العبرة دائماً بالخواتيم.. فلنبدأ حديثنا عن نيفاشا من حيث انتهى الآخرون الأسبوع الماضي ونحن نشارك في حوار تلفزيوني (غير مسبوق) نظمته الفضائية السودانية في برنامج "وجهات نظر" الذي استضاف البروفيسور إبراهيم غندور الأمين السياسي بحزب المؤتمر الوطني والأستاذ أتيم قرنق القيادي في الحركة الشعبية وقدمه بحرفية الزميل الأستاذ ضياء الدين بلال رئيس تحرير "صحيفة السوداني" وتميز الحوار بحضور كوكبة مميزة من الزملاء الصحفيين والاكاديميين. الحوار غير مسبوق وتلك ملاحظة تستدعي الإشادة بمجهودات الأستاذ محمد حاتم سليمان مدير الهيئة العامة للتلفزيون القومي ومساعديه لعمق رؤيتهم وحصافتهم وهم يخطفون الأضواء مخترقين حاجز الخوف في هذا الجهاز المؤثر بجرأة غير معهودة لدى بعض الإعلاميين الذين يطلون الواقع بروح الزيف والنفاق والتعلق بالأماني الكاذبة والطموحات الساذجة لإرضاء المسؤولين خصماً على مصالح الوطن الكبرى في هذه المرحلة الحرجة، والتي نعتقد أن من محفزات عبورها بسلام مناقشة مآلات الأوضاع بالبلاد في مرحلة ما بعد الانفصال نقاشاً شفافاً وصريحاً وبناءً بغض النظر عن اختلاف الآراء. إن ساعة الحقيقة قد أوشكت ونحن على أعتاب الفصل الأخير من إتفاقية نيفاشا، وكلما اقتربنا من الاستفتاء تدنو في المقابل حقيقة التقسيم والانفصال التي ظللنا نتعامل معها بروح العاطفة والخداع طيلة السنوات الماضية.. وعليه جاز القول صراحة إن الانفصال واقع بكل حسابات المنطق، وهو حدث استثنائي خطير يمكن أن تقاس على نتائجه الاتفاقية ومدى جدواها من فشلها؟!. ثمة سؤال يُطرح "سراً وعلانية" عن دواعي تمترس البعض واصرارهم حتى هذه اللحظات الأخيرة على تحميل وزر خطاياهم للأخرين واقصاء مبادراتهم الشجاعة الساعية لتجديد روح الحوار مقابل كسب ود الساسة الذين لم يأتينا من وراءهم سوى التشرذم والانشطار. لقد كانت لنا ولا تزال آراء صريحة حول ثنائية نيفاشا، والشاهد أن كل ما كتبناه حولها منذ أعوام أصبح واقعاً معاشاً، ونحن اليوم أمام مفترق للطرق نشارف الوصول عبره لآخر محطات الاتفاقية وأكثرها مأساوية "الانفصال؟!". لقد ذكرت خلال مشاركتي في الحوار التلفزيوني أن ثنائية نيفاشا تعد تؤامة تنافر لكيانيين مختلفين في كل شيء، ورأينا كيف أنها أعطت طيلة الأعوام الماضية نموذجا سيئا للشراكة ترفضه روح الوحدة ويعزز فكرة ومزايا الانفصال. وإن كانت هناك محمدة فهي حقنت الدماء وابعدت شبح الحرب الأهلية المقيتة الى حين، وتلك ميزة تستوجب التقدير لمن شاركوا في وضع نصوصها وإن وقعت الحرب مجددا فتلك كارثة تحسب خصماً عليهم وستجعل الاتفاق أشبه بمعاهدة سايكسبيكو التي أورثت فلسطين الخراب!. إنه لمن الغرابة ان ينتقد البعض الإدارة السياسية بالتلفزيون القومي بإرسال إشارات امتعاض سالبة عبر بعض الوسطاء من شأنها اثناء القائمين على أمر التلفزيون عن مواصلة مبادراتهم الجريئة وذلك بتجنب عدم استضافة مثل هذا النوع من الحوارات الفاعلة، فقط لأن مشاركات البعض حوت آراءً لا توافق متطلبات وأمزجة الساسة. رأينا كيف يوجه البعض اقلامهم عبر الصحف هذه الأيام لتبخيس انجازات القائمين على أمر الهيئة العامة للتلفزيون القومي ومديرها في قضايا كثيرة وذلك بهدف التقليل من النجاحات التي تحققت مؤخراً والتي كان