لماذا تراجع الدور البريطاني خلال المفاوضات..؟ تُبرز صفحات كتاب "إندلاع السلام" للوزيرة النروبجية"هيلدا جونسون"؛ ملاحظة جديرة بالإنتباه تتمثل في تراجع الدور البريطاني لمستوى يكاد أن يكون بروتوكوليا مع نهايات مفاوضلت نيفاشا..! لقد جاء ظهور التدخل الغربي إلى العلن والمباشرة من خلال "منبر شركاء الإيقاد"، والذي فوّضترويكا من النرويج وبريطانيا والولاياتالمتحدة.وإذا ما نظرنا إلى طبيعة دور كل من الأعضاء الثلاثة؛ نجد أن النرويج كانت قد فرضت نفسها لاعبا فاعلا في الشأن الدولي بطرق مباشرة وغير مباشرة، وذلكبتكامل مراكز بحثها ومنظماتها الطوعية بتنسيق ودعم حكومي،مما خلق لها حضورا مؤثرا في كثير من مناطق الأزمات السياسية والكوارث الإنسانية.. وسواء أن كان ذلك منهجا منهالتميّز به وضعها دوليا، أوكان ذاك هو الدورالمنوط بها ضمن المنظومة الغربية، فقد صارت لها خبرة واسعة في هذا المجال. وقد تأسّس وجودها في جنوب السودان بمنظمة العون الكنسيمنذ أديس أبابا1972 ثمّ بمنظمة العون الشعبي ذات الصلة المباشرة بالحركة الشعبية. الولاياتالمتحدة بعد إنفرادها كقطب أوحد منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي صارت ترى أنّ حدود أمنها القومي هو حيث ما تقدّره لنفسها من مصلحة حيوية، وقد أتاحت لها "يدها اللاحقة" حرية واسعة في تحديد ذلك المجال ولو تكّلفا بحجة دورها في حفظ السلم العالمي..وكثيرا ما تحكّم في إيقاع تعاملها مع القضايا التي لاتمس أمنها القومي مباشرة هاجس مردود الحملات الإنتخابية التي تتجدد البرلمانية منها كل سنتين..ودون الدخول في تفاصيل إستراتيجيتها حيال السودان، نلاحظأنإجراءات سياستها قد أخذت سمة ومسار ذلك النهج والمزاج السياسي الأمريكي المتمثل في ضرورة "أخذ الثأر ورد الإعتبار" . وبالتالي فقد عملت على تفكيك نظام الإنقاذ من خلال تداولات وصياغة بنود إتفاقية السلام في "نيفاشا" ثمّ بروتوكلاتها التنفيذية. وتشير "هيلدا جونسون" في كتابها "إندلاع السلام" إلى أن رئيسي طرفي التفاوض الوطنيين كانا مدركين لطبيعة الضغوط الأمريكية ولكنهما كانا واثقين من قدرتهما على تجاوز ذلك عند التنفيذ. أما نظرة "العرّاب" النرويجي هيلدا جونسون للدور الأمريكي؛ فتلخصها في: "على الرغم من أن النفوذ السياسي للولايات المتحدة بجزرتها وعصيّها كان مهما لنجاح الترويكا، ولكن كان الإميريكيون أقل فاعلية عندما يعملون منفردين بدون نصح البلدان الأخرى". وبالفعل نجد الولاياتالمتحدة على صعيد القضايا الدولية كانت دوما في حاجة لعون بريطانيا في تبرير وتمرير أو قل فرض القرارات الأممية، ومن ثمّ جعل التنفيذ "مبلوعا".. وقد إستفادت بريطانيا من حاجة الولاياتالمتحدة في هذا الإتجاهفكانتتنجح دوما في تنفيذ رؤيتها واقعا من خلال "الأمريكي"؛ بمنهجها المتفرّد في التعامل مع القضايا العالمية الحادة، المكتسب من تراكم معرفي وسياسي وثقافي وإستخباري بتفاصيل أوضاع العالم، توفّر لهامن إستعمارها وإدارتها لأمم ذات تاريخ وعراقة .