ضعيفة فلا يعرف من يلج فضائياتنا وعلى كل المستويات أن البدلة وأنت واقف لابد من إغلاق الزرارة العليا أو التي في الوسط ومن ثم فتحها عند الجلوس وتكرار هذا الفعل طوال الإنتقال بين الجلوس والوقوف. نعم نحن شعب نفتقد ثقافة الاتكيت على كل المستويات ولا نعرف مزج الألوان ونقلد تقليداً أعمى في كل شيء ولذلك ضاع أجمل ما لدينا وتاهت كل أشكال الجمال وكان آخرها الغناء فيا حزني حقيقة على وطني ويا ألمي عليه. حاولت أن أبحث عن شكل جمالي كان سائداً من قبل فلم أجد والله شيئاً يذكر، فكما بدل الناس ألوانهم السمراء وحولوها إلى بيضاء مهترئة خاصة المذيعات والمطربات، وهذا أمر آخر في غاية الخطورة سأعود إليه لاحقاً، بدلوا اخلاقهم فصرنا لا نثق بأحد ولا نأتمن أحداً على شيء. الكل ينهش في الكل (وطاقية ده في راس ده). بالطبع كل هذه الأمور مقبولة في ظل الإنهيار الإقتصادي والأخلاقي والتهديد بتفكك الوطن إلى دويلات لكن ما ليس مقبولاً هو أن يموت الجمال ويستشهد الفرح وتنتحر الأصوات الرائعة وينتحب الغناء. مدخل للخروج: ماذا سنفعل والهُدى قد تاه في بحر الخطايا غام في زخم الضلال.. مأذا سنفعل في هوان الناس في الوطن الرحال.. في كل شبر حكّم الإخفاق نهر الحزن فينا في امتداد الأرض والغابات والليل المخيم في الجبال.. باسم الحضارة نهج وثبتنا الفتية قد تحولنا جماداً واكتئابا وانعزال.. وتمزق الوطن الجميل ومات إحساس الجمال.