[email protected] ( 1 ) لابُدّ من الإقرار بداية الحديث أنّ السودان بانتمائه المزدوج عربياً إفريقياً في منطقته، هو أيضا عضو في المجتمع الدولي المترامي بأطرافه السياسية والاقتصادية والعسكرية، وذلك بحر لجيّ لا مناص من المضي لشقّ موجه واستهلال الهدف المنشود ، سلاماً واستقراراً ونماءا. بعد الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار، تكشفت للحكومات الرئيسة في العالم ضرورة التوافق لترسيخ السلام، وتوطيد عناصر التعاون الدولي، بما يجنّب البشرية الانزلاق مُجدّداً في أتون حروباتٍ، لا خاسر فيها إلا العنصر البشري. مِن أهمّ هذه المواثيق الدولية شرعة حقوق الإنسان المعروفة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي أنجزت عام 1948 عبر اللجنة الثالثة في الأممالمتحدة، وشارك فيها ساسة ودبلوماسيون ورجال قانون، من مختلف القارات والثقافات والألسن. ولأسباب تتصل بالواقع الاستعماري، وضعف البلدان الإسلامية في السنوات التي أعقبتْ الحرب العالمية الثانية، فلم يكن في اللجنة الثالثة والمكونة من 58 عضواً والتي شكّلت لوضع مصفوفة حقوق الإنسان تلك، إلا مواطن عربي واحد، لبناني مسيحي هو المفكر الأستاذ الجامعي والدبلوماسي شارل مالك ( 1906-1987 )، والذي صار فيما بعد وزيراً للخارجية اللبنانية، في الخمسينات الأخيرة من القرن العشرين. لم يكن - ويا للأسف- من حضور للفكر الإسلامي في ذلك الجهد الإنساني الكبير. لقد كانت جولات النقاش للوصول إلى شرعة حقوق الانسان تلك السنوات، طويلة عميقة ومضنية، تطرّقت لقضايا تتصل بالفلسفة كما تتصل بروح العقائد والأديان، بل وبعناصر مختلف الثقافات في العالم. تُحدّث أدبيّات اللجنة التي رأستها السيدة إليانور روزفلت أرملة الرئيس الأمريكي روزفلت، عن مواجهات فكرية طاحنة بين مُمثلين للاتحاد السوفيتي والصين وفرنسا والولايات المتحدة ومن شاركهم هذه المداولات من أعضاء اللجنة الدولية . اختيرَ شارل مالك مقرراً للجنة، وهو الذي لعب دوراً بارزاً في التوفيق بين مختلف الآراء ليخرج ذلك الإعلان مُلزماً لكلِّ الدّول الأعضاء في منظمة الأممالمتحدة . حين تنادى ممثلو الدّول الأعضاء، والأممالمتحدة في سنوات نشؤها الأولى، ووقّعوا على الوثيقة الدولية، لم يكن السودان من بين الحاضرين، فقد كان تحت حكمٍ استعماري ولا يملك قراره. بعد الإستقلال وانضمام السودان للمنظمة الدولية طواعية، وبإرادة قيادته السياسية وقتذاك، واعترافه بميثاقها وحاكميته، أصبح السودان مُلزماً كلّ الإلزام ، متقيّداً كلّ التقيّد، باحترام ما جاء في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . ( 2 ) من أهمّ مواد هذا الإعلان المادة (18) التي تقرأ : لكلِّ شخص الحقّ في حرية التفكير والضمير والدّين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر، ومراعا تها سواء أكان ذلك سرّاً أم مع الجماعة. و المادة (19 ) التي تقرأ: لكلِّ شخص الحق في حرية الرأي والتعبير،ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية. حين ينظر جهاز تشريعي أو تنفيذي أو قضائي في السودان في صياغة مسوّدة دستور للبلاد، وافتراع قوانين ولوائح منه، فإنّ الالتزام بما جاء في المواثيق الدولية وأهمها ميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الانسان، لممّا يؤكد أهمية هذه المرجعية وتميّزها عن بقية المرجعيّات التي ينظر