مستشار قانوني مسقط – سلطنة عمان [email protected] (الفرح خارج الوطن عابر وسياحي.... فقاعي وبلا جذور .... وقلب الانسان ليس جمهورية فردية مستقلة .... ولكنه قطعة من أرض بلاده . ) ( غادة السمان ) . ذكرنا في المقال السابق انّ الحديث عن الهجرة وأثرها على المهاجرين والمغتربين السودانيين موضوع شديد الأهمية والخطورة والعمق لتأثيره العميق على شرائح واسعة من السودانيين ، ناهيك عن أثره على أسرهم الممتدة في الداخل والخارج ، لذا حاولنا ونحاول من خلال المقال السابق والمقالات اللاحقة أن نفتح كوة حول هذا الموضوع عسانا ننجح في استفزاز أهل الاختصاص من النخب السودانية في الخارج – وهم كثر - ليتناولوا هذا الموضوع الهام بمزيد من البحوث العلمية العميقة تعميما للفائدة . اعتدت في الثمانينات أن التقي أحد ابناء خئولتي كلما عاد من أجازته من مقر عمله بالسعودية ، وكان دائما ما يحدثني عن آماله وطموحاته في الاستفادة من فترة عمله بالسعودية في تشييد منزل يؤويه وأسرته حين عودته من الغربة ، إضافة لعمل مشروع – مزرعة منتجة للخضر والفاكهة والبيض أو نحو ذلك – لتكون مصدر دخل له عندما يعود نهائيا للوطن ، وقد كان يتحدث بحماس شديد للفكرة ، وبالفعل نجح في تحقيق العديد من تلك المشاريع ، ولكن ولما كان هذا الحديث تكرر بيننا طوال فترة عمله بالسعودية التي امتدت لقرابة الربع قرن – ولا تزال - ، ولما لاحظت الشيب الذي على فوديه والتجاعيد التي خطها الزمن على سوالفه – صدغيه – دون رحمة ، قلت له أنه نسى في خضم السعي وراء تحقيق ذلك الحلم نفسه التي بين جنبيه ! وهي المحور الرئيس من الاغتراب، وسألته عما إذا كان يستطيع أن يعيد السنوات التي سرقتها الغربة ليستمتع بما أنجزه خلال اغترابه عن الوطن حين عودته! ، فقد غادر الوطن شابا مفعما بالحياة والطموحات والآمال وعاد ببعض المكاسب المادية وحقق بعض من طموحاته، ولكنه فقد أثناء ذلك أحلى سنوات عمره وأكثرها حيوية وألق، فهل ما كسبه يعادل ما حققه ! ، والغريب أنه فوجأ بحديثي وداهمه حزن مفاجئي ، كأنه كان في غيبوبة و أفاق منها فجأة ، وانتابني احساس بالذنب لأنى نكأت جرحا لم يكن يحس بوجوده وتمنيت لو تركته في أوهامه . الملهاة المأساة في مسألة الغربة هي عاملي الزمن والمكان ، لأنه لا يمكن إيقاف الزمن حتى تتحقق شروط الحياة الأفضل التي يرومها المغترب ليعود ويستمتع بما حققه من وسائل وإمكانيات تحول حياته للأفضل ( وعايزنا نرجع زى زمان قول للزمان أرجع يازمان "أم كلثوم " )، كذلك لا يمكن إيقاف تطور وتغير المكان الذي غادره المغترب الذي شهد طفولته وصباه وبعض من شبابه وذكرياته لحين عودته النهائية لأرض الوطن ليكون أحد شهود ذلك التغيير أو التطور أن لم يكن أحد المشاركين فيه . أنظر مثلا في المعنى الأنف الى التعبير البليغ الذي ورد على لسان إيزابيل لوركا (1909–2002 ) شقيقة الشاعر الأسباني ذائع الصيت فرديركو غارسيا لوركا (1898-1963) ،بعد عودتها الى بلادها أثر أهجرة اضطرارية طويلة الى الولاياتالمتحدةالأمريكية أثر مقتل شقيقها لوركا ، وذلك في كتابها ( إيزابيل تتذكر شقيقها) :(أشعر الآن بأنني لا أنتمي إلى ذلك العالم، عندما يتقدم عمر الإنسان إلى هذا الحد- كما هي الحال بالنسبة لي- فإنه لا مجال للشك في أنه يعيش أكثر من حياة ، أما حياتي تلك، فقد انتهت تماماً. لم يعد قصر الحمراء كما كان لي، لم يعد لي... كم من صباح قضيته في حديقة (لانجرن) قارئة بشكل هادئ دون أن يزعجني أحد. ولهذا فإن عودتي إلى غرناطة لم تكن إلا لكي أحقق رغبتي التي إنغمرت بالدموع وهي تنشق رائحة( جنة العريق ) عند سماعي نواقيس كنيسة البيازين..