الساعة الآن الثالثة بعد الظهر في أول أيام رمضان العام 2004 م ، دخلت الكنيسة البروتستانتية بقرب مقابر فاروق العمارات شارع واحد ، كنت على موعدٍ مع راعي الكنيسة ( أبونا ) لأخذ إفادته كجزء من تحقيقٍ أجريته لصحيفة الرأي العام عن المسيحية في شمال السودان . كان اليوم هو يوم قداس أو شيئ من هذا القبيل لأن الكنيسة كانت تمتلئ حتى المدخل بالحضور من أعمار مختلفة رجال ونساء يقفون في صفوف ويرددون أهازيج دينية بمصاحبة آلة موسيقية لا أذكر ما هي ، استقبلني شابٌ عند المدخل وأخبرني بأن أبونا سيتأخر وعلي أن أختار بين ان أنتظره أو أعود يوم غد ، اخترت الإنتظار فأجلسني الشاب في نهاية الرواق ما مكنني من رؤية القداس ، كانت المرة الأولى التي أدخل فيها لكنيسة وبالتالي المرة الأولى التي أشهد فيها كيف يؤدي المسيحيون قداسهم . طال انتظاري ، اتصلت على القس فاعتذر وقال أنه سيأتي في السادسة مساء ، ولأنني كنت قد قررت إنهاء التحقيق في ذلك اليوم وافقت على الإنتظار . أثناء حديثي مع القس بعد عودته كان صوت آذان المغرب يصلنا من مسجدٍ قريب فتوقف عن الحديث وطلب مني النزول لكافتريا الكنيسة للإفطار ، وجدت منضدة بها كل شيئ حتى العصيدة ، سألت الشاب الذي كان يقف على خدمتي من أين أتيت بهذا فقال لي أن أبونا طلب منه الذهاب للإخوة بشركة دانفوديو بالمبنى المجاور وأحضر منهم إفطار لي حيث كان موظفي الشركة يفطرون بالطريق غير بعيد من الكنيسة . بعد الإفطار ترددت هل أذهب لأصلي في دانفوديو أم استاذن للصلاة هنا ، وفضلت الأخيرة ربما لأعرف أين يتوقف تسامح أبونا ، طلبت من الشاب أن يسأل أبونا إن كان يمكنني الصلاة هنا فعاد وهو يحمل قطعة قماش نظيفة ويقول لي إن أبونا سمح لك بالصلاة حيث تشائين ، يومها صليت بالكنيسة بحضور قسيسها . شعرت لحظتها بعظمة الأديان عندما يفهمها الناس بسماحتها وعظمتها ، فكلها خرجت من مشكاةٍ واحدة . لم تغب هذه الواقعة عن خاطري يوماً فأشعر أن لأهل السودان أديانٌ تشبه سماحتهم ، مزجوها بروحهم وعاداتهم وتقاليدهم مما جعل صلاة المغرب في الكنيسة أمرٌ يقبله الطرفان . لكن هذه الواقعة لم تتسق مع ملصقٍ رأيته بعدة مواقع على الإنترنت قيل أنه منتشرٌ بصورةٍ واسعة على حوائط الخرطوم ، ذات الخرطوم التي صليتُ في أحدى كنائسها ، الملصق يقول ( الإحتفال بأعياد الكفار الكريسماس ورأس السنة تشبه بهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من تشبه بقومٍ فهو منهم ) . بالنسبة للإحتفال بالكريسماس فلا يوجد مسلم يحتفل به لكن بالمقابل لا يوجد مانعٌ من الكتاب والسنة يحرم تهنئة المسيحيين بعيدهم ومهاداتهم فيه ، ألم يقول الله تعالى في محكم تنزيله ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) ، فبالآية جزمٌ بأن المسيحيين هم أقرب مودةً لنا من غيرهم من أهل الديانات الأخرى ، بل تتطور الآية أكثر فيقول الله تعالى ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) .