بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: ( هَذَا بَلاغٌ لِلْنَّاس وَلِيُنْذَرُوْا بِه وَلِيَعْلَمُوَا أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِد وَلِيَذَّكَّر أُوْلُو الألْبَابْ) ..الآية هذا بلاغ للناس بقلم: د. أبوبكر يوسف إبراهيم* توطئة: هناك تقاليد سلوكية تميز أهل السودان يندر أن تجدها في شعوب أخرى، رغم اعتقادي بأنه ليس هناك صفة مطلقة تميز شعب دون غيره، ففي كل المجتمعات على مختلف جنسياتها نجد أن لها ميزة تميزها عن غيرها، لكن أن تتحول التقاليد إلى ثقافة وعرف ودستور غير مكتوب فهذه لعمرى نافلة من النوافل ينفرد ويتمتع بها الشعب السوداني اناثه وذكوره، فالتفرد شيء يدل على أصل صفة مستدامة ، أما التمتع بما تفعل فهذا أمر آخر يدل على تجذر الثقافة في الأعماق. وما استدعي الكتابة اليوم هو حدث قد يبدو في ظاهره بسيطاً لأن من هم في فئتي العمرية يدركون أن ذلك أمر عادي في هذا الزمن الأعجف وكان طبيعياً وبديهياً في زماننا الجميل، وعلينا أن لا نيأس إذا ما رأينا بعض التقاليد والعرف والثقافة إن لم تكن انقرضت فتكاد، إلا من رحم ربي!! المتن: قطعت إجازتي القصيرة للوطن وبكرت سفري يوماً بعد أن قضيت يومان حافلان باللقاءات، اتجهت للمطار ومعي نفرٌ أعزاء أجلاء من نفرٌ كريم أصروا على مرافقتي ، كانت لدي حقيبتان ولاب توب وحقيبة أوراقي، ولما عبرنا مدخل صالة المغادرة مُنع المودعون من الدخول حيث تكفلوا بحمل بحقائبي، لأنهم يعلمون أنني كهلٌ أكل الدهر عليّ وشرب وتستوطنني بعض الأمراض كضغط الدم المرتفع ، وضربت لخمة بعد أن عبرت حقائبي الجهاز وأنا غير قادرٍ على حملها، وإذا بشاب سوداني طويل أنيق تحلى بدماثة الخلق منقطعة النظير مع تواضعٍ جم، تبدو عليه آثار النعمة فهبّ دون أن أطلب منه بحمل حقائبي، وتكفل بإنهاء جميع إجراءات الوزن واقفاً بجواري يحمل ويعتل الحقائب، وعندما انهى لي إجراءاتي استصحبني إلى كاونتر الجوازات، ثم بعد ذلك بدأ في إنهاء إجراءاته، فإذا بي أكتشف أنه سوداني الأصل، أمريكي الجنسية من خلال جواز سفره الذي أبرزه للضابط للإجراء. أجزلت له الشكر والتقدير لما قام به نحوى، وقلت له والله ذكرتنا بالزمن الجميل، فرد على دا واجب!! لن أذكر اسم ذاك البروفيسور الشاب الكريم ولكن بعد التعارف والونسة على طريقتنا السودانية، عرفت أنه يعمل استاذاً للعلوم السياسية تخصص علم نفس سياسي بجامعة جورج تاون في وهي كما يعلم الكثيرون منا أنها من أعرق وأرقى الجامعات الأمريكية وعرفت منه بعد ذلك أنه أصغر أستاذ في تلك الجامعة ومد لي ببطاقة العمل التعريفية التي مدون فيها أرقام وعنوان التواصل. قام بكل ما قام به معي بمنتهى العفوية والاريحية، فقلت لنفسي الأمارة بالسوء: أن الدنيا ما زالت الدنيا بخير، وأن رحم حواء السودانية لم يعقر بعد، رغم مشاهدتي للكثير من المظاهر السالبة التي شوهت قيم وعرف وتقاليد نشأنا عليها، يمارسها الكثير من ناشئة الجيل الجديد ممن لم يتطبع بها وأو ربما لم يتربَ عليها، فتساءلت: على من نلقي بالمسئولية؟! على المدرسة أم على المنزل أم الظروف الاقتصادية الطاحنة التي اضمحل معها الكثير من القيم والأعراف التي كانت سائدة؟!!، فتوصلت إلى قناعة بأنه رغم كل الضغوطات إلا أن التربية الأسرية والمدرسية هما المعول عليهما. كانت التربية في زماننا تسبق التعليم وكان لمدرسينا هيبة ووقار وتجلة، نحترمهم ونهابهم ونضع لهم اعتبار واحترام والمهابة غير الخوف، المهابة هي إجبارٌ على الاحترام. أما المعلم اليوم فحاله يغني عن سؤاله لأنه (يعافر) من أجل لقمة العيش والبقاء، فكيف نطلب منه الاحتفاظ بالوقار والمهابة وتأدية دوره التربوي قبل التعليمي وهو يعاني من كثرة الضغوطات المعيشية والمالية؟!!