هذه الروائح وهذه النواقيس حاضرة باستمرار في أعمال أخي لوركا"). من يستطيع إيقاف دبيب الزمن وفعل السنوات بصورنا ونفوسنا ، من يستعيد لنا اللحظات المفصلية الشاردة "لحظة ولادة طفلك ، أول كلمة نطق بها ،خطواته الأولى ، فرحة نجاحات الأبناء ، لمة الأسرة وضحكات الأخوان الصافية ، حنان الأمهات وخوفهن علينا ،،،،، " ، من يوقف الصورة كما هي حتى لحظة عودتنا لنستأنف حياتنا التي سرقتها سنوات الغربة والنزوح ، من يحفظ لنا ود الصداقات الحميمة التي فقدت ألقها بفعل تطاول سنوات البعد عن الأحبة الذي شاركونا لحظات وذكريات حيواتنا ما قبل النزوح ، يا لفداحة خسارتنا للحظات الحميمة المنصرمة !. أما بالنسبة للمكان الذي نشأ فيه الإنسان ومدى تأثيره عليه يقترح الصينيون ضمن نظرية تعرف ب (الفينغ -شويّ) وهي نظرية تبحث في علاقة الإنسان بالمكان أو ما يعرف بطاقة المكان ، أننا : (نتنفس أو نشعر ونشم وندرك الوضع المحيط بفضل ردود الأفعال البيولوجية – الفيزولوجية ، وأن مقدرتنا ضمن الجماعة مرتبط بردود الأفعال المعروفة لنا مسبقا والمتراكمة خلال فترة من الزمن . ) ( الفينغ شويّ – طاقة المكان / نانسيلي وايدر ) ، ومن ثمّ ليس مصادفة أن يتكرر نمط البناء ومساكن الناس في البلد الواحد ، فهذا يشعر جميع سكان البلد بالألفة مع المكان ، أنظر مثلا تشابه البناء في المدن السودانية تجد ذاك الطابع النمطي المتكرر الذي يسم مختلف مدننا بهذه الخصوصية التي تجعلك تألف المكان " يعلق عديد السودانيين على ذلك بالقول في سخرية (كأن الذي بنى المساكن والمدارس في السودان مقاول واحد)!، فتوافق البناء مع معاييرنا الثقافية وعاداتنا وقيمنا يصنع عالم مريح لنا ، لذا يعد هذا أحد عوامل التمسك بمكان النشأة بالوطن لذا يفقد المغترب أو المهاجر بخروجه من الوطن هذه الخصوصية والحميمية التي تربطه بتراب بلاده. أقترح أخي الأكبر أبان حكم نميري " كرد فعل للضائقات المعيشية التي مرت على الناس في السودان في بعض سني حكم الأخير " بعد أن قضى سنوات متطاولات في بلاد المهجر بدولة الأمارات العربية ،أن تنتقل الأسرة جميعا للعيش هناك حيث سهولة الحياة ورغدها وغياب المنغصات ، وذكر أن الوطن هم الأهل !، لكن علاقة الإنسان وتعلقه بمكان النشأة " ضمن عوامل أخرى - تكذب هذا الاقتراح . أنظر لصلاح أحمد إبراهيم كيف جسد حبه لبلاده ولمكان النشأة رغم تواجده في بلاد النور والجمال والحربة وسهولة الحياة وغياب اللهث وراء الضروريات "باريس ": فى بلادنا ترتاح ضل النخيل ارياح سكن وفوت بلاد وسيب بلاد وان جيت بلاد تلقى فيها النيل بيلمع فى الظلام زى سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام تنزل هناك وتحى يا طير باحترام تقول سلام وتعيد سلام على نيل بلادنا سلام وشباب بلادنا ونخيل بلادنا سلام. ولكن اليس للهجرة والاغتراب عن الوطن والتعرف ببشر غير بني جلدتنا ، والاختلاط بثقافات مختلفة عن الثقافات التي نألف ، ورؤية أماكن جديدة ، بعضا من فوائد ؟! ،،، للحديث بقية . كلام ذو صلة : ( في الغربة يتحول الحدث الجلل الى خواء و "عدم" وذاكرة فارغة لأجساد تسير بنصف انتباه ، وتعيش بنصف إذعان ،، ونصف رضوخ ،، وبعض تمرد ) . ( كاتب مجهول بالنسبة لي على الأقل ) ! آخر كلام: اختلافُ النهارِ والليلِ يُنسي اذكرا لِي الصِّبَا وأيامَ أُنسِي ----------------------- وطني لو شُغِلتُ بالخلدِ عنه نازعْتنِي إليه في الخُلْدِ نفسي ). ( أحمد شوقي ) .