لا زال الكثيرون من أبناء وطني تحت تأثير صدمة نتيجة الاستفتاء المنعقد في يناير الماضي والذي أفضى بتقسيم السودان الذي كنّا نفاخر بمساحته الأمم من حولنا، وبرغم شيوع الإحساس العام لدي كثيرين منهم بأن الإنفصال هو النتيجة الحتمية عند النظر لإتفاق السلام المبرم في العام 2005 وتأمل سلوك طرفي الإتفاق خلال الفترة المنصرمة من عمر تنفيذ الإتفاق وما قبلها. ولعل تضمين خياري الوحدة أو الإنفصال في صلب الإتفاق قد جاء لتطييب خواطر أبناء السودان وإلهاءهم خلال الفترة الإنتقالية وتخدير الإحساس لديهم بأن إرادة السلام البحتة لدى الطرفين في حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية هي التي صنعت السلام وأوقفت الحرب الضروس التي عانى من ويلاتها أي سوداني . وهنا فإنه مهما إختلفنا حول الإرادة التي صنعت السلام وأوقفت الحرب فإن النتيجة الآنية التي أصبحنا ووجدناها بعد سنوات طويلة من الإقتتال هي وقف الحرب وحفظ الأرواح ومعها بعض الموارد منذ تاريخ طويل من الهدر البشري والمادي لمقدرات الوطن الكبير، لكن الخيار الثاني والذي نال أغلبية ساحقة بإعلان النتيجة يُنبئ بأن هناك إخفاقات ربما تكون مقصودة أو مرتبطة مع سبق الإصرار بنتيجة الإستفتاء، الأمر الذي يدفعنا للقول بأن الوسيلة للسلام لم تكن هي الدافع الحقيقي الوحيد لكل الذي تم خاصةً لو علمنا بأن هناك كثير من الآليات التي كان يمكن أن تُستخدم وتُستقل لتتويج وقف الحرب وسيادة السلام علي كل أرجاء الوطن دون اللجوء لخيار الإنفصال والتفكير فيما يأتي بعده من قضايا لن تقل بأي حال من الأحوال عن ويلات الحرب ، هذا إذا ما قدّمنا أمر سلام الجنوب وبحثنا فيما بعده من قضايا عالقة ستظل مواضيع حساسة ما بين دولتين كلٍ منها ذات سيادة تقتضي هذه السيادة التقييد بمحددات وطنية ومصالح حيوية عند التفاوض بشأن هذه المواضيع ونذكر منها علي سبيل المثال الديون الخارجية والحدود ومواطنين كل دولة لدى الدولة الأخرى وتنازل هؤلاء المواطنين عن حقوقهم السياسية والإقتصادية التي إكتسبوها عندما كان السودان وطناً للجميع وتتشعب كثيراً قضية فك الإرتباط بما كان وما سيكون ، بالإضافة لتركة طويلة لا حصر لها من الربط الثقافي والوجداني بين مواطني السودان ما قبل الإنفصال وكيفية التأقلم مع هذا الوضع ومسئولية المحافظة علي هذا الترابط لدى الفرد العادي والمؤسسات الرسمية التي يتوافر شك كبير من ناحية جانبي المعادلة على حفظه كما كان منذ اللحظات الأولى التي شكلت وجدان السوداني العادي. وفي ظل المتغيرات الكثيرة المحلية والإقليمية التي نشهدها عقب عملية الإنفصال فإن هناك تحديات لا تقل كثيراً عن ويلات الحروب التي عايشها السودان منذ خمسين عاماً وحتى اللحظة التي تبقى فيها قدر كبير من أسباب الصراع والحروب المتعلقة بالسلطة والثروة السودانية وعدالة توزيعها علي بقاع السودان الجغرافية ومكوناته البشرية ،وهذه تُشكل مادة خصبة لامتحان استدامة السلام الذي نراه في بداياته المتعثرة من خلال توافق وطني ملموس يُحدد المسئولية فيما تم من تقسيم للوطن الكبير ثم تقبل ذلك كواقع يحتم علينا مواجهة أمينة من النفس قبل الآخر بتحديد قدر المسئولية فيما حدث وأخذ القدر اليسير من إيجابيات تحقيق هذا السلام لنبني عليه مستشرفين للمستقبل القاتم ونعمل معاً على خلق إشارات ضوئية نستبين بها نفق الظلام الذي أمامنا مما صنعناه بأيدينا . وتظل أزمة دار فور ونتائجها المؤلمة نار متقدة تحرق ما تبقى من جسد السودان حتى نجد لها حلاً مقبولاً لكافة الأطراف وإلي ذلك الحين فإن مخاطبة أسباب الأزمة بمستحقاتها المعلومة حول أساس الصراع السوداني الموروث عبر مختلف الحقب والقائم علي الثروة والسلطة السودانية وكيفية ممارستها بالعدل الكافي لكافة جهات السودان أسباب متاحة علي قارعة الطريق لكل من يحملها كأسباب أوصلتنا لهذه النتائج غير المرضي عنها من جانب كبير من أهل السودان الذين لم تُتاح لهم الوسائل والآليات المناسبة للتعبير عن كيفية حلها وحسمها في حقب الديمقراطية والشمولية السودانية علي إمتداد تاريخها المتغلب. وبذا فإن أي مسعى لا يدرك صاحبه قبل الآخرين مستحقات ديمومته وإقناعه لجماع أبناء وبنات السودان يمثل حرث في البحر خاصةً لو كان هذا المسعى ذو تقاطعات وتشعبات ذات ثقل خارجي دون مراعاة مساحة الداخل السوداني وتنوعه بكل ما تحمل الكلمة من معنى . ومن الواضح أن السلام الذي يتعامل فقط مع من يحمل السلاح يظل ناقصاً مع أهميته القصوى كأساس له الأولوية في ذهن كل السودانيين ، لكن السلام الذي نوجده في بنية الدولة وهياكلها وكيفية ممارسة الحقوق وأداء الواجبات وخلق حالة تناغم إجتماعي يغرس الإحساس لدي الفرد بأنه هدف لمن يريد أن يحكم باسمه ويرفع به إسم السودان بين الأمم من حولنا بعزة وكرامة بحقها المستحق الصادق هو ما يجعل السلام المستدام وسليتنا لذلك ويكتب له الإستمرار وللسودان بكل مكوناته العيش الكريم الآمن . عبد الله البحيراوي