قبل عدة سنوات .. وكنت مديرا للتشييد في إحدى شركات المقاولات حينها .. نفذّت إضافات مهمة وكبيرة في منزل سيده كريمة تنتمي إلى أسرة مشهورة في السودان .. كانت الإضافات مبنية على احتياجات دقيقة .. ولما كان المنزل مشيّد من طابقين وتحتاج تلك الإضافات إلى طابقين آخريين، فقد كانت كل مرحلة من مراحل التنفيذ تحتاج لترتيب ودراية واتخاذ قرار لحظي في بعض الأحيان لتحديد وجهة التنفيذ. استدعتني تلك السيدة ذات يوم وهي ذات خبرة كبيرة بأمور التشييد والتجارة أكسبتها إياها تجاربها و سنوات عمرها وشيب شعرها .. عندما وصلت إلى المنزل استقبلتني كالعادة بعصير المانجو ثم خاطبتني قائلة .. (أنا ما عاوزه المهندس بتاعك ده يواصل معاي في البيت .. غيرو لي) .. وبالطبع سألتها عن السبب .. أجابت بثقة .. (لأنه ما عنده تصوّر). حسناً .. فقد وصفت تلك السيدة الفاضلة مشكلتها ومشكلتنا بدقة .. (التصوّر) .. إذ في غالب مشاريع التشييد لدينا يكون هناك عدم قدرة على الانطلاق بالفكر إلى عدة سنوات قادمة .. بل في أحيان أخرى أشهر قادمة .. وذلك بالطبع من أهم المؤثرات على عقد التشييد، مثال ذلك أن يفكر أحدهم في تشييد عقار من طابق واحد .. أو اثنين .. بحيث أنه في تصوره لن يدخل في مرحلة أكبر من هذه في القريب العاجل .. لأسباب مالية أو لغيرها .. وذلك أمر جيّد وهو استغلال للموارد المتاحة بصورة فعّالة وبدون إهدار .. لكن ما هو الواقع .. في أكثر من 90% من المشاريع التي جرت أمام ناظري يتم تغيير خطة المشروع بصورة كبيرة قبل انتهاء العقد الأساسي للتنفيذ مما يجعل الطرفان إما في حاجة لعقد جديد أو يعملان بذات عقدهما والذي في ظني تقل فعاليته القانونية حينها إلى درجة كبيرة إن أحوجهما الزمن للقانون. وذات مغرب خرجت من منزلي وقلت فلأراقب العمران من حولي في منطقة تعتبر ذات نمو عمراني جيّد.. ووجدت عجباً.. المنطقة بكاملها تكاد تكون تحت التشييد.. فالجديد منها موجود .. وجزء آخر مقدر تجد أن الطابق الثالث تجري إضافته بعد انتهاء البياض الخارجي للمبنى وقبل استعمال العقار مما يدل أن اتخاذ القرار جاء متأخراً .. ونوع ثالث للمنازل والعمارات المسكونة .. إذ أن معظمها مشوه بحيث تجد آثار الإضافات العلوية من أعمال خرسانية ظاهرة بعد الانتهاء من كامل التشطيب والذي يدل شكله على أنه قريب جداً .. وماذا عن المشاريع الحكومية؟! .. و تلك أيضاً حسب تجربتي لا تختلف كثيراً عن المنازل والمشاريع الإنشائية للقطاع الخاص. ولكن ما المشكلة في ذلك.. ما المشكلة في أن تتداخل مراحل التنفيذ مع اتخاذ القرار.. ما المشكلة في انعدام التصور لشكل وحجم المشروع وأثر وعلاقة ذلك بعقود التشييد؟!. حسناً يجدر بنا أن نتحدث بعلمية ومهنية واحترافية بعيداً عن نظرية الكرم السودانية و (العفو لله والرسول) التي تدار بها عقود التشييد في السودان الآن.. وذلك لأننا أصبحنا في محيط هادر لا يمكن أن نحتمي من أمواجه العاتية، والوجود الأجنبي في البلاد صار بصورة كبيرة سواء في الجانب الاستشاري أو جانب المقاولات .. وبناءا على ذلك فلن نجد مقاولاً صينياً مثلاً يرد على طلبك (للعفو) بقوله (لله والرسول) .. ولن تجد مهندس عقود في شركة استشارية أجنبية أو شركة مقاولات تحترم نفسها سيعطي اعتباراً (لتحميرة) عينين يطلقها مسئول حكومي أو مالك مشروع أو تردعه تلك التصرفات من أن يطالب بحق يكفله له بند من بنود العقد أو أمر تغييري ورد بصورة رسمية. إذا تكمن المشكلة في تلك العقود .. والتي كنا سابقاً نضع فيها نسبة الزيادة