فيها لصياغة القانون الأساسي، ولا يجوز تغييبها بأيّ حال. ذلك مسلك الدول الراشدة . من المرجعيات التي ترتبت على قبول السودان عضواً في الاتحاد الأفريقي ( منظمة الوحدة الافريقية السابقة)، التزامنا بمواثيقه ومعاهداته. إلى ذلك فقد التحق السودان - وفي اطار مبادرة "نيباد"( الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا )- ب"الآلية الأفريقية لمراجعة النظراء" وذلك خلال القمة الأفريقية في الخرطوم عام 2006، ومن بين الأهداف الأربعة لهذه الآلية هدف "التأكيد على الأمن والسلام والحكم الرشيد المؤسّس على الديمقراطية والاقتصاد والتنمية" . فهل راعى السودان باختلاف أنواع الأنظمة التي تعاقبت على الحكم فيه هذه المباديء التي أقرتها الأممالمتحدة، وتلك التي أقرتها المنظمات الإقليمية، والتي يحترمها المجتمع الدولي، أم آثرنا تجاهل الالتزام بها ، بل والاستهانة بمتطلباتها في أكثر الأحوال . .؟ ( 3 ) لا أحتاج بداهة لاجابة على هذا السؤال. يكفي النظر إلى الوجود الأجنبي الذي أُجبر السودان على قبوله بموجب مقرّرات ميثاق الأممالمتحدة، بما ترك البلاد وكأنها تحت قيادة فاشلة لا يوثق بقدراتها على تحقيق السلم والأمن المطلوبين في دولة راشدة. لا أحتاج إلى إجابة وقد تابع الجميع كيف كانت الاستهانة بأدنى الالتزامات، مثل سداد اشتراكنا السنوي في هيئة الأممالمتحدة، فتفاجأ السودان بحجب حق التصويت في تلك المنظمة، فما بالك بالتزامات بقرارات على ورق صقيل. . ! أما عن استهانتنا بالمادتين (18) و(19) من الإعلان العالمي لحقوق الانسان، فقد كان طبيعياً أن يدفع السودان ثمن هذه الاستهانة، فجرى تصنيف السودان مِن قِبل "مراسلون بلا حدود" وهي هيئة مستقلة- فيما أورد السيد الإمام الصادق المهدي عن تقريرها لهذا العام- من بين أسوأ البلدان التي لا تحترم هذه الحقوق، بل كدنا أن نكون في ذيل القائمة، وعدد الدول فيها يتجاوز المائة والثمانين- لولا أن سبقتنا اريتريا، تلك التي خرجت قيادة نظامها تعلن الاستقلال من العاصمة السودانية! لم يغب عن بصر المجتمع الدولي السويّ، وعن بصر هيئاته المستقلة، جنوح نظامٍ يجتريء لمصادرة حقّ التعبير عن الرأي، وكسر أقلام الصحافة، بل وإغلاق الصحف ومراقبة وإحصاء أنفاس الصحفيين، قبل وبعد النشر. لعلّ المُمارسات المريبة مثل حجب الإعلان التجاري واعتماده سلاحاً رادعاً لكسر الرأي وتركيع الناشزين، صارت بدعة مُستحدثة مكانها موسوعة جينيس . الأعجب أن مثل هذه الأساليب الشوهاء أخذت سبيلها إلى ما طرح مؤخراً كمسودة لقانون جديد للصحافة، بما يشي عن طبيعة من وقف وراء طرح مسودة القانون الجديد للصحافة. في الثلاثينات من القرن الماضي ابتدع الكولونيالي صموئيل عطية وبتوجيه من مدير المخابرات البريطاني في الخرطوم، "مصفوفة" – كما نقول اليوم- لمراقبة ما ينشر وما يقال في المنتديات الأدبية أو السياسية. ونحن في العام 2013، هل ثمة "عطية" جديد يقف وراء مسودة قانون الصحافة المقترح. .؟ لقد بادرتْ رئيسةُ لجنة الإعلام والثقافة في المجلس الوطني (الهيئة التشريعية المُعتمَدة) بتعميمِ مسوّدة القانون المذكور على الأحزاب السياسية المسجلة في البلاد. حسناً فعل السيد الأمام الصادق المهدي بأن خصّص مُنتدى الصحافة والسياسة الثامن والثمانين، والذي يستضيفه في داره وبوجود ورعاية أسرية من حرمه المصون السيدة حفيّة شريف وكريمات الإمام الناشطات، لمناقشة تلك المسودة. كانت السيدة عفاف تاور رئيسة اللجنة البرلمانية المختصة، من بين أوّل أولئك الحاضرات والحاضرين، بجوار مريم الصادق وسارة نقدالله. أشهد أنها استماتت دفاعاًعن تلك المسودة ، حتى ظن كثيرون أن دفاعها عن الحزب الحاكم كان أكثر من دفاعها عن مسودة قانون الصحافة المقترح. أثق أن معظم الصحف قد غطتْ تلكم المناقشات، وربّما بدرجات متفاوتة، ولكنّي رأيت آلات تصوير لمختلف القنوات الفضائية تسجّل ما جرى، ولا ندري إن طالتها رقابة من قبل أو من بعد فجرى اختصار ما بث على القنوات من مُداولات. كاد أن يجمع الحضور بمختلف انتماءاتهم السياسية وفيهم قيادات سياسية وحزبية وصحفية معتبرة وأصوات معروفة ، أن لا أحد من قبيلة الصحافة قد طالب بتلك المسودة التي حيكت بليلٍ حالِك، ولا أحد وقف مع سلسلة العقوبات التي نصّ عليها، إضافة لما هو موجود أصلاً في قانون عام 2009 وهو القانون الساري حتى تاريخه، ولا أسمع أن أحداً نادى بتلك الصلاحيات الفضفاضة التي منحتها المسودة لمجلسٍ للصحافة، يعلم الجميعُ أنه جسم لا يركن إليه كجهة تمثل الصحفيين التمثيل الأمثل . ( 4 ) يسأل العاقلُ عن جدوَى كسرِ أقلام الصحفيين ومنعهم من الكتابة ، أو احتجازهم وغلق صحفهم، فيما العالم ومنذ عقود خلتْ، يشهد اتساعاً كبيراً في ثورة الإتصالات واندياح المعلوماتية وحرية امتلاك المعلومة. لا تحدّثني عن كتائب الكترونية باترة، فنحن في عصر ال"هوت سبوت" وسواها من برامج ناعمة تتيحها الانترنت، تسعى لترسيخ حرية التفاعل الالكتروني الذي يَعبُر كلَّ جدران المنع والحجب والاحتجاز، فجهد مثل هذه الكتائب تذروه رياح الشفافية، وتهدره مُحدثاتُ برامج الشبكة العنكبوتية الناعمة التي تبسط المعلومة بلا رتوش للجميع، ناهيك عن "السيرفرات" (الخادمات الالكترونية) الذكية، وحواسيب المستقبل التي تجاوزتْ مثل هذه المُمارسات البالية التي سيطمرها غبار النسيان بعد حين. لعلّ أقوى أسلحة الأنظمة الشمولية الناعمة الباطشة في سنوات ما قبل ثورة الاتصالات، هو سلاح الإعلام ، مدافعُهُ قيد التحكَّم، وزنادُه بين الأصابع، و"دبانته" تحت التصويب، وصوته الخارج من تجاويف الخواء، يعلو على كلِّ الأصوات. لا يتوافق النظامُ العالمي الجديد بداهة مع النظم الشمولية الباطشة، فإنْ كان النظام العالمي القديم والسائد منذ سنوات الحرب الباردة، قد تواطأ وتحمَّل بقاء أنظمة ملوكية وأنظمة عسكرية، ممَّا شاع في منطقة الشرق الأوسط، فنحن أمام مُتغيرات حاسمة عمادها الحرية والديموقراطية والشفافية، ليسَ في السياسة وحدها، بل في الاقتصاد وفي الثقافة وفي الأمن. وقناعتي أن مواسم الربيع التي عمّت بعض أرجاء المشرق العربي ، هي تباشير حراكٍ مُتسعٍ في المناخات السياسية والإجتماعية. . تاريخنا مُحتشد بنظمٍ عسكرية تعاقبتْ منذ الخمسينات على حكم البلاد، ولعلنا بعد سوريا ومصر والعراق ، نلنا قصب السبق في العالم العربي . أما في إقليمنا الأفريقي، فلنا الصدر دون ذلك العالم الذي استقلتْ بلدانه بعدنا بكثير. لا أرى نفعاً في الإيهام الساذج بأن الذي نحن عليه الآن هو أقصى ما يمكن تحقيقه من ديمقراطية ومن شفافية ومن حريّات، بل وأستعجب من توريطٍ لا نفع وراءه في سعينا للحاق ب"آلية النظراء الأفريقية"، تلك التي ناقضنا مقرَّراتها مادةً بعد مادة ، فما أبعدنا عن حكمٍ رشيد وفق معايير "نيباد"، رصَدَ له مواطنٌ عالميٌّ كان سودانياً