أخيراً ، أصدرت المحكمة الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية في سيراليون حكمها بإدانة الرئيس الليبيري السابق تشارلس تايلور في تهمتين من التهم الأربعة التي كانت موجهة ضده وهما التحريض على ارتكاب الجرائم ودعم الجبهة الثورية المتحدة في سيراليون بالمال والسلاح. كانت الجرائم موضوع المحاكمة معلماً بارزاً من معالم الحرب الأهلية التي شهدتها سيراليون في الفترة من 1991 وحتى 2002 ، وقد عرفت الجبهة الثورية بأسلوبها الوحشي في التعامل مع أعدائها ومع المواطنين الذين رماهم حظهم العاثر في طريقها. كان الرئيس تايلور ضالعاً كذلك في تجارة الماس الذي يتم استخلاصه من مناجم سيراليون عن طريق العمالة المسخرة من الأطفال والنساء ، وكان يزود مقاتلي الجبهة بالسلاح مقابل ما يحصل عليه من أحجار كريمة عرفت في الإعلام العالمي وقتها باسم "الماس الدموي". كانت هذه الاحجار الكريمة تمر عادة عبر مصانع إسرائيلية لتنتهي زينة في معاصم وأعناق نساء الأثرياء من أوربا والولاياتالمتحدة وغيرها من دول العالم الأول. ومن الشهادات الملفتة للأنظار خلال المحاكمة كانت الشهادة التي أدلت بها عارضة الأزياء الشهيرة نعومي كامبل وأكدت فيها أنها تلقت هدية من الرئيس تايلور عبارة عن كمية من أحجار الماس الخام ، كما استمعت المحكمة لشهادة الممثلة المعروفة ميا فارو التي كانت بصحبة كامبل ونيلسون مانديلا خلال زيارتهم لمنروفيا. اشتملت التهمتان اللتان أدين فيهما الرئيس تايلور على التفاصيل المألوفة في حالات الحروب والصراعات في أفريقيا مثل القتل ، والاغتصاب ، والاسترقاق الجنسي ، وتجنيد الأطفال بالإضافة لعمليات بتر الأطراف التي مارستها على نطاق واسع الجبهة الثورية المتحدة في سيراليون. لم تتوفر للمحكمة أدلة كافية لإدانة الرجل في التهمتين الأخطر وهما المشاركة الفعلية في ارتكاب الجرائم المذكورة أو إصدار الأوامر المباشرة بارتكابها ، مما يعني أن الحكم الذي سيصدر في نهاية مايو الحالي قد لا يكون قاسياً بالدرجة التي يتوقعها الكثير من الضحايا. استغرقت جلسات المحاكمة عدة سنوات استمعت خلالها هيئة المحكمة لما يزيد عن التسعين شاهد إثبات ، واطلعت على 1520 وثيقة تدعم التهم الموجهة للرئيس تايلور، وبلغ حجم التقارير التي أعدت عن شهادات الشهود ما يزيد عن الخمسة عشر ألف صفحة. وربما كان قرار المحكمة بإسقاط التهمتين اللتين أشرنا لهما أعلاه وراء الاعتقاد السائد بين العديد من مواطني ليبيريا - كما أثبتت بعض استطلاعات الرأي - أن الرئيس السابق برئ ، وأن المحاكمة لا تعدو أن تكون مؤامرة دولية ضد بلادهم. وهو أمر يعكس دون ريب مدى عمق أزمة المصداقية التي تعاني منها المحكمة الجنائية الدولية في أفريقيا ، غير أنه يتعارض في نفس الوقت مع ما أبداه بعض المراقبين الأفريقيين من أن مجرد انعقاد المحكمة خارج أفريقيا إنما يشير لانعدام الحريات والديمقراطية ، وشيوع سياسة الإفلات من العقاب داخل القارة نفسها. تباينت ردود الفعل حول الإدانة بصورة كبيرة ، فبينما احتفل السيراليون في الشوارع ابتهاجا بالحكم ، فإن العديد من الليبيريين قابلوه بالغضب الشديد لإحساسهم بأن رئيسهم يحاكم بسبب جرائم ارتكبت في بلد آخر. وبالرغم من السمعة السيئة التي اكتسبها تايلور بسبب هذه المحاكمة فإن قطاعات عريضة من الشعب الليبيري لا زالت تكن له الاحترام إذ أنه ومن وجهة نظرهم حقق حالة من الاستقرار في بلادهم بعد فترة حكم صامويل دو التي تميزت بالعنف والاضطراب. كما يرى الكثيرون أن البلاد خطت خطوات مهمة على عهد تايلور في طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وأن عهده قد تميز بالرخاء الاقتصادي حيث تمكن من تجاوز محنة نقص الغذاء التي كانت تعاني منها ليبيريا. وتقول التقارير أن الإدانة كانت مفاجئة لقطاعات واسعة من الليبيريين إذ أن تفاصيل المحاكمة لم تكن تتابع بصورة دقيقة داخل ليبيريا نفسها لذلك فإن العديد من محبي الرئيس تايلور كانوا يتوقعون براءته ، وخرجوا يوم النطق بالحكم وهم يحملون الأعلام واللافتات التي ترحب بعودته ظافراً من لاهاي ، علماً بأن عدداً من أمراء الحرب الأهلية الليبيرية يحتلون الآن مواقع مهمة في الدولة بعد أن تمكنت ليبيريا من تجاوز أزمتها عن طريق المصالحة الوطنية. تعتبر محاكمة تايلور حدثاً تاريخياً فريدا فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يحاكم