وأخيراً انتقلت الجبهة الوطنية العريضة، جبهة حسنين وإخوانه في المنفى، الي رحمة الانقسامات حتى قبل أن تكمل الخريف الأول من عمرها، دعك من أن تعيش وتستهلك خريفين اثنين، وكثيرون نصحوا هؤلاء الرجال الجبهجية الجدد وهم في مخاض ولادتهم ألا يفعلوا، أي ألا ينغمسوا في مغامرات سياسية أو عسكرية جديدة وفي هذا الوقت الحساس بالذات، ولكنهم ركبوا حصان النشوة الجموح، وظنوا أن العوامل الخارجية المهيأة أكثر من أي وقتٍ مضى سوف تسلمهم السلطة علي طبق من ذهب وما عليهم إلا الإعلان عن الجسم السياسي الذي يتم تسليمه تركة الإنقاذ السياسية بعد الفراغ من الخطة رقم ( 1 )، فصل الجنوب، ولم يكن يدور بخلد أحد من حزب الفرحين المنتشين هذا أن جبهتهم سوف يعتريها الهرم والخور وهي بعد في المهد صبية. شيوخ الجبهة، أعني كبار السن فيها، هم من بدأ معركة الانقسام، ثم ما لبثت حرب البيانات وتبادل الاتهامات والشتائم والردح أن اشتعلت، حمراء فاقعة الحمرة، أو رمادية متشحة بالسواد، ويبدو الآن أن الصراع مجرد اختلاف أيديولوجي بين الحمر والزرق، وبالتحديد بين الاسلاميين أو ذوي الجذور الاسلامية وبين الشيوعيين أو ذوي الجذور والميول الشيوعية، هذا حسب ما يتبدى للناظر للأمر بالعين المجردة فقط، خاصةً وأن التيار الأحمر قد ميز نفسه ولونه السياسي بالقلم الشيني الأحمر بكل الجد والإصرار، فعلمنا نحن الذين تلقينا بيانه من موقع سودانيز أون لاين ما لونه والي أين يتجه، يساراً أم يميناً، أما البيان الآخر حاول بقدر الإمكان أن يتسم بالوقار ويجلل نفسه بغار الحزن النبيل، فأثنى علي الجبهة وعدد مآثر الفقيدة وذكر أن العزاء في أن أبناءها الكرام البررة سوف يرثون أعباء الجبهة النضالية ويقومون بها خير قيام، لكن الناظر الي ما بين السطور، سوف يدرك أنه ليس هناك صراع فكري أيديولوجي ولا يحزنون، فقد فات أوان هذا الصراع وانتقل الصراع الي جبهات فكرية ومادية أخرى تتسلح جميعها بالبراغماتية التي تصلح للاستخدام في كل زمان ومكان، أي تربص كل طرف بالطرف الآخر والحرص علي التغدي به قبل أن يتعشى به، والجبهة الجديدة العريضة عرض مكوناتها كانت كلها محسوبة علي اليسار مع أن اليسار قد تبرأ منها في وقتٍ مبكر وها هي اليوم يتضح أنها كانت مجرد طفلة منسية وسط لمة فرح وابتهاج في أجواء لندنية ضبابية سرعان ما انقشع عنها الضباب بتسليط أول إشعاع سرطان صراع أيديولوجي عليها، لذلك انقسمت الآن في الظاهر الي قسمين، يساري ويميني، يحملان ذات الاسم وبعد قليل أيضاً سوف ينقسم التياران علي نفسيهما حاملين ذات الاسم، وبذلك تتعدد الأسماء وموت التنظيم السياسي الأم، حزباً كان أم جبهة، واحد، فكم شهد السودان قبل الاستقلال وبعده قيام جبهات لم يتبق منها إلا الأسماء وأحفاد الأسماء، ببساطة ماتت الجبهات وسقطت الشعارات ولا تزال الأسماء باقية بقاء الدهر، فالحزب الشيوعي ما يزال يحمل اسمه القديم رغم أنه لم يعد يحمل من سمات الاسم إلا الاسم، ونفس الحكم ينسحب علي الحركة الاسلامية والبعثية والافريقانية، بل لا تزال الصهيونية العالمية تحمل اسمها وحلمها القديم وتجدده بآخر الصيحات مثل الدعوة الي الاعتراف العالمي باسرائيل دولة يهودية أي تخص اليهود فقط وبالتالي لا يحق لمن لا ينتمي الي اليهود أن يتمتع بحقوق المواطنة فيها. الأمر الذي لم ينتبه اليه مكونو الجبهة من سياسيين ومدنيين وحتى عسكريين سابقين وحاليين، ومفكرين لا غبار علي منحهم هذا اللقب، ولن ينتبهوا اليه، هو أن الجبهة التي أسموها بالجبهة ثم أردفوا علي ذلك بصفة العريضة، تعتبر وعاءاً فضفاضاً من المفترض أن تتعايش داخله كافة الميول الفكرية حتى الوصول الي الهدف المشترك الذي جمعهم دون الجوامع الأخرى، ثم من أراد أن يكون النظام السياسي علي هواه السياسي ونزعته الفكرية فليؤسس وعاءه السياسي الخاص ويدعو الي اتجاهه الفكري علي بينة ووضوح سياسي فكري بأجندة معلنة وبرنامج سياسي يعلن قبل الانتخابات التي يجب أن تكون أولى أولويات الجبهة بعد استلام الحكم، ولكن ها هم مؤسسو الجبهة يخلون بمفهوم الجبهة والعريضة من الجبهات بالذات معنىً ومبنى قبل أن تغادر الجبهة منصة التأسيس أو حتى قبل أن تأكل خريفها الأول كما سمح لها بذلك شيخها البدري، الأستاذ/ شوق بدري، ثم كيف ساغ لهؤلاء أو هؤلاء أن ينخرطوا في تأسيس عمل سياسي بهذه الفداحة والثقل قبل أن يضعوا الخطوط الفكرية العريضة والقواسم المشتركة بين مؤسسيه ثم يتوافقوا ويتواضعوا عليها؟! وإذا لم يحدث ذلك قبل التأسيس وأرجئ كل شيء الي يوم التأسيس فكيف جاز لهؤلاء أن يجعلوا من المؤتمر التأسيسي مجرد كرنفال احتفالي وبهرجة عارية حتى من ورقة التوت؟ أي لماذا لم يمكثوا في ذلك المؤتمر الوقت الكافي فيرسوا كل شيء علي مرساه الأخير قبل انفضاض الجمع، ألا يقدح هذا في ذمة ووعي مؤتمرهم التأسيسي ويلطخه بالشبهات من كل الجهات والألوان؟!!! ألا يعني ذلك أن المؤتمر كان مجرد عشاء عمل نظمته الجهات الراعية للتوقيع علي صكوك بعينها، وعلي رأسها صك وشعار إسقاط النظام وخلوا الباقي علينا، وليذهب المؤسسون وأحلامهم الفكرية بعد ذلك الي أي جحيمٍ يختارون؟