كلما كان الصعود عاليا كان السقوط قاسيا، وكلما كانت "الجماهير" معبأة بمشاريع أحلام كبيرة، الا أن الأحلام لم تتحقق، فان النكسة ستكون كبيرة، والعواقب وخيمة، و تحتل الجماهير في التاريخ البشري حسب تعريف غوستاف لوبون ؛ موقعا اساسيا لجهة الادوار التي لعبتها ولا تزال على مسرح التغيرات السياسية والاجتماعية. وهي ادوار منها ما اتسم بالسلبية عبر الدعم الذي اعطته لقوى استبدادية او لايديولوجيات فاشية واوصلتها الى سدة الحكم، او عبر التضحيات العظيمة في سبيل قضايا وطنية واجتماعية، ويشير لوبون الى ان علم النفس يقدم اطروحة ترى ان هناك “روحا للجماهير” تتكون من الانفعالات البدائية التي تتكرس عبر العقائد الايمانية، مما يجعلها بعيدة عن التفكير العقلاني والمنطقي، بحيث يبدو الشخص المنخرط في جمهور مستعدا لتنفيذ اعمال استثنائية يصعب ان يكون لديه الاستعداد للقيام بها لو كان في حالته الفردية والمتعقلة. يلخص لوبون نظريته حول الجمهور بجملة مسائل تتناوله بصفته ظاهرة اجتماعية، تفسر عملية التحريض التي يخضع لها بأنها عملية انحلال الافراد في الجمهور والذوبان الكلي فيه. من هنا يمكن تفسير الدور الذي يلعبه القائد في تحريك الجماهير حيث يقوم بالدور اياه الذي يقوم به التنويم المغناطيسي، على غرار ما يقوم به الطبيب النفسي في علاجه لمريضه. اثبتت معاينة الحركات الجماهيرية وقائع عدة في مقدمها أن هذا الجمهور يمتلك وحدة ذهنية، ويتحرك بشكل لا واع. وهناك تجارب كبيرة حول نظرية التعبئة الخاطئة، أو المبالغ فيها، ودوننا تجربة حرب مصر مع اسرائيل في عام 1967، والمعروفة بنكسة ايلول، فقد ظل المواطن المصري، والعربي يتلقى " هتاف الاعلام المصري" يومياً عن انتصارات كبيرة، وعن اسقاط أرتال الطائرات الاسرائيلية المقاتلة، لكنه فجأة استيقظ من " حلم جميل"، فلما أدرك الحقيقة أصيب بالاحباط، والاكتئاب، وتحول ما يمكن اعتباره " قدرات ايجابية بناءة" إلى " عوامل هدم"، و طاقات تدمير، وهو أمر خطير للغاية. واليوم ؛ ونحن في السودان نمر بآخر المنعطف، ونقترب كثيراً من ساعة الصفر، ولكن عند هذا المنعطف نلحظ تعبئة تغذي الانفعالات أكثر مما تخاطب العقول، فالخرطوم تصور للناس بأن " الوحدة" هي البقرة المقدسة التي لا مناص من حمايتها بشتى الوسائل، ومهما كانت النتيجة، وجوبا ترفع صوتها " الانفصالي" بانفعال يصور أن الشمال كله بما فيه القطاع الشمالي للحركة الشعبية هو " الجحيم"، أما الفردوس فهو الانفصال، فيتم التبشير به دون غوص في تفاصيل مشروع الدولة الوليدة، وأنا لست ضد التبشير بأي خيار؛ مع ايماني التام أن المعني الأساسي هو المواطن السوداني الجنوبي، وليس كل السودانيين مع أن الخيارين سينعكسان على السودان كله، سلباً، أو ايجاباً، فمن يريد " الوحدة" فليبشر بذلك، ومن يريد " الانفصال" فليعمل له، إلا أن المطلوب في الحالتين التعامل بواقعية، والتخاطب بعقلانية، وتهيئة الجميع لأي من الخيارين ، ومن ثم وضع الخطط البديلة للتعامل مع الواقع، لأن من يعبئ من أجل الوحدة سيخسر كل جماهيره حال حصول الانفصال، والعكس صحيح، وربما يتحول الخطاب العاطفي إلى نار مستعرة تحرق الجميع في حال الخسران، والسقوط، وكما قلنا فإنه كلما كان الصعود عاليا كان السقوط قاسيا، و" الجماهير" كما يقول لوبون؛ يقوده اللاوعي كليا تقريبا، فهو عبد للتحريضات التي يتلقاها، والجمهور كالانسان الهمجي لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته وتحقيق هذه الرغبة. والجمهور سريع التأثر وساذج في الوقت نفسه وقابل لتصديق كل شيء، وهو “يشرد باستمرار على حدود اللاشعور ويتلقى بطيبة خاطر كل الاقتراحات والاوامر”، كما يمتلئ الجمهور بنوع من المشاعر الخاصة بكائنات لا تستطيع الاحتكام الى العقل او القادرة على اتباع روح نقدية. كما ان العواطف التي يعبر عنها الجمهور سواء اكانت طيبة ام شريرة، تحوي تناقضا لجهة التضخيم او لجهة التبسيط، حيث “يتحرر الأبله والجاهل والمسود من الاحساس بدونيتهم وعدم كفاءتهم وعجزهم، ويصبحون مجيشين بقوة عنيفة وعابرة، ولكن هائلة”. واذا ما أردنا برهاناً على ذلك فان " أحداث يوم أول من أمس مجرد "بروفة" في فيلم طويل، ورغم ذلك أمامنا فرصة أخيرة لتعبئة متوازنة، ومساحة من الحرية متكافئة للجميع، ليعبروا عن رأيهم كاملاً، دونما خوف، أو تحريض، أو ابتزاز. Faiz Alsilaik [[email protected]]