فيها رئيس أفريقي أمام محكمة الجنايات الدولية ، بل أنها المرة الأولى منذ محاكمات نورمبرج التي يدان فيها رئيس دولة أمام العدالة الدولية. كان الرئيس اليوغسلافي سولوبودان ميلوسوفيتش قد مثل أمام محكمة دولية إلا أنه توفي أثناء المحاكمة وقبل صدور الإدانة بحقه. لم يكن من الغريب إذن أن تهلل المنظمات العاملة في مجال حماية حقوق الانسان لصدور الحكم ، فقد صرح رئيس مكتب منظمة العفو الدولية في سيراليون بريمة عبد الله شريف أن المحاكمة تعتبر نقطة تحول مهمة في تاريخ العدالة الدولية ، وأنها تبعث برسالة واضحة للحكام في كل أنحاء العالم وفي أفريقيا بصفة خاصة فحواها أنه ليس هناك شخص فوق القانون مهما علت مكانته. من جهة أخرى ، طالب شريف حكومة ليبيريا بأن تحذو حذو المحكمة الجنائية الدولية وتقوم من جانبها بتقديم المئات بل الآلاف من مواطنيها الذين شاركوا في عمليات انتهاك حقوق الانسان في سيراليون للمحاكمة. و أشار في هذا الصدد إلى أنه وبالرغم من الارتياح الذي قوبل به قرار المحكمة الجنائية الدولية إلا أن تايلور والمتهمين الإثني عشر الآخرين لا يمثلون إلا قمة جبل الجليد على حد قوله. أثار بريمة في تصريحه نقطة مهمة وهي تعويضات الضحايا من مواطني سيراليون حيث أشار إلى أن الآلاف منهم لا يهمهم محاكمة تايلور بقدر ما يهمهم التعويض عن الأضرار المادية والجسدية والنفسية التي تعرضوا لها بسبب ممارسات الجبهة الثورية المتحدة. وبالنظر للاموال الطائلة التي صرفت على المحاكمة والتي تقول التقديرات أنها قد فاقت 250 مليون دولار حتى الآن ، فإن الكثيرين وبصفة خاصة دافع الضرائب الأمريكي الذي تحمل العبء الأكبر يتساءلون عن جدوى مثل هذه المحاكمات في الوقت الذي تستمر فيه معاناة الضحايا. وتشير بعض الأنباء إلى أن المتهم نفسه كان يكلف شهريا ما يعادل مائة الف دولار ، وأنه كان يعيش في سجن "خمس نجوم" حتى أنه رزق طفلاً خلال فترة حبسه. لا شك أن قرار المحكمة سيقابل في أجزاء مختلفة من القارة الأفريقية بالكثير من ردود الفعل بين مؤيد ومعارض ، غير أنه سيطرح من جديد ما يثار حول عمل المحكمة من شكوك تتعلق باستهدافها لدول العالم الثالث والدول الافريقية بصفة خاصة. كما سيعيد للاذهان ما سبق أن كشفت عنه ويكيليكس عن أن أحد التقارير الصادرة عن الخارجية البريطانية يشير إلى أن الحكومة تشكو من أن المحكمة تعرقل أحياناً بعض خطواتها نحو تحقيق نتائج على أرض الواقع ، إلا أنها ترى فيها آلية للضغط على القيادات في بعض الدول لتحقيق أهداف سياسية محددة. ولا تسلم المحكمة من الانتقاد على المستويين الفني والاقتصادي كذلك. فعلى المستوى الفني يرى البعض أن الممارسة التي تتبعها المحكمة بتحمل تكاليف الشهود قد تقدح في مصداقية الشهادات التي يدلون بها أمام المحكمة ، وقد أشار محامي الدفاع عن الرئيس تايلور لتلك الحقيقه في رده على التهم الموجهة لموكله متهما المحكمة بأنها تتحرك وفق دوافع سياسية. كما اتهم المحامي المحكمة بتطبيق معايير مزدوجة ففي الوقت الذي تحاكم فيه تايلور على جرائم ارتكبتها حركة متمردة ، فإنها لا تطبق نفس المعايير على دول مثل الولاياتالمتحدة أو بريطانيا اللتان تدعمان مجموعات متمردة في مختلف انحاء العالم. ويثير تعثر تمويل المحاكمات انتقادات عديدة من بينها أن ذلك يقود لاستمرارها لفترة طويلة لعدم توفر التمويل في الوقت المناسب ، مما يفقد العدالة معناها. وبالنظر لما أشرنا له أعلاه من أن محاكمة الرئيس تايلور قد كلفت حتى الآن ما يربو على 250 مليون دولار فإن لنا أن نتخيل تكلفة المحاكمات في القضايا الأخرى المطروحة أمام المحكمة والتي فاق عددها حتى الآن العشرة قضايا. وتثير بعض الجهات خاصة في أوساط منظمات المجتمع المدني إلى أن الضحايا لا يستفيدون عادة من هذه المحاكمات المطولة والتي تعالج قشور المشاكل دون لبابها ، ويرى بعضهم أن صرف هذه الأموال على التعويضات ومشاريع التنمية في الدول الأفريقية ربما كان أجدى واكثر نفعاً. ولعل أشد الانتقادات وقعاً على مصداقية المحكمة الجنائية الدولية هو أن ثلاثة من الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن لم يصادقوا بعد على نظامها الأساسي ، ومن بينهم الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تبدو الأكثر حماساً لاستعمال آلية المحكمة بدعوى تحقيق العدالة الدولية. Mahjoub Basha [[email protected]]