كلما نويت الكتابة في مثل هذه المواضيع "الجادة" جاءني صوت والدتي – رحمها الله - تقول بلهجتها الشايقية: "لي شنو؟"؛ ثم يأتيني بعد ذلك صوت سعد باشا زغلول الجهوري:"مافيش فايدة! غطّيني يا صفية". البوربون الجدد لا يسمعون، وإن سمعوا لا يتذكرون، وإن تذكروا لا يعون. ما دفعني للكتابة - رغم نصيحة والدتي وسعد باشا– هو السيل المنهمر من "القراءات" في قرار مجلس الأمن الأخير وفي "مآلاته" ( بصراحة، أصبحت أكره كلمة مآلات أكثر من تعبير خارطة الطريق). وقلت في عقل بالي أن الله ربما قيّض للبوربون الجدد، وهم في "زرّتهم" الحالية، أن يستمعوا ولو لمرّة واحدة لكلام من يُبكيهم بعد أن شرطهم الضحك، أو كاد. أولا، لا يمكن ولا يجب أن يُقرأ القرار في فراغ أو بمعزل عمّا سبقه من قرارات (وما أكثرها)، فالقرار مشدود بإحكام إلى أوتاد راسخات في التاريخ والجغرافيا والواقع والذاكرة، "ولو إنت نسيت" أو تناسيت، فالآخرين لا ينسون؛ ومشدود بإحكام أيضا إلى قرارات عديدة أخرى صدرت عن نفس المجلس ومن الإتحاد الأفريقي ومن لجان الوساطة وآليات التنفيذ. من الخطل إذن انتقاء الجوانب "الإيجابية" في القرار وابرازها واغفال الجوانب "السلبية" فيه. القرار كل متكامل وحلقة لا تنفصل عن حلقات سابقات ولاحقات، ترفضه كله (إن استطعت)، أو تقبله كله. جرعة مُرّة لا يمكن أن تبتلعهاالحكومة ويتقيأها البرلمان والحزب و"المنبر" والصحف ومراكز البحث والفضائيات "الملّاكي" وترزية التحليلات الاستراتيجية. ثانيا، لماذا تواصل الحكومة خداع نفسها باعتبار الإتحاد الأفريقي ومجلس أمنه وسلمه وآلياته كيانا محايدا ومستقلا عن مجلس الأمن الأممي وعن ما يسمى بالمجتمع الدولي؟ افلا تنظر إلى سجل تصويت الدول الأفريقية الأعضاء في مجلس الأمن على القرارات الخاصة بالسودان، وهي المُناط بها تمثيل وجهة النظر الأفريقية داخل المجلس؟ أفلا تنظر من أين يأتي تمويل أنشطة الإتحاد الأفريقي وقواته الهجين؟ ثالثا، أما "التدويل" فأمره عجب. سعوا له بظلفهم في قضية الجنوب سعيا محموما قادهم إلى أبوجا الأولي "خالص"، ثم إلى عواصم الدنيا ومنتجعاتها، وسعوا له لدى الوسطاء من أقطار الدنيا، والمبادرات من كل لون. جلسوا في قاعات الاجتماعات في مدن الشرق والغرب. ينظر إليهم الوسطاء في حيرة، يتساءلون ما بال هؤلاء القوم وما حاجتهم بالوساطة والوسطاء وهم أبناء الوطن الواحد؛ حين يلتقون خارج بلادهم في حللهم الأنيقة، "يقلِدون" بعضهم البعض ويقهقهون ويخبطون ظهور بعض في إلفة عجيبة، ثم يعودوا إلى بلادهم، يفجُرون في الخصام ويحتربون ويحرقون الأرض ومن عليها وما عليها، حتى أتاهم في نيفاشا من لا يرحم، فألقمهم شروطا مجحفة كانوا في غنى عنها لو أنهم جلسوا إلى غرمائهم دون وسطاء قبل عقد من الزمان. أما تدويل مشكلة دارفور فأمر غير مسبوق يستحق دخول كتاب غينيس للأرقام القياسية. لم يبق في العالم دولة صغيرة أم كبيرة لم ترسل وزير خارجيتها أو مبعوثها الخاص ليزور الفاشر، ثم انتهى التدويل، بموافقة الحكومة، إلى وجود مكثّف لقوات أجنبية (أممية أم هجين) أحد واجباتها حماية المدنيين (السودانيين) داخل وطنهم! رابعا، أما الكيل بمكيالين فهو أحد حقائق الدنيا التي لا ينكر وجودها ألا مكابر أو جاهل، نراه على المستوي الفردي والوطني والعالمي. غير أنه ترف لا يطيقه إلا الأقوياء. ترى الولاياتالمتحدة تكيل بمكيالين، ثم تدوس على المكاييل والمكتالين غير آبهة بالنتائج. أما الضعفاء فإنهم يكيلون بعشرات المكاييل لكنها لا تلبث أن تسقط فوق رؤوسهم. كيف تنتقد مجلس الأمن انتقادا مرا وأنت تهرع إليه كل صباح تشكو عدوان ذوي القربى، الحقيقي والمُتوهم؟ العقل زينة، والعاقل من ينظر إلى الدنيا ويتعامل مع حقائقها؛ مجلس الأمن ليس محكمة بل محفل سياسي يُسيّره الأقوياء. هكذا كان وهكذا يظل إلى أن تنقلب موازين القوة. والعاقل من عرف قدر نفسه و تجنب "الطريق إلى مجلس الأمن". والوسطاء يأتون بأجندتهم المُعلنة والخفية، وبنواياهم البريئة والخبيثة، وبمصالحهم الضيقة والواسعة. هكذا كانوا وسيظلون، والعاقل من تجنب اللجوء إليهم، أو تعامل معهم بأعين مفتوحة، وقَبِل بالتبعات في جلد. والعاقل من اتعظ بأخطائه وأخطاء غيره. ألم تر ماذا حل بصدام حسين وبالعراق بعده؟ دعا عقب هزيمة حرب الخليج الأولى في عام 1991 كل سفراء العراق بالخارج إلى بغداد "للتفاكر"، غير أنه حدد مسبقا سقف التفاكر: لا يُسمح بالنظر إلى الوراء، ولا تُقبل الأسئلة مثل لماذا؟ وكيف؟ ومن المسؤول؟ قال لهم: "من هنا ولي قدام. هيا أصنعوا الشربات من الفسيخ!". وتأمل أين قاد هذا النهج صدام والعراق العظيم من بعده. نصيحة لوجه الله تعالى: إقرأوا قرار مجلس الأمن في ضوء قرارات وسياسات هذه الحكومة منذ 1989، يرحمكم الله! إيلاف 16 مايو2012