[email protected] ما ينفع الإشارة إليه عند حديثنا السابق حول معركة (الطائفية – الخريجين) يتلخص في أنه كان للأزمة وجوه أخرى ليست فقط في قدرة الطائفة وامتلاكها أرواح المريدين وتدبير آخرتهم، وأن المثقفين أبناء الأرض لا السماء، بل قلنا إن طبيعة الظاهرة الاجتماعية التي يفهمها رجال الدين ليست شيئاً خارجاً عن وعيهم الروحي والديني، ولا نملك أن نطالبهم بمعالجة قضية الاستعمار والدولة وفق مفاهيم جون لوك أو أحكام مونتسيكيو، هم (هُم) لأنهم كذلك، أما الخريجيون الذين وصمهم أحمد خير المحامي بالانتهازية والسقوط في إخوة يوسف الصديق، ذلك وإن كان يسعنا احترام رأيه، إلا أن الرجل قدم نموذجاً حطم به فلسفته حول استقلالية المفكر، فلو كان المثقفون انتهازيون بسبب ارتماءهم في حضن زعماء الطوائف الدينية، فمظهر انتهازية أحمد خير الذي عمل مع عسكر 1958م بقيادة الفريق عبود، انتهازية حاضرة وبينة ومن قبيل هل يحتاج النهار إلى دليل!. لا نزال نسعى للإجابة عن سؤال طرحناه في الحلقة السابقة من هذا المقال، وهو لماذا ظلت الطائفية حاضرة حتى الآن قلنا بفاعليتها أم لا؟ لماذا لم تفلح محاولات القضاء عليها، فشل في ذلك النميري حينما قدر له مساعدوه أن ضرب الجزيرة أبا بالقنابل في مارس 1970م سيكون آخر نقطة في سطر كتاب الطائفية وقوى اليمين، لكنه عاد ليستدعيها مرة أخرى وتصبح جزءاً من مؤسساته!، وكذلك في حكم الإنقاذ عادت الطائفية عبر جيلها الجديد المتمثل في أبناء الأئمة ليتولوا مهاماً في الدولة، وكأن الأمر اعتراف بالهزمية الفكرية أمام الطائفية! الهزيمة التي تتجلى ملامحها في الاحتياج الفرويدي الدائم لجسد نتغذى فيه وعليه، هي حالة مرضية تتناول الدواء وتصر على إسكان المرض أرض بدنه. لكن دعونا نناقش الأمر بكل تجرد وموضوعية، في الأول لماذا نطرح التساؤل أصلاً حول حتمية فناء الطائفية لأنها فعلت بنا كذا وكذا..! أليس طرح مثل هذه الأسئلة هو امتداد لحالة (الغبينة) الثقافية لمستنيري القرن العشرين؟ أليس القول بضرورة ووجوب إفناء جسم اجتماعي له ممثلون، يعبر عن ديكتاتورية ثقافية لا محل لها في عالم الحضارة الحديثة التي تؤمن بالتوازن الحضاري كعمل جِّدي لتماسك المجتمع وحريته؟ لماذا نمارس سطوة المعرفة عبر ادعياء ملكية الحقيقة الواحدة، فالمعركة رجال الطائفة وأبناء الحداثة موجهة ضد الإدعاء بامتلاك الحقيقة والتصرف فيها، ولذا فمن الضرورة الإيمان بأحقية العيش لكل الأشكال الفكرية داخل المجتمع، ومن الظلم تسّيد الساحة بفكرة وحيدة وقهرية، لذا اقترح أن نعدل السؤال إلى؛ هل لا زالت الطائفية السودانية تحمل مشروعاً للمستقبل؟ أم أنها في طريقها لتصبح فولكلوراً شعبياً تستحضره الذاكرة كلما ناشتها أورام الواقع، واستذكرت بذلك عالماً من مثلها شاقها الصبر عليه ليتطور أو يموت!.. حينها فقط سنعرف كيف ندير اختلافاتنا ونحتكم إلى قانون أعلى للوعي هو الحجة والبرهان. الطائفية السودانية برزت في أدبياتها في مطلع القرن السابق الحديث عن الرابطة الدينية وهي بطبيعة الحال أقّوم من رابطة العرق والقبيلة المنحشرة في ضيق النسب بالدم، وهذا يحسب لها بل ويؤسس لوجودها عمراً أطول، الطائفة حفظت المجتمع من رياح التغريب التي انتهجها المستعمر وقرر في لحظة نشوة أنه يستطيع إعادة صياغة إنسان مستعمراته ليصبح ليبرالياً أشد عوداً من رواد حلقات الدرس في أكسفورد العتيقة! والطائفية نزلت عند رغبة جماهير شعبنا حينما طفرت الدموع من عيني الإمام عبد الرحمن المهدي عند رفع علم الاستقلال من قبل من يفترض أنهم أعداء مشروعه في الملك والدين، والطائفية كذلك أقامت للدين أدواراً كبيرة وربطت الناس بعقائدهم في حرية وأريحية ما كنا لنفضل عليها سلفية جهادية متشددة تفترض أن الجوعى والعراي يجب أن يعذبوا في الأرض وفي السماء، لكن، ولكن هنا مهمة لأنها فاصلة بين مدح فعال زعماؤنا الدينيين وبين ذم تدخلاتهم فيما لا يعنيهم، وأقصد أنه كان حريُ بهم العمل من داخل المجتمع ولا يتطلعوا لكراسي الحكم والزعامة التنفيذية التي هي عرضة للخطأ والخطيئة، ماذا لو اكتفت طائفية السودان بدورها في تهذيب الروح وترقية الوجدان ضداً على يوميات نواب الشعب ومشاكساتهم حول إجازة الموازنة العامة للدولة، ألم يكونوا بذلك يحققون مقولة إن الأصل في اجتماع الناس أفعالهم خارج نطاق السلطة السياسية! وأن يصبحوا في عفو وحل من ملاسنات تصفهم بالمساومين فوق قضية الوطن والوطنية، لقد أخطأت الطائفية حينما شاركت في الحكم عبر إبعاد بل إسقاط حكومة الاستقلال بعد أقل من عام على رفع العلم، لقد أشانت سمعتها حينما عرضت شرفها الروحي للمبارزة السياسية، لتأتي حكومة السيدين بقيادة البك عبد الله خليل، وحينما نشط المثقفون مرة أخرى عملاً للانقلاب عليها، لم تجد بدِ من الاستعانة بالجيش ليعيد ترتيب بيت السياسة الخرب ويسمح لها بشوط آخر من اللعب على أوهام الشعب وأحلامه، وحينما فعلها الجيش وقرر الانفراد بالسلطة قدمت بين يديه شهادة وفاتها بتوقيعها على مذكرة (كرام المواطنيين في 9/12/ 1960م) ولعلها تسمية عنصرية للغاية، أن يكون في وعيها من هم من غير الكرام ويعيشون بينها، لكن وبالمثل قوبلت هذه المذكرة بوصف أنها ل(لئام المواطنين)، قالت الطائفية في مذكرة كرام المواطنين؛ أنها تؤيد انقلاب الجيش وتشيد بدوره الوطني، وتهاجم المعارضة.!! الواقع الآن أنه يتحتم علينا القول بضرورة توازن الحالة الاجتماعية في السودان، لا الدفع بفرضيات الحداثة في نسختها الأولى، نسختها التجريدية، حينما قالت بالوعي جزء من حصيلة نشاط جماعة واحدة، والتي مهما كانت صلاتها وصفاتها، وعيها ومضمون رسالتها فهي لا تعبر عن حاصل مجموع الفاعلين الاجتماعيين.