المائدة 82 ، 83 . الجزء الآخر من التحذير يمنع الإحتفال برأس السنة ، وفي الحقيقة يحتفل الناس بوداع عام والإقبال على عامٍ جديد ، يجعله السودانيون يوماً لطي صفحة مليئة بالمعاناة والضنك وقلة الحيلة ، الناس في السودان يودعون 2012 م بكل ما حمله لهم من معاناه اتسعت فيها الشقة بين ما يكسبون وما يصرفون إرتفعت أسعار كل ما يحتاجون بلا رقيب ، طار كل شيئٍ للسماء إلا مرتباتهم التي ظلت تزحف لتلاحق الغلاء الجنوني بلا جدوى . يحتفل الناس في السودان بوداع عامٍ شهدوا فيه استمرار الإذلال على الصعيد الوطني ، فحقل هجليج الذي كانوا يفاخرون به احتلته دولة الجنوب دون أن يرمش لها جفن ، ثم أزهقت فيه أرواح عزيزة من شباب البلد ، تقابل أسرهم العام الجديد واللوعة تأكلهم . ثم ضربت اسرائيل مصنع اليرموك الذي كانت تفاخر به الحكومة فاكتفت بالتهديد ليبدأ المواطن في التساؤل عن كيف كان يسهم المصنع في قفة الملاح ، ولماذا نجوع لننشئ مصانعاً ترسل السلاح لدولٍ أخرى ، فالزاد لا يكف أهل البيت ، بل أهل غزة برغم أنهم يستحقون كل دعم ويعانون الظلم والإستضعاف لكنهم يعيشون حياةً أفضل من كثيرٍ من السودانيين ، لم نسمع يوما أن فيهم من أكل الطين ليسد جوعه ، لكن هذا يحدث في بلد مصنع اليرموك . ما الذي يمنع السودانيين من الإحتفال بينهاية 2012 ؟ بل هم الذين يستحقون ذلك ، فقد تمددت الحرب في بلادهم لتشمل جبال النوبة والنيل الأزرق مع استمرار الحرب في دارفور والصور التي ترد من تلك المناطق تستفز الإنسانية . لكن الخبر الجيد لمحرمي الإحتفال برأس السنة أن هناك سودانيون لن يحتفلوا بهذه المناسبة ، ببساطة لأنهم لا يعرفون متى يحل رأس السنة فهم يعيشون خارج التأريخ يصارعون القدر ليوفروا لقمة تقيهم لسعة الجوع ، وإن وجدوها لا تمنحهم الحرب اللعينة وقتاً لتناولها . لا أدري ما العلاقة في أذهان أصحاب فتاوى التحريم بين الدين والكآبة وأحاديث الرسول ( ص ) تدعو للتفاؤل ، وأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، وروحوا عن أنفسكم ساعةً بعد ساعة . أعتقد أن المؤتمر الوطني بعد أن فشل في أسلمة الحياة وإقامة المشروع الحضارى أفسح المجال لدعاة التزمت والتحجر فبدأنا مرحلة جديدة من التيه ستوصلنا بإذن واحدٍ أحد لمرحلة الطلبنة ، عندما كانت تحكم طالبان أفغانستان ، في هذا العام ملصقاتٌ تحذر من الإحتفال برأس السنة ، العام القادم توجيه رسمي بمنع الإحتفال بالقوة مع ضرورة إرتداء النقاب للسيدات في اليوم الأول من 2014 وهكذا حتى نجدنا تطلبننا في صمة خشمنا ويومنا الأسود . وقبل أن تنتهي المواسم التي يمكن أن يجد فيها المواطن شيئاً من الفرح وبارقة أمل تضيئ عتمة السنة القادمة انتهز مدير إدارة مكافحة الأيدز الفرصة وقال أن نسبة انتشار الأيدز ترتفع في هذه الأيام لأن البعض يمنح نفسه براحاً أكثر هذه الأيام . ألم أقل لكم أنه مشروعٌ دماريٌ خالص ، ذات العقلية التي تحرم الإحتفال برأس السنة تقول حديثاً لا يتطابق مع حقائق العلم ، فالأيدز لا يمكن اكتشاف الإصابة به قبل خمسة أو ستة أشهر ، ولا توجد إحصاءات دقيقة في السودان عنه فكيف لإدارة الإيدز الجزم بأن الإحتفال برأس السنة سببٌ في ارتفاع معدلات الإيدز . كل سنة والسودانيون طيبون يحتفلون بالعام القادم كما يشاءون ، يودعون العام المنصرم بأمل لا يخالطه شك في غذٍ أفضل وأرحب . salma altigani [[email protected]]