، هذه الضغوطات قد تضطره المعلم الوقور للإتيان بما ليس من قناعته وسلوكياته كمربي حين تفلت أعصابه فيتصرف بغير تصرف التربوي المحترف، ولا بد لنا أن نجد له العذر كل العذر في ذلك، فالدولة لم تنزله منزلته التي تتناسب ودوره التربوي، عندها يجب أن لا نطلب منه العطاء المهني التربوي قبل التعليمي، ففاقد الشيء لا يعطيه، وهذا من صنيع أيادينا ويجب أن لا نلومه.!!. الهامش: إن أصعب مرحلة من المراحل التعليمية هي مرحلة الأساس فالعملية التربوية هي أساس تنشئة الأجيال تنشئة راقية وصالحة، والذي تقوم عليه المنظومة القيمية للمجتمع، ثم يليها العملية التعليمية برمتها، فمتى صُنَّا للمعلم المربي كرامته وضمنا له سبل عيش كريم أفرز لنا جيلاً معافى ؛ فنهضة الأمة تقوم على التعليم وأعمدته الأساسية المعلم ، المناهج، والبيئة المدرسية، فنحن نسمع دوماً من المسئولين ضجيجاً نحو اصلاح العملية التعليمية وجودتها ولكنّا للأسف لا نرى طحيناً.!! في أيامنا تلك، لم نسمع إلا نادراً عن التعليم الخاص ولا عن فرية تخصيص التعليم وقد كان ذلك محدوداً للغاية ولا يلتحق به إلا من أخفق في التعليم الرسمي، ومعظم رموز الوطن النجباء الأفذاذ والرموز تلقوا تعليمهم في المدارس الحكومية التي كانت تسمياتها(الأولية) ثم (الوسطى)، فالانتقال( للثانوي) وهو جسر العبور الجامعة. أما في حقبة المشير نميري – عليه رحمة الله- بدأنا في التجريب من (السلم التعليمي) حتى وصلنا إلى( التعليم الأساس)، أي بدأنا نتعلم الحلاقة في رؤوس اليتامى؛ وربنا يستر فيما سيأتي مستقبلاً!! قصاصة: كان أحد الأستاذة الأجلاء أذكر حتى الآن أن اسمه (إسماعيل) من أبناء بارا ، كان في قمة التمكن في مادة اللغة العربية وفي قمة الأناقة، بعد عشر سنوات قابلته رأيت أن حاله قد تغير مظهره بائساً أشد البؤس وأصبح كما المعوق عقلياً ، حزنت أشد الحزن على الرجل الذي علمني حرفاً أن يصل به الحال إلى ما وصل إليه.. ترى من المسئول عن هذه الحالة التي وصل إليها شيخ إسماعيل وأمثاله؟!! أذكر أن كان ناظر مدرستنا الأولية هو الشيخ مدني عبدالقادر، الرجل الوقور والمربي العطوف الحازم والمرن في ذات الوقت، كنا نهابه ونختفي حينما نشاهده ماراً حين كنا نلعب في شوارع الحي، التحقنا بمراحل التعليم المختلفة وما زلنا نذكره بالعرفان والجميل. وتخرجنا وتفرقت بنا السبل وفي يومٍ من أيام عام 1978 وأنا في مقر عملي بجدة دخل عليّ في مكتبي شاب يحمل رسالة حيث وصل لتوه من السودان. عندما فتحت الرسالة فوجئت أنها من ناظر مدرستي المربي الفاضل شيخ مدني عبدالقادر، فتحت الرسالة وحفظتها على ظهر قلب وإليكم فحواها: بسم الله الرحمن الرحيم تحريراً في 13/ 12/1978 تلميذي وابني أبوبكر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد أن طال الأمد وتفرقت بنا السبل أقول لك: إنك تنسب لأبيك الذي انجبك بالجسد، وتنسب إلىّ بالروح التي تعهدتها بالرعاية فهذبتها وعلمتها أبجديات القراءة والكتابة ، فيا بني ، الأب هو من غرس النبتة ولكن أنا من تعهدها بالري فأينعت وحان لي أن أقطف من ثمارها، أفلا يحق لي الآن أن أستظل على الأقل بفيئها؟!. يصلكم ابني...... أرجو إيجاد العمل المناسب لمؤهلاته. وأرجو أن تتعهده بالرعاية كما تعهدتك ناشئاً.. والسلام ختام. والدكم مدني عبدالقادر أكتفي ، عوافي.. والدكم مدني عبدالقادر رحم الله شيخ مدني المربي الفاضل والمربي الجليل أكتفي ، عوافي.. Abubakr Yousif Ibrahim [[email protected]]