بسم الله الرحمن الرحيم مسائل فكرية: [email protected] تحدثت عن نوعى التفكير المجرّد والصلب أو المادّى وذكرت بأنّ التفكير المجرّد يسعى وراء المعنى تفسيراً أو استنباطاً أو تأويلاً. فتفسير الشىء لا يتجاوز المعنى التقريرى السطحى ، وهو أقرب أنواع المعانى للتفكير الصّلب ، واستنباطه يطلب معنى المعنى وهو أكثر عمقاً وارتباطاً بالأفكار لا بالمحسوسات فهو يستنتج فكرة ثالثة من فكرتين كأن تقول: (هطلت الأمطار فى الخرطوم وامتلأت الشوارع بالمياه) والفكرة المستبطة هى (عدم وجود تصريف للمياه) ، بينما تأويله هو ما وراء المعنى ، وهو ينتج معنىً جديداً لا يبدو مباشرة من عملية الاستنباط كأن تقول: (انعدام الكفاءة أدّى إلى غرق الخرطوم) أو (انعدام التفكير الاستراتيجى كان وراء المشكلة). وهذان النوعان من التفكير يؤثّران على قدرة الشخص أو الشعب على التقدّم. فكلّما كان الإنسان قادراً على استنباط المعانى أو تأويلها كانت قدرته التجريدية أعلى وحسّه الفكاهى أرقى وقدرته على حلّ المشاكل أكبر. فنحن قد تقدّمنا من مرحلة نكات (ود نفّاش) إلى مرحلةٍ تعتمد على المفارقة الذكية مروراً بنكات القبائل وإن كان هناك من يستمتع بالنكات البدائية إلى الآن حسب مرحلة تطّوره الثقافى. وفى هذا المقام سأتحدّث عن تأثير التفكير الصلب أو المادّى على مفاهيم وعادات النّاس. الإنسان بطبيعته يميل للشىء الموجود المحسوس ويجد صعوبة فى تقبّل الأفكار المجرّدة ولذا فقد كانت الأمم السابقة تتّخذ أصناماً تلجأ لها كوسيط بينها وبين الله سبحانه وتعالى الذى لا تستطيع أن تراه. وفكرة الله هى أكثر فكرة امتحاناً لقدرات الناس العقلية. وبرغم تكرار الرسل لتنقية العقيدة ورفع المستوى الفكرى من المادى للمجرّد ، حتى تؤمن بالله الذى لا تراه ، كرّرت هذه الأمم ديدنها واتّخذت أرباباً من دون الله. فأرسل الله سبحانه وتعالى المعجزات كشىء مرئىٍّ ومحسوس كبرهان على وجوده ، ولكن حتى ذلك لم يؤثّر فى تغيير أفكار الناس المجبولة على التعلّق بمادية الأشياء ، فاتّهموا الرسل بالسحر وأشياء أخرى. وكلّما ازداد التفكير الصلب أو المادّى فى أمّة ، سعت هذه الأمّة لعمارة الأرض لإثبات قوّتها ووجودها. وكلّما كانت أقل قدرة على الرقىّ الفكرى والتجريد للمفاهيم من المعلومات أو المحسوسات كلّما ازدادت دلائل قوّتها. واليوم نرى آثار الأهرامات وإرم ذات العماد والبتراء والرومان وناطحات السحاب ولا نرى من إرثهم الفكرى إلا مبدأ القوّة. ولذلك فقد نبّهنا المولى عزّ وجل إلى قلب مفاهيمهم بقوله: "أولم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشدّ منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها ، وجاءتهم رسلهم بالبيّنات"، وعندما طغوا وتساءلوا تساؤل واثق: "من أشدّ منّا قوّة؟" ، ذكّرهم بأنّه الذى خلقهم "أشدّ منهم قوة" ، فانظر إلى البلاغة فى إضافة أشدّ إلى القوّة ، إذ ذاك يدلّ على القوةّ اللانهائية التى لا تحدّها حدود ، فكلما ازدادت قوّتهم كانت قوة الله سبحانه وتعالى أشدّ وأعلى ، وهى دليل على القوة الحاضرة والديمومة والاستمرارية المستقبلية. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه، وهو أدرى بهم ، علمه أنّ بهم ضعفاً ، وأشدّ أنواع الضعف هو الضعف الفكرى ، وهل الحياة وما فيها نتاج شىءٍ غير الفكر؟ يؤمن النّاس بفكرة ما ، ثمّ يلتفّون حولها ويقيمون لها الشعائر والطقوس ويبنون تجسيداً لها ويحاربون من أجلها. ولعلم المولى عزّ وجلّ بجهل الإنسان وضعف قدرته التجريدية وهبه أشياء مادّية يتعلّق بها والمقصود بها رمزىٌّ لا مادِّىٌّ. فأقام بيتاً يحجّ إليه النّاس كافّة ومسجدين تشدّ إليهما الرحال وبذلك قلّل من الأشياء المادّية التى قد يتعلّق بها المرء لأقصى حد. وبرغم ذلك تجد النّاس لا يتأمّلون فى معانى الشعائر ولكنّهم يتعلّقون بالأشياء العينية مثل أستار الكعبة وتقبيل الحجر الأسود ، ويجدون فى ذلك راحة نفسيّة شديدة يبذلون من أجلها الغالى والنّفيس ، بينما لا يصبرون على حاجٍّ إن زاحمهم مع أّنّه المفروض أن يتحلوا بالصبر ، ويجرّبوا الإيثار ، ويتفكّروا فى أنانية المرء يوم الحشر ، وما الحجّ إلا تذكير بهذا الحشر ، أوّ أنّ الحجّ فى ذات نفسه تذكير للأمّة المسلمة بوحدة العقيدة والهدف. وكلّما كانت الأفكار غالبة كلّما تقلّصت الطقوس والمجسّدات للعقيدة والعكس هو الصحيح. والإسلام هو أكثر الديانات تجريداً ولذا فهو أقلّهم طقوساً وشعائر ، وهو الدين الوحيد الذى لا يعتمد على واسطة بين المرء وربّه ، بل هو الدين الوحيد الذى يشجّع كلّ مسلم ليكون إمام نفسه ، لا يلجأ لرجل دين فى شىء إلاّ فى مسألة علم، بينما لرجال الدين فى الديانات المسيحية والوثنية واليهودية دور محورى لتمام التديّن. وقد كانت الكتب السماوية السابقة حكراً لرجال الدين دون الشعب بعكس الإسلام الذى أشاع المعرفة وملّك المعلومة لكلّ شخص وحثّه على الدراسة والتفقّه، حتّى أنّ (جون ويكليف) ، الذى كانت أفكاره بداية الثورة على الكنيسة الكاثوليكية ومهّدت للكنيسة البروتستانية ، ترجم الكتاب المقدّس فى القرن الرابع عشر للإنجليزية العامّة ، حتى يستطيع الناس قراءته مباشرة، حورب واتّهمته الكنيسة بالزندقة وحرقت كتبه ونبشت عظامه وحرقتها فى عام 1428 م. ولكن برغم اكتمال فكر الإسلام فإنّ التديّن ينقص عن المثال، إذ أنّ طبيعة الناس تغلب وكما قيل يغلب الطبع على التّطبّع. وما التزكية التى يتحدّث عنها القرآن الكريم للنّفس إلا التحرّر من التفكير الجامد المادّى للتفكير المجرّد بالبعد عن الشرك بكلّ أنواعه. والشرك بنوعيه الظاهر والخفى تجسيد لنوع التفكير المّادّى. ولا غرو فالمتصوّفة أكثر النّاس استثماراً فى الأفكار وأبعدهم استثماراً فى الدّنيا. وإذا تأمّلنا الحالة السودانية فى مجال العقائد فنجد أنّ الطرق الصوفية كان لها السبق فى نشر الإسلام وتصحيح بعض مفاهيمه وهى وجدت عقائد مسيحية ووثنيّة. ولم تكن الدعوة المهديّة ، وليدتها ، إلاّ تحريراً للعقول من مادّيتها وجمودها ، بعدما تبيّن له أنّ الأفكار لا تطبّق وأنّ التديّن قلّ وصار أوراداً تقرأ وذكراً يقام وولاءً للشيخ ، ممّا أدّى لفصل الدين عن الواقع. والمفارقة المرّة حقّاً أنّه وأد فكره وحوّله لنفس المنظومة فى اتّباع شيخ واحد ، بعد أن أحرق الكتب وألغى بقيّة الطرق الصوفيّة ، فصار أتباعه يعظّمونه كما تعظّم المشائخ ويقرأون ورده كما تفعل بقية الطرق وانزوت حرارة الثورة دفاعاً عن الفكرة وتحوّلت إلى دفاع عن الأسرة. وللإمام المهدى رضى الله عنه مقولتان الأولى هى غرفه من بحر أفكار القرآن والسنّة مباشرة دون اللجوء لجداول اللاحقين، والثانية هى دعوته لعمار الآخرة وخراب الدّنيا. فهل كانت الدعوة المهدية ثورة على المستعمر أم كانت ثورة على المألوف فى زمانه؟ المتتبّع لسيرته يجده يختلف مع أساتذته لأنّهم ، فى ظنّه ، غلّبوا المظهر المادّى على الروحى والفكرى. وهو لم يجد حظّاً أفضل فى كسب عيشه لأنّ درجة صفائه الفكرى المجرّد وانعدام المادّية فى نفسه حتى مرحلة المجازفة بحياته ، جعلته لا يبيع حطبه ، لأنّه قد يوقد لصنع الخمر ، أو استخدامه للطعم لصيد السمك ، لأنّ فى ذلك غشّاً. هذا ديدن رجل ركل الدّنيا برجله وتعلّق قلبه بالأفكار والذكر ولكنّه ديدن رجل عرف أنّ هناك مفارقة لا تخيب وهى أنّ قمّة التفكير المجرّد ، وهى التوكّل على الله سبحانه وتعالى يعقبه مددٌ مادِّىٌّ وبذا تكتمل الدائرة. ألم يقل المولى عزّ وجل: "فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً، يرسل السّماء عليكم مدراراً ، ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جنّاتٍ ويجعل لكم أنهاراً" ، فانظر إلى ربط الاستغفار ، وهو فكرة مجرّدة لشىءٍ لا تراه ، بالعائد المادّى!! فما الذى دهى رجالات الطرق الصوفية ، وهم الذين تبنّوا حكمة أنّ الدنيا آخرها كوم تراب ، وجعلهم يستكينون للوضع آنذاك وأتباعهم مستعمرون؟ وما الذى دعا أستاذه الشريف محمد نور الدائم لمحاربته؟ هذا ما سنتناوله فى الحلقة القادمة بإذن الله ودمتم لأبى سلمى.