بسم الله الرحمن الرحيم بقلم: محمد قسم الله محمد إبراهيم* [email protected] نهاية الحرب العالمية الثانية ظهر فرع مستقل من النظرية الاقتصادية، يُطلق عليه اقتصاديات التنمية ، وكلمة تنمية تشمل جوانب إقتصادية وإجتماعية وسياسية وثقافية ، بمعني أنّ التنمية عملية نهوض حضاري شاملة. وفي منهجيات إقتصاديات التنمية هنالك طريقان لإحداث التنمية أوَّلهما التنمية المتوازنة أي أن تقسم (النبقة بين الفُقرا) وثانيهما التنمية غير المتوازنة أي أن تُعطي (النبقة) لشخص واحد دون (الفُقرا) ، وفي هذه الأخيرة يتم التركيز علي الأقاليم الأضعف بنيوياً بُغية تحسينها لكن بمعايير موضوعية وعادلة. وباعتبار أنّ الأثر الحقيقي للتنمية يُقاس بمقدار تحسين ظروف الحياة لأفراد المجتمع ،فإنّ الإنسان أو الفرد في نهاية الأمر هو الهدف من التنمية، وتحسين نوعية الحياة التي يعيشها هو المقياس الحقيقي للنجاح فيها. فإذا اقتصرت التنمية علي رفع معدلات النمو _وشتّان ما بين التنمية والنمو كما سنري_ دون أن تتحسن نوعية حياة السكان لا يمكن القول إطلاقاً أنّ ثمة تنمية حقيقية قد تحققتْ. ومن المفيد هنا بالضرورة التمييز بين هذين الإصطلاحين .. التنمية الإقتصادية (Development) والنمو الإقتصادي (Growth) ، فالنمو الإقتصادي يُشير إلي زيادة في بعض الكميات الإقتصادية ، في حين أنّ التنمية تشير إلي تعديلات هيكلية في الإقتصاد والحياة الإجتماعية فهي تعني مزيد من الإنتاج والخدمات ومزيد من الرفاهية والرخاء. وعمليّاً فإنّ الإحتفاء والضجة التي نمارسها إعلامياً بسبب زيادة معدلات النمو حتي ولو تقدمت علينا تشاد في ذلك وتشاد تتفوق علي السودان من حيث معدلات النمو أقول لا داعي لافتعال إحتفاليات لا تُسمن ولا تُغني من جوع علي الأقل من وجهة نظر العبد لله كاتب هذه السطور فالنمو شئ والتنمية شئ آخر تماماً . إذْ إنّه لا يمكن إعتبار أنّ التنمية قد تحققت لمجرد إرتفاع معدلات نمو الناتج القومي الإجمالي أو الدخل القومي كما أنه من الأهمية بمكان الإهتمام بالكيفية التي يتولد بها هذا النمو كذلك النظر _ وفي هذا أعظم الخطر _ إلي حالة توزيع الدخل بين السكان وكمثال ما نراه من مظاهر التنمية والرفاه العمراني والإقتصادي والإجتماعي في شوارع الخرطوم وما استتبع ذلك من مظاهر وظواهر إشباع حاجيات تلك الفئة المرفهة وبقية فئات الخرطوم ممن تراه جائلاً ناحلاً شارد الذهن في شوارع الخرطوم ومجاري الخرطوم و... و... وهذا ما يحدث بين بعض الخرطوم وبعضها. فما شأن الذي يحدث بين الخرطوم (كرش الفيل) وبقية الأقاليم أو قُلْ الولايات حيث (ما شفتا عوض يا ساري الليل) وأهل العوض لا يزالون يبحثون عن عوض إلي حين إشعار آخر. فقد تقودك قدماك مكرهاً لا بطلاً_تماماً كالعبد لله كاتب هذه السطور_ بين الفينة والأخري إلي الخرطوم فتري آثار النعمة بادية علي شوارعها ونواصيها ونواحيها بينما تترك خلفك ودمدني التي يكتبون علي أبوابها ابتسم أنت في ودمدني ثم لا تجد فيها ما يدعوك للإبتسام غير شوارعها الضيقة هذه مثل (لسان الضب) ، أقول تترك خلفك ودمدني أو سنار أو الدندر مثل (آخر عَبَسَ) كما يقول والدي الإداري المعتق _يحفظه الله_ في تعبيره عن سوء المنقلب .. تتركها بما يستحق أن تكتب معه مراثي المدائن قياساً بالخرطوم ، وقد يكون مقبولاً أن تري فروقاً بين العاصمة وبقية المدن لكن ليس بهذا البوْن الشاسع الذي اختصر كل السودان في الخرطوم.فمثلاً أين ودمدني للخرطوم ناهيك عن رجل الفولة أو شعيرية أو كرنوي .. حنانيك بعض الشر أهون من بعض. تسمع وتقرأ عن خطط تطوير الخرطوم ومخططاتها الهيكلية بكباريها الطائرة وشوارعها الدائرية (لا حاسد ولا بغران) .. ثم تفرك عينيك فلا تملك إلا أن ترثي للمدائن التي لا إبلاً وثَقَتْ ولا بكفَّيها الحصيدُ روائعاً. أين الدويم وكوستي والجنينة والقطينة وسنجة وعطبرة والقضارف .. ثمَّ ضاع الامس منّا وانطوت في النفس حسرة!! ثم تقول الحكومة أوقفوا الهجرة إلي الخرطوم!! وماذا يفعل مواطن في الدندر انهكه الفشل الكلوي ؟ هل يبقي هنالك في مستشفياتها العامرة بنعيق البوم ؟! أم ماذا يفعل العاطلون في العمارة (2) محمود غير اللجوء للخرطوم (مكان الرئيس بنوم والطيارة بتقوم) .. وهكذا إستمرأت الحكومة إختصار السودان في الخرطوم. لكن السؤال المشروع للدكتور عبد الرحمن الخضر ولحكومة الخرطوم من أين توفَّرَ وسيتوفَّرُ له التمويل اللازم لإنجاز القوائم الطويلة من الخطط المستقبلية والأحلام الوردية؟!.فإذا كانت وزارة المالية الإتحادية هي التي تضخُّ تلك الأموال في خزائن الخرطوم وشوارع الخرطوم وكباريها ونواصيها فتلك إذن قسمةٌ ضيزي!! أما إذا كانت أموالاً ليس للدولة يدٌ عليها فيجب أن يعرف مصادرها الرأي العام لنري ما إذا كان في وسع الخرطوم أن تجلس في بيت أمها وأبيها فتنظر أيُهدي لها أم لا؟ هذا إذا كانت تلك الاموال (مِنح وهبات).أما إذا كان مصدر الاموال مصباح علاء الدين عندها سيبحث أهل الولايات الأخري عن علاء الدين نفسه وليس مصباحه فقط. إنّ نظرية التنمية غير المتوازنة التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة (بالإشتراك مع عبقريات أخري بطبيعة الحال) هي التي أوردتنا مهاوي الردي ومتلازمات الجوع والفقر والمرض إلي دعاوي التهميش وبراميل البارود التي لا تفتأ تنفجر كل حين هنا وهناك... وهكذا بينما تري ما تري في (سنتر الخرطوم) لا تري معشار ما تري في بقية المدن شمالاً وشرقاً وغرباً ولله في خلقه شئون ولنا في ذلك شجون. وفي الخرطوم نفسها من ناحيةٍ أخري لكنها لا تنفصل بأية حال عن عبقرية أوراق البنكنوت الكود العالمي لما نسميه هنا الجنيه السوداني وأمثلية إستخدامها، فإنّ التغييرات الإقتصادية إنعكست علي المجتمع مباشرةً لتبرز علي السطح ملامح أزمة وضائقة إقتصادية طاحنة ولَّدتْ أزمة إجتماعية أكثر خطورة تتمثَّل أولاً في هذا التفاوت الطبقي الحاد فبينما تجد أُناساً لا يملكون (حق الفطور) تجد آخرين يقضون إجازاتهم في أوروبا وماليزيا. إذن ليس هنالك والحال هكذا تناسُب في (المداخيل) بين الأفراد في المجتمع ، وعدم تجانس أفراد المجتمع الواحد يُوحي بنُذُر خطيرة جداً بدأ بعضها في الظهور فعلاً ولا داعي لذكر امثلة هنا مما تحفل به أضابير الشرطة وذاكرة الناس ، وهذه من تلك حينما قلنا بداية هذا المقال أنّه لا يمكن إعتبار أنّ التنمية تحقَّقتْ لمجرد إرتفاع معدلات النمو وحينما ذكرنا انّه مهم جداً الغهتمام بكيفية توليد الدَّخل والنظر في حالة توزيع الدخل بين السكان. أضفْ لذلك إرتفاع معدلات التضخم هذا اللص الخفي الذي يسلبك قيمة نقودك دون أن تستطيع معه تقييد بلاغ حتي ولو ضد مجهول، وازدياد معدلات الفقر والبطالة كذلك والصرف الحكومي الضخم ولو تقشفوا.!!! وتُري كم فرصة عمل _وهذا من نافلة القول_ يمكن أن تخلقها فوائض (التقشف) والإجراءات الإقتصادية الأخيرة لإيجاد وظائف في مداخل الخدمة لآلاف الخريجين وفي التوظيف الذاتي ودعم القطاعات الضعيفة وغيرها من الثغرات، و صاحب (إليكم) الطاهر ساتي يُجهد نفسه في التعليق هذه الأيام علي العقودات الخاصة والمخصصات (المتلتله) التي يستمتع بها بعض العباقرة. علي أية حال تبقي مشكلة التمويل هي العقبة الكأداء أمام أيِّ مشروع وتبقي العبقرية الحقيقية في (وفرة الدنانير) أولاً ثم في كيفية توظيفها ثانياً لمصلحة الجماهير والغالبية الصامتة التي لا تزال تعاني في صبر وستعاني في ظل إختلالات هيكلية مزمنة تُكبِّل الإقتصاد السوداني ككل وفي ظل إستمرار التخلُّف الإقتصادي الماثل الذي يُمارس دوره بجدارة في إنخفاض الإنتاجية في جميع القطاعات وهذا يقود بالتالي إلي إنخفاض دخل الفرد الذي يُؤدي بطبيعة الحال لإنخفاض القوة الشرائية ناهيك عن الإدخار والإستثمار وهو ما تُعانيه الآن قطاعات كبيرة من مجتمعنا وهذا ما يُعرف في منهجيات الإقتصاد بظاهرة الحلقة المُفرَغة للفقر أو دائرة الفقر الخبيثة (Vicious Circle Of Poverty). أخيراً جداً فإنّه قد ينمو الإقتصاد كما يحدث عندنا لكن الثابت عملياً أنه ليس بالضرورة حدوث أية تنمية حقيقية كنتاج لذلك النمو ، فالنمو الإقتصادي قد ينحصر في قطاع محدد عن بقية قطاعات الإقتصاد القومي ، كما أنّ الدخل المتحقق من هذا القطاع قد تستحوذ عليه فئة محدودة من مجموع السكان ، أو قد يتسرَّب هذا الدخل إلي الخارج ، أو قد يبتلعه (الدودو) تماماً مثل (شليل) التي كنا نرددها صغاراً (شليل وينو أكلو الدودو .. شليل وين راح بلعوا التمساح) وتلك ثالثة الأثافي.