ذات يوم، جائزة لمن يحقّق فيه منجزاً "رشيداً" من بين الرؤساء الأفارقة، فما تأهّل أحدٌ من زعماء كلّ أطراف القارة لعامين متتاليين ، إذ أقربهم للجائزة لم يكن قد عبر إلى كرسي الحكم عبر انتخاب ، بل عبر مجنزرة عسكرية مُستبدة. . ( 5 ) يسأل العاقلُ سؤالاً تالياً عن جدوى وزارات إعلامٍ - عندنا وعند غيرنا ممّن تشابه نظمهم نظمنا العليلة - لا دور لها بعد اتساع ثورة الاتصالات واندياح المعلوماتية ، إلا أن تشكّل كعكة في قسمة- بل قصعة- السلطة، لإغراء من ألّفَ قلبُهُ مِن الساسة ، تدجيناً لمُمانعة مُتوقعة ، وتحييداً لمعارضةٍ خجولة مُتردّدة. أضف إلى ذلك أن لو نظرنا إلى أحوال بعض إدارات "الإعلام والعلاقات العامة" في دوائر الدولة ، فلن نرى إلا نياماً يصحون على قرع طبول في الصحف السيّارة، تنتقد طرفاً من أداء إداراتهم، فيُخرِجون أقلامهم صدئة من حقائبهم لتجميل هذه الإدارات، مثلما تُخرج الحسناء أقلام الأحمر والكريمات لتجمّل وجهها. أكثرهم ممّن يسرفون في الكتابة على الورق وقد فاتهم قطار ثورة المعلوماتية ومعيناتها. . ! في زمن المعلومة المطروحة في الفضاءِ، في زمن الاتصالات والإعلام التفاعلي المباشر، يسأل العاقلُ سؤالاً ثالثاً مُلحّاً : ما جدوى منعِ الصحف الورقية فيما الفضاء الافتراضي يوفِّر مساحات لا تُحدّ ولا تُحصى. . ؟ وما جدوى مَنع كاتبٍ صحفي عن الكتابة ، فيما الشبكة العنكبوتية لن تطالها كتائبُ الرّقيب الالكترونية إنْ نشرَ كتابته على مَلأ الفضاء. .؟ أخال أسئلتي هنا، لا تستدعي إجابات من أيّ نوع.. ( 6 ) ولكي أختم حديثي، فأنا أطرح السؤال الرئيس : ما جدوَى قوانين تصاغ مسوّداتها لإرهاب الصحافة ودفعها لكساحٍ ولإفقار منظّم، وسوقها لحظائر التدجين والترويض والمحاصرة ، فيما نحن محكومون بما التزمنا به أمام مجتمع دولي، وهاهوَ يرانا عُراة ونحن بلباسِ فرعون، نحسب أنفسنا نتمخطر في حللٍ زاهية، فيسخر الشاخصون منّا لقلّة عقولنا. أمّا وقد لبسنا لبوْسَ التحدّي ونحن عطلٌ إلا مِن لسانٍ يتلجلج، ليسمع مَن يسمع قولنا كفراً صراحا، ولا منجاة حتى إنْ لزمنا صمتَ مؤمنين . أعجبُ كلّ العجب من خِطَاببين، نسوق أولهما محلياً، وآخر نرسله للعالمين خارج الحدود، فيما يشبه الفُصام السياسي البيّن، وإلى ذلك ترى زيداً ينفي لكَ ما يقوله عمرو، دونَ أن يرفّ له جفن. حدَّثني صديقٌ عن صديقٍ آخر، جيء به ناطقاً رسمياً، فيما بقي على مرجعيته في إدارة مجلس الصحافة، وهو مجلس مستغرقٌ أكثر أحواله في شدٍّ وجذبٍ مع كتاب الصّحف. ألمح الصديق أن أكثر شكاوى أهل الصّحف تصل إليه ، فعجب كيف تراه يحكم أداءه ناطقاً بإسم وزارة السيادة، وأبرد ملفاتها لهُ جمرٌ لاهب، فيما هو خصم لبعضِ أهل مهنته ؟ ما من جدوى لصياغة قوانين طازجة للصحافة أو للمطبوعات، ونحن نعدّ عدتنا لصياغة دستورٍ جديدٍ للبلاد، كان حريّاً بالجميع أن يتداعوا له عشية ذهب ثلثُ البلاد دولة أخرى إسمها دولة جنوب السودان منذ يوليو 2011. ذلك قول الإمام وقول العاقلين معه. ما بالنا على لبسٍ بيّن لا ندرك أولوياتنا ، أم هو عِمَى الشمولية تملك الأفئدة وتستعمر العقولَ ، تريد أن تصوغ قوانين مُعلقة بلا دستور نتوافق عليه، مبدأ أمرنا. .؟ أهنأ ، محمد ابراهيم فتحي "مو"، يا صديق السودان، ما أبعدنا عن معايير الحكم الرشيد. هنا . . "الرشيد" عندنا هو في ظنّي الخليفة هارون الرشيد . . الخرطوم - 19 مارس 2013