أو النقصان 10%، ثم 15%، ولما لم تقم بالواجب ارتفعت إلى 20% وربما 25%، وهو أقصى نسبة يمكن أن تكون موجودة في عقد تشييد ولن يرضى مقاول بالطبع أن تقول له إن من حقي كمالك أن أزيد أو أنقص بنسبة 50% مثلاً .. إذ أن ذلك يؤثر بصورة كبيرة على طريقة تعامله وإدارته لكل بند من بنود المشروع وحساب ربحه وفائدته فيه .. ولما لم تكن تلك الزيادة متاحة (لنبرطع فيها على كيفنا) .. ستكون أمام متخذ القرار (المالك أو الاستشاري) خيارات محدودة لتنزيل الأفكار الإضافية الناتجة عن (عدم التصور) إلى أرض الواقع .. تبدأ تلك الخيارات بالأوامر التغييرية .. variation Order .. وهي بالطبع أول عتبة من عينات المشاكل والخلاف في مشاريع التشييد .. إذ أن كل أمر تغييري في أي مشروع يعتبر مشروعاً صغيراً قائماً بذاته تكاد تنطبق عليه جميع خطوات تنفيذ المشروع الأصل .. ولهذا يكرهه الاستشاريون لما فيه من إتاحة فرصة للتلاعب بالإدارة الزمنية والتخطيطية للمشروع .. ويكرهه المالك لما فيه من أموال طائلة تدفع (رغم أنه هو السبب فيه) .. وبالطبع يحبه المقاولون لما فيه من فرص رائعة للقفز فوق أي التزام سابق (فني أو زمني أو إداري) .. ولما يتيحه من سوانح لكسب المزيد من الأرباح، وكل من يتقن دنيا المقاولات يعلم علم اليقين بأن أرباح معظم المشاريع ذات العقود الضعيفة تكمن في أوامرها التغيرية. قلنا بأن الأوامر التغيرية هي العتبة الأولى لدى المالك أو الاستشاري لتنفيذ أفكاره المتأخرة وفي مرحلة لاحقة يكون مجموع الأوامر التغيرية للمشروع عبارة عن مشروع جديد ربما يفوق في بعض الأحيان قيمة العقد الرئيسي. وتلك مشكلة من الواجب أن نتحسب لها في مستقبلنا القريب، إذ أن السائد الآن أن الأمر يسير بالتراضي في العقود الخاصة، وتتم المعالجة قانونياً بتنفيذ عقد جديد للإضافات في العقود الحكومية وذلك إما بالتراضي أو بالإذعان. ولن تجد مقاولاً سودانياً بالطبع سيرفض شرطاً ما إن كان في ذلك الرفض ضياع لفرصته نهائياً في المشاركة في أي مشاريع لاحقة للمؤسسة التي يعمل لها .. وذلك حتى الآن!. وفي ظل الاهتمام المقدر بالعمل الاستشاري الذي باتت توليه الدولة والقطاع الخاص عنايتهما في مشاريعهما، في ظل وجود هذا الطرف الثالث، من المتوقع أن تؤدي طرق التعاقد المنقوصة في فكرة المشاريع إلى تعقيدات كبيرة ربما تؤثر سلباً على سير المشروع بأكمله. في هذه الجزئية.. مستندات العقد وطرق التعاقد .. يجدر بنا أن نولي اهتماماً بالتخطيط المسبق للمشاريع وإعطاء ذلك الأمر وقتاً كافياًَ حتى تخرج الفكرة مكتملة وواضحة ومبنية على أرقام وحقائق لا خواطر وتصورات، ثم يجب إعطاء المكاتب الاستشارية وقتاً معقولاً لانجاز مستندات المشروع بصورة مكتملة ومراجعة ومعتمدة، وذلك سيوفر زمناً غالياً يمكن أن نفقده أثناء التنفيذ في حال تم استعجال الأمر فضلاً عن الخسائر المادية. وثمة أمر هام وهو الطريقة التي يتم بها التعاقد، إذ يجب أن يكون فيها شيئاً من المرونة والأخذ والرد بين المالك والمقاول.. فيجب الاستماع إلى وجهة نظر المقاول و اشراك الاستشاري في صياغة العقد .. خصوصاً في المشاريع الحكومية .. والابتعاد عن نظرية (عقدنا ثابت) والتي إن أسرعت بك وأغرتك بالنصر في البداية، فإنها ستكون كبوة عليك و هزيمة للمشروع في النهاية وذلك بفهم مبسط لطبيعة المقاول من أنه خرج ليكسب ولن يرضى بالخسارة، فإن وافق الآن ليكسب المشروع، سيتحايل غداً ليكسب المال، ولن نجد أفضل وأنسب من العقد المتوازن ليسرع بنا إلى غاياتنا.. ونواصل.