أخرها الثقة التي اولاها اتحاد اذاعات الدول العربية للسودان بانتخاب الأستاذ محمد حاتم رئيساً للاتحاد لدورته الحالية ومدتها عامين، وفي ذلك خير دلالة على أن الرجل يحمل طموحات أمة كاملة وخطط واعدة دفعت الأخوة العرب لاختياره ولنا في ذلك تجربة حية، حيث اتيحت لنا خلال المشاركة في مؤتمر اتحاد اذاعات الدول العربية فرصة الوقوف على بعض المشروعات الكبيرة التي ستحدث طفرة مقدرة بفضل الشراكات التي وقعها التلفزيون القومي مع جهات خارجية من بينها نظام التبادل متعدد الوسائط عبر الاقمار الاصطناعية "مشروع مينوس السودان"، لذا فإن واجبنا في هذه المرحلة هو التأييد ومباركة الجهد لا القدح والتشكيك من باب الحفاظ على مكتسبات الوطن الكبرى ودفع روح الانفتاح ومحاربة سياسة التعتيم والضبابية التي لم نجني منها الا مزيدا من الاستهداف والترصد. كانت لي تجربة سابقة في اصطحاب الصديق الصحفي البريطاني بصحيفة الغارديات سايمون تيسدال في أول زيارة له للسودان في مارس 2008 للمشاركة في ملتقى العلاقات الأوروبية السودانية الذي أقيم بالخرطوم، وأذكر جيداً كيف كان الرجل متوجساً من الأوضاع بالسودان ونحن في طريقنا للمشاركة بفعل التعتيم الذي مورث في السابق، الا أن أمره تبدل وانقشع الضباب عن عينيه بمجرد أن وطأت قدماه أرض السودان وتحسس من بعد الأشياء على حقيقتها. الأسبوع الماضي وبعد عامين من تلك الزيارة الأولى والتي أعقبها بزيارة ثانية اتاحت له فرصة الوقوف على حقائق الأشياء، سطرالصحفي تيسدال مقالاً في صحيفته ذائعة الصيت "الغارديان" دفاعاً عن الرئيس البشير فيما ظل يتعرض له من تهم باطلة تتصل بالإبادة الجماعية واهتزت لآرائه أركان دوائر الاستهداف بداية من المحكمة الجنائية الدولية وانتهاءً بدول كبرى لا ترغب في استقرار السودان بعد أن ذكر حقائق عمل الغرب على تشويهها وصبغها بألوان الزيف وفي ذلك خير دليل على ضرورة تغيير هذا النهج المنغلق والعقليات القديمة التي لا ترضى الانفتاح والاستماع للرأي الأخر، حيث كانوا في السابق يرفضون مجرد زيارة للصحافيين من امثال سايمون وآخرون نعلمهم. دعونا نقولها من دون مواربة أنه آن الأوان لتغيير منهج الصوت الواحد الى رحابة التعددية في الرأي عبر وسائل الاعلام السودانية الحكومية والخاصة وعلى رأسها التلفزيون القومي ولنا سنة حسنة في النهج الذي اتبعته قناة الشروق الفضائية وجرأتها في اشراك السودانيين كافة في المصير بدلاً من الانغلاق والتشدد والباس الأشياء ثوباً غير واقعياً حتى تتجنب البلاد مزيداً من الاضطراب والتوتر الذي من الممكن أن يدفع ثمنه الجميع بدون استثناء. *** همسة: من أمثالنا السودانية التي تحمل دلالات وقيم اشراك الأخرين في الرأي والمصير وقول الحق والصدح به لمن يحاولون تكميم الأفواه المثل القائل: (رأيك جبه ورأي أخوك سروال). فليكن هذا الرأي الذي تناولناه سروالاً ينتظر جبةً أو جلباباً.. أرجوا أن تسمحوا لنا مرة أخرى بالقول أن نيفاشا ستبقى في ذاكرة التاريخ نقطة سوداء "وإن إتحد الوطن بعد حين" لأن من وضعوها أغفلوا استصحاب آراء الأخرين وبنوا احلامهم على وعود كاذبة من الوسطاء الغربيين الذين تحركهم اجندات ما وراء البحار وتواطؤ شريك نافر ومراوغ يعلم ما يريده بكل تفصيل!. * صحافي مقيم ببريطانيا الأحداث