فقد كانت بريطانيا دوما العنصر الحاسم وراء المواقف العملية حيال الأزمات الحادة والحاسمة؛ كما يتضح ذلك من مراجعة تطورات أحداث العراق وأفغانستان وكوسوفو وأخيرا ليبيا، وربما ينتظرها الآخرون لتبلوّر الموقف الدولي حيال سوريا. وقد كانت بريطانيا من بين مجموعة "الترويكا" هي الأكثر معرفة بتفاصيل أوضاع السودان تاريخيا وسياسيا وإداريا؛ بمساهمتها في تشكيله جغرافيا بفرض حدوده الدولية إقليميا وتحديد الداخلية منها منذ منتصف القرن التاسع عشر،وكانت عنصرا فاعلا في تشكيل شخصيته الثقافية والسياسية منذ بداية القرن العشربن. وبالتالي فقد كانت الأقرب نسبيا من بين ثلاثة الترويكا على تقديم مقترحات أقرب معقولية وأوثق شهادة لنقاط النزاع تفاوضا وتنفيذا،وذلك بالمقارنةبالنرويجي الذي كان أكثر إقتناعا بأطروحات الحر كة الشعبية؛إذكان موقفه قد تأسس إبتداء على تداعيات وإسقاطات إرتباطهابمسألة جنوب السودان عقب توقيع إتفاقية أديس أبابا 1972، ومن ثمّ إعتمدت وثبتت عليه مواقف نظرية وفكرية وربما عقدية لدى المؤسسات النرويجية. ولا تخفي الوسيطة النرويجية هيلدا جونسون تلك القناعة الفكرية حينما تشير في كتابها إلى ردّها على تساؤل رصيفتها، وزيرة التنمية الدولية البريطانية "كلير شورت" في نقاش معها في لندن 1998 بما تسميه ممازحة لها "إمّاكانت "هيلدا" قد أصبحت من أنصار الحركةالشعبية..!"، فردت الأخيرة بأن "تأييد حل عادل للجنوبيين والشعوب المهمشة الأخرى في إطار تفاوضي متفق عليه لا يعني مناصرة الحركة الشعبية"..! إنّ مراجعة تطوّر مفاوضات السلام منذ "مشاكوس" مرورا ب"ناكورو إنتهاء ب" نيفاشا" عبر مراحلها المختلفة تشير بوضوح إلى أن الوسيط النرويجي قد إستخدم الأمريكي في الضغط عند الحاجة مستفيدا من تأثيرذلك على الطرفين الوطنيين وإستجابتهما في نهاية الأمر؛ حيث أن الجنوبي كان مطمئنا إلى أن المحصلة النهائية مهما كان المظهر الخارجي للمعالجة الأمريكية لن تكون ضده، طالما أن الهدف الأمريكي هو تفكيك نظام الإنقاذ، والذي هو بذاته قد أضحى حذرا من "العِصيّ" الأمريكية أكثر من الطمع في الجزرة. بل إن الحكومة السودانية كانت سعيدة بإرتباط الولاياتالمتحدة بالمفاوضات، حسب ملاحظة "هيلدا جونسون"..ولا شك أن المفاوض الجنوبي كان مطمئناأن النرويجي لن يضيعه، وذلك في جو من تعلّق الحكومي بمركب هذا الأخير، لما يظنه مخرجا أخيرا، في ظل ما يعيشه من يأس من عدالة في مواقف الدول الغربية وزهد في جدية وقدرة من جانب الشرقية، الصين وروسيا. ولعل المفاوض الحكومي لم يلاحظ في جو ضغط الواقع المحيط به وفي غمرة ما ظنه فاعلية للنرويجي، أن هذا الأخير كان يدفع بالبريطاني إلى خارج دائرة المشاركة دعك من المساهمة في مجريات التفاوض منذ وقت مبكر،ومن ثمّ إنفرد النرويجي بالعنصر الأمريكي وألياته الفاعلة وحاجته لإستكمال ذلك بفاعلية العنصر الأوربي. أما الحركة الشعبية فقد كانت حذرة من النهج البريطاني في معالجة نقاط الخلاف. فلا ضمان لديها من أن يأتي ذلك النهج مؤسّسا على شهادة وربماعقلية ورؤية "الأب" الذي كان فاعلا رئيسيا في بلورة وتخليق السودان إلى وضعه الحالي. وقد كان البعض من وفد الحركة يطلقون على الممثل البريطاني "ألن قولتي" إسم مستر "قِلتي"GUILTY تلميحا إلى أنه يتصرف بعقلية وإحساس ذنب المستعمرالسابق.. وتورد هيلدا جونسون في كتابها "إندلاع السلام" بعض شواهد على عدم رضى الممثل البريطاني، والتي ربما إنتهت به إلى الإسترخاء حيال ما يجري في نيفاشا؛ فتقول " إن الممثل البريطاني "قولتي"، والذي كان ملما بالأحداث الدائرة في السودان، كان متشككا في الصفقةالتي إعتمدتها الترويكا للسلام في السودان وساندتها سابقته كلير شورت"،والتي كانتمعلوماتها عن الشأن السوداني قد تأسستخلال إجتماعها الأول برصيفتها النرويجية هيلدا جونسون والتي رتبت لها لاحقا لقاء إنبهرت فيه ب"جون قرنق" رئيس الحركة الشعبية.. ففي تفصيلها للإجتماع التحضيري للترويكا في لندن إعدادا لإجتماعات "ناكورو" لإتخاذ موقفا موحدا حول بعض القضايا المفتاحية،تقول هيلدا جونسون " ظهرت خلافات جوهرية حول القضايا التي حوتها الوثيقة الإطارية وفضلت بريطانيا الغموض "أي التعميم" أو إنحازت بموقفها إلى الخرطوم.ومن جانب آخر رغبت الولاياتالمتحدة والنرويج في الوضوح" أي المباشرة" بشأنكافة القضايا المفتاحية". وتقول هيلدا جونسون "إن المباحثات في لندن كانت ساخنة للغاية، ولم يوافق "قولتي" علىالإستراتيجيةوعلى العديد من القضايا الجوهرية"..وقد حافظ"قولتي"على نفس المنحى عند تناول موضوع العاصمة القومية؛ حيث تقول الوزيرة النرويجية هيلدا جونسون إن تعليماتها الواضحة لفريقها كان هو "عدمالقبول بأي شيء أقل من حل يسمح للجنوبيين بالتجول في المدينة بحرية دون خوف من مضايقة الشرطة أو الأجهزة الحكوميةالأخرى". وأنالموقف الواضح للممثل البريطاني كان هو :" ألّانقترح أو نصادق على مسودة الإتفاق الإطارية طالما تبنّت مواقف واضحة مثل ميلها نحو وجهة نظر الحركة الشعبية، إذ يجب ترك مثل مسألة العاصمة القومية لحسمها بواسطة طرفي التفاوض مباشرة". وتقول الكاتبة إن النص الذي إقترحه االخبراء بشأن العاصمة القومية في نهاية الأمر جاء مطابقا للموقف الأميركي- النرويجي.. ولا عجب، إذ وفقا لإفادة هيلدا جونسون"كان المبعوث الخاص النرويجيفيغارد إليفسن هو المهندس الفعلي لإستراتيجية "حققه أو أتركه". وتضيفأنه "بعد موافقة مترددة من بريطانيا" تم تسليم مسودة الإتفاق الإطاري إلى مفوّض الإيقاد الجنرال "سيمبويا" ومن ثمّ للطرفين، حيث وافق عليها وفد الحركة ورفضها جانب الحكومة بالكلية مما أدى لإنهيار مفاوضاوت"ناكورو". ولنا أن نتصوّر أو نفترض ما كان سيؤول إليه التفاوض حول "أبيي" بروتوكولا وملحق تنفيذ لو قدر لممثل بريطانيا أن يواصل المشاركة بفاعلية أو لو أنّها كانت ممثلة في لجنة خبراء "أبيي". تلك اللجنة التي كانت في الواقع وفقا لتوصيف دورها بمثابة "لجنة تحكيم" تُرك الإختيار لها للولايات المتحدة بالكلية دونما دور للطرفين الوطنيين في الإختيارأو حق الإعتراض والفيتو على أي من أعضاءها، فجاءت بأكاديميين بحتين تعرّفوا على مسألة "أبيي" أبتداء من خلال الورق. وجدير بالملاحظة هنا ما أوردته الوسيط النرويجي "هيلدا جونسون" من أن ممثل بريطانيا في الترويكا "ألان قولتي" " أنطلق مهاجما ومنتقدا الدور الأخيرالذي لعبه الإمريكان في نيفاشا وأنه كان يخشى أن يقود السلوك الأمريكي إلى حرف المفاوضات عن مسارها". وبالطبع ليس المجال هنا للتحليل والوصول إلى نتائج نهائية بشأن الموقف البريطاني، ولكن ذلك لا يمنع قول إن الرؤية البريطانية لم تكن متطابقة مع تلك النرويجية التي تكاد أن ترقى لدرجة العقدية والمنحازة للحركة الشعبية، والتي ربما لم يكتشفها المفاوض الحكومي بسبب قدرات النرويجي الأوربي على تغليف مواقفه بسمة الحيادية التي تدعي إعتماد الحجة والمنطق وليس أي وسيلة أخرى، مما يمكن أن يوحى للمفاوض الحكومي أن هنالك ثمة فرصة ومجال للنفاد من ضغط وعصا الأمريكي المتنفذ بقوته، وفي ذلك الجو الغامر بالثقة مع زعيم الطرف الوطني الآخر. الصحافة20.5.2012