زرت قبر أمي عليها رحمة الله ذات جمعة برفقة صغيري علي ذو الخمس سنوات.. وبعد أن دعونا لها بما فتح الله به علينا التفت نحو الصغير قائلاً (علي.. لما بعدين تكبر وبابا يموت لازم تجي تزوره في قبره وتدعو ليه).. أجابني بسرعة (حاضر.. لكن بشرط).. قلت له وما هو.. قال: تشتري لي (بطل ومصاصة وعصير).. ووافقت على الثمن العادل من فوري. حسناً.. إن كل المعاملات قائمة على الشرط.. وإنها قسمة عادلة في شرطها ورمزها وذلك بأن تحسن تربية صغيرك فتجده ذخراً لك وهو كبير.. والحياة في حركتها قائمة على الشرط فأنت تدفع لتصل وتعمل لتأكل وتأكل لتعيش، وتعيش لتعبد الله، وتعبد الله لتدخل الجنة و هناك فقط تكون نهاية حياة الشرط إذ لا شرط بعدها. وعملية التشييد في شكلها العام لا تختلف كثيراً عن هذه الشروط الصغيرة منها والكبيرة، إذ أنها مجموعة شروط ومواصفات واتفاقيات تكون في مجملها عقد التشييد، وهذه بالطبع مقدمة فلسفية لا بد منها لتهيئ القارئ وتتدرج به إلى عمق القضية. وعملية التشييد من العمليات المعقدة جداً، وذلك لعدة أسباب نختص ببعضها في السودان ونتشارك أخرى مع مجتمع التشييد من حولنا. أول تلك الأسباب هو أن تلك العملية والتي دوماً يكون فيها طرفان (مقاول ومالك) في معظم الأحيان وغالبها يكون أحد هذين الطرفين لا يفقه في أمر التشييد شيئاً، ويقول المنطق أنه المالك ولكن في حالات نادرة عالمياً ومتوافرة محلياً وبنماذج لا بأس بها يكون الطرفان لا يفقهان شيئاً، وبالنظر إلى الشائع من ذلك فإنه من المشهور أن ذلك الطرف الذي يكون قليل خبرة بأمر عملية التشييد يوكل عنه مستشاراً لينوب عنه في العمل الفني ويساعده في اتخاذ القرار المناسب، وتبرز المشكلة في أن هذا المالك دوماً تكون له آراء ونظريات تؤثر سلباً على عقد التشييد بدون حوجة لها أو لتدخله من الأساس. سبب ثاني في تعقيد ذلك الأمر أن عملية التشييد ليست هدف لذاتها في الغالب الأعم، إذ أن أمر التشييد يكون جزءاً من دورة حياة المشروع أو الاستثمار أو الفكرة، وتكون عملية التشييد معبراً للوصول للهدف الأساسي من المشروع سواءً أكان ذلك المشروع سكناً أو مصنعاً للإنتاج أو مخزناً للسلاح أو الدواء أو بئراً للبترول أو غيرها من الأفكار الصغيرة والكبيرة، ولما كان الأمر كذلك فإنه يكون من الواضح أن نجاح أو فشل عملية التشييد أو حتى تأخيرها يكون ذا أثر كبير على نجاح واكتمال الفكرة ككل، ومثال ذلك أن تأخير تشييد خزان صغير للمياه في إحدى القرى النائية (حفير) لمدة شهر واحد هي فترة الخريف يكون ذا أثر هدام لكامل فكرة المشروع مما لا يمكن علاجه وتلافيه حتى وإن اكتمل المشروع بعد ذلك بكامل زينته. أمر ثالث أن عملية التشييد من العمليات المكلفة جداً ويرتبط أمر نجاحها بأطراف كثيرة بعضها رئيسي كالمقاول والاستشاري وبعضها فرعي كالمهندس و خبرته والعامل و مهارته وبعضها شكلي و اجرائى كالقوانين واللوائح والمفاهمات، ولكن كل طرف من تلك الأطراف، الرئيسي منها والفرعي أو حتى الشكلي يمكن أن يؤدي إلى تعطيل العملية برمتها والدخول بها في تعقيدات قد تؤدي في النهاية إلى تعثرها بالكامل وسترد أمثلة مفصلة لكل ذلك إنشاء الله. لكل تلك الأسباب ولغيرها كانت عملية التشييد من العمليات المعقدة في السودان، وتخصيص السودان ههنا بذلك التعقيد ليس لوجود هذه الأسباب في السودان دون غيره، ولكن لتأثير وضع السودان كمكان لتلك العملية بظروفه وتعقيداته، تأثيره على مكونات وجزيئات تلك الأسباب بصورة أكبر مما قد نجده في دولة أخرى، فيكون ذلك سبباً مباشراً لتعقيد العملية بأكبر مما لو كانت في مكان آخر. عقود التشييد في السودان فكرة كتاب راودت كاتبها حتى تمكنت منه فرأي أن يجعلها في شكل مقالات متسلسلة تنفع المهندسين وطلبة العلم والمهتمين ثم يجمعها في كتاب يرجو أن يتم نقاش أفكاره في ورش وندوات في المنابر المتاحة وتكون ثمرة تلك النقاشات وتوصياتها عقود نموذجية للتشييد في السودان تهتدي بالشكل العالمي (FIDIC) ويكون لها خصوصيتها ومرونتها الداخلية مما يتيح فيها حرية الحركة لأعلى أو لأسفل حسب حجم ونوع وظرف المشروع، وهذا الجهد ومنه القبول وعليه التكلان.