أضحت الحياة قاسية وصعبة حتى صارت كرتنا الأرضية وكأنها كرة نار ملتهبة لا تخلو نشرات الأخبار من الكوارث بشقيها طبيعية وبشرية، ففي اليابان يضطرب البحر ويحمل معه الدمار والموت والكوارث (تسونامي) ونرى الماء الذي يحلو لنا تدفقه من الشلالات مشكلا مناظرا طبيعية خلابة تدغدغ الحواس وتشد الأنظار نجده يخرج عن طوره ويكشر عن أنيابه وهو يهجم على اليابسة لايبقي فيها أثرا لحياة مجندلا معه كل شئ يعترض مساره من سيارات وبيوت وطائرات وهي تطفو كلعب الاطفال، مشردا آلاف الأسر ومدمرا قرى بل مدنا بأكملها. وفي خضم تلك الكوارث والبلايا والمحن يبحث المرء عن قشة من التأمل والهدوء والسكينة ليروح عن هذه النفوس التي كلت وملت وشبعت من ضغوطات الحياة التي أصبحت أكثر من طاقة احتمالنا كبشر. آثرت أن اسرد تلك المقدمة لكي أقدم للقارئ العزيز هذه الكلمة عن السلامة التي تعتبر عندنا كما مهملا وقيمة (ليس لها قيمة وسط مجتمعنا الرسمي والشعبي)، وكلمة نادرة في قاموسنا الاجتماعي، وهي بعنوان (جات سليمة)، أسرد فيها واقعة حدثت لي شخصيا، ولكن الله سلم ولطف: لايعرف الشوق الا من يكابده ولا الصبابة الا من يعانيها طيلة اسبوع بل أكثر كابدت الشوق لبلوغ الصحة والعافية متمسكا بحبال الصبر والجلد وعانيت كثيرا من آثار سقطة على ظهري، لطف الله وقدر وسلم عندما تهاوى رأسي متقدما جسدي المهدود وسقط من علو أكثر من متر ونصف في يوم مطير غابت فيه الشمس وغلبت علي شقاوة (الطفولة الكامنة) عندما كنت اداعب في رفق ولين سقاطة باب الجراج (القراش) الذي اخفق قلبه وسكت دماغه عن العمل جراء سقوط الأمطار، لكي أقوم بتحويل وضع الباب لتهيئته من العمل بشكل آلي إلى العمل بشكل يدوي. وشاء الله ألا تثبت الطابوقة (البلوكة) التي اتخذتها مسندا لقدمي وبدون مقدمات مادت وتدحرجت، ومعها اضطرب واختل جهاز التوازن وبسرعة البرق تنزلق قدماي والتفت يمنة ويسارا فلم أجد ما اتشبث به أو اتمسك به منعا للسقوط ولكن هويت بكامل جسمي ولم أجد ما يسندني سوى صفحة الأرض الترابية المبتلة بمياه الأمطار، حيث كانت بمثابة وسادة اسفنجية رقيقة حانية امتصت كثيرا من قوة الصدمة، مما خفف وطأة ارتطام هيكلي العظمي الهش بسطح الأرض. وبحمد الله كما يقولون جات سليمة، وقد سلمت الجرة، أوضحت صورة الاشعة سلامة عظام الظهر من أي كسر أو شق وانحصرت الاصابة في عضلات أسفر الظهر. أما مكابدتي للألم فحماكم الله من شر آلام عضلات الظهر التي لا أجد لها وصفا أبلغ من وصف شيخ الكتاب الجاحظ حين وصف نصفه الذي أصابه داء النقرس (وللمعلومية داء النقرس يعرفه السودانيون بالقاوت وهو يعرف بداء الملوك) فقال (لو حام حوله الذباب لآلمه) وذلك من شدة الألم. هذا فضلا عن محدودية الحركة . حمدت الله على السلامة، وكانت أثناء نوبات الألم الشديد تطوف بخاطري الكثير من الانطباعات عن السلامة وأصولها واهميتها ليس في مواقع العمل أو في الميادين والساحات الرياضية وأثناء قيادة السيارات وغيرها من ميادين تطبيق اصول ومتطلبات السلامة، بل السلامة في البيوت وخارج العمل، ونحن كسودانيين مقصرين للحد البعيد في نواحي السلامة ليس في مكاتب الدولة والمؤسسات العامة والخاصة وفي قطاعات الأعمال الاخرى فحسب بل في بيوتنا أيضا. كما هو معلوم فإن السلا مة أمر غريزي بالنسبة لكل كائن حي بما في ذلك الحيوانات ويقال ان الضب يوضب جحره يحيث يحتوي على (مخرج للطوارئ) ضمانا لسلامته وهروبه من العدو في حالة الهجوم عليه من الباب (الرئيس) لجحره. كما أن هناك بعض الحيوانات الثديية التي تضع خطة انسحاب منظم والهرب الى جحورها عند سماع صوت انذار خاص تصدره الفرقة (الأمنية) المناط بها حماية المجموعة وحراستها من هجمات عدوها اللدود الصقور. وهو نوع من الانذار المبكر. بل هناك الكثير من اجراءات السلامة التي تؤمن بها بعض الكائنات الحية أقواتها مثل ما يفعل النمل الذي يختزن مؤونته من الحبوب حيث يقوم بشق حبة الذرة أو ما شابهها الى نصفين حتى لا تنبت بسبب رطوبة الأرض(سبحان الله الذي علم النمل شروط الانبات). فإذا كان ذلك هو ديدن الحيوانات ومسلكها فما بالك ببني البشر الذين ميزهم الله بالعقل والحكمة ونعمة التفكير والتصرف السليم. وعليه يجب على أجهزة الدولة أن تضع السلامة في صدارة أولوياتها واهتماماتها ليس في مواقع انتاج البترول ومستودعاته (التي أصبحت بفضل التوسع العمراني داخل المدن والمناطق السكنية) والمعامل بل في مكاتبها وكافة مرافق وأعمال الادارات الحكومية، فضلا عن السلامة المرورية وسلامة الموظفين خارج نطاق العمل. وعلى الجهات الحكومية في ظل ظروف العمل المستجدة ان تبذل جهودا مقدرة ومستدامة لكي تصبح السلامة جزءا لا يتجزأ من تصرفات موظفيها وسلوكهم اليومي في العمل وخارج العمل. لذلك حري بنا أن نتوخي أصول وسبل السلامة في كل زمان ومكان وفي كل حين ووقت. ونسعى الى تطبيقها والعمل بها وعدم التقليل من شأنها مهما كانت الظروف، ولعل عواقب التراخي والكسل احيانا في تطبيقها تكوين وخيمة. وقد حض ديننا الحنيف على الأخذ بالأسباب وألا نلقي بأيدينا الى التهلكة فالوقاية خير من العلاج وطريق السلامة مهما طال فهو (للحول قريب) وعلينا أن نعقلها ونتوكل. سلمكم الله من كل شر وأذى. alrasheed